• - الموافق2024/11/28م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
رأسمالية المراقبة.. عندما تصبح أسرارك تجارة رابحة

مزقت وسائل التواصل الاجتماعي هذا الحاجز الذي كان يميز حياة كل إنسان، وأصبح ما يعرف بـ"رأسمالية المراقبة" إحدى وسائل التجارة الحديثة، حيص سلعتها الرئيسة هي جمع تلك البضاعة الرائجة والملقاة على قارعة طريق وسائل التقنية الحديثة، والتي هي معلوماتك الشخصية الت


في عصر أصبح أكثر الناس يفصحون عن أخص معلوماتهم الشخصية بكل سهولة ويسر، وأحيانًا تنتاب حالة النشر هذه سعادة غامرة إذ مشاركة الأسرار وتفاصيل الحياة أصحبت جزءًا من الواقع اليومي للكثيرين وللبعض صارت تعبر عن الوجود نفسه.

لقد مزقت وسائل التواصل الاجتماعي هذا الحاجز الذي كان يميز حياة كل إنسان، وأصبح ما يعرف بـ"رأسمالية المراقبة" إحدى وسائل التجارة الحديثة، حيص سلعتها الرئيسة هي جمع تلك البضاعة الرائجة والملقاة على قارعة طريق وسائل التقنية الحديثة، والتي هي معلوماتك الشخصية التي نشرتها عن نفسك.

تذكر وكالة الأسوشيتيد برس مؤخّرًا أن بإمكان جوجل تحديد موقعك حتى عند إغلاق هاتفك. وتستطيع شركات قواعد البيانات على الإنترنت العملاقة تتبّع عنوانك وأرقام هواتفك وعناوين بريدك الإلكتروني وحساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي وأفراد أسرتك وجيرانك وتقارير حساباتك وعقاراتك وكل حالات الإفلاس والعجز عن السداد التي عانيت منها والأحكام القضائية الصادرة بحقك وأيّ سجل جرمي ربما ارتكبته على مدار السنين.

رأسمالية المراقبة هذا المصطلح الحديث والجديد في استعماله هو وصف دقيق لعملية شاملة من المراقبة هدفها الأساس هو الربح عن طريق التحكم في أمناط السلوك البشري وتحويله إلى سلعة.

تقوم هذه الشركات بعمل ما يعرف بالتحليل التنبؤي للكثير من المعلومات التي تصف حياة وسلوك مئات الملايين من الناس، ما يسمح بتحديد الروابط والأنماط السلوكية، والاستدلال على المعلومات المتعلقة بالأفراد، والتنبؤ بسلوكهم المستقبلي.

يشار هنا أن أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة هارافارد شوشانا زوبوف هي أول من صاغت هذا المصطلح بالإنجليزية في 2015[1] وإن كان مضمون تلك التجارة وأنماطها يمارس من قبل ذلك الزمان ببعيد.

تشتمل رأسمالية المراقبة بعد الحصول على المعلومات وتحليلها، «محاولات للتأثير على هذا السلوك المستقبلي من خلال إعلانات موجهة خصيصًا للأفراد، وذات فعالية عالية في التأثير فيهم» .ويتم تطوير هذا المنهج في «الإعلانات القصدية» عبر «اختبار العديد من الإعلانات المتنوعة على نطاقات ديموجرافية -تجمعات سكانية- مختلفة، لمعرفة ما هو الأسلوب الأكثر نجاحًا[2]

 

هذه الشركات تستطيع أن تملي عليك مستقبلاً ما يجب أن تقوم به، وأنت ما عليك ألا أن تقوم بما أملته عليك، وستنفذ طوعيًا ما تقترحه أو تفرضه شركات التقنية عليك هذه الشركات التي تعمل وتسخر جهودًا جبارة لا لتوقع ما ستقوم به فحسب، بل لتعديل سلوكك قسرًا وفقًا لما تراه هذه الشركات مفيدًا لها ولأرباحها

لا يبحث عمالقة الويب عن التقاط حياتنا وكشفها وإلباسها لبوس العملة النقدية والتعامل المالي كأقصى ما يتطلعون إليه، بل تجدهم يبحثون أيضًا عن التنبؤ بسلوكياتنا والتأثير فيها؟ تلك هي الفرضية القوية التي تقدمها الجامعيّة الأمريكية شوشانا زوبوف في كتابها الذائع الصيت الذي يحمل عنوان "عَصرُ رأسمالية المُرَاقَبة"[3]

مثال يوضح المقصود فقد اكتشفت شركة جوجل أن عمليات البحث التي أجراها مستخدموها يمكن استخدامها لبيع الإعلانات المستهدفة. فبدأت في استخدام البيانات الشخصية لإنشاء ملفات تعريف دقيقة للمستخدمين الفرديين وبيع هذه المعلومات لأطراف ثالثة.

اتضح لجوجل أن هذا نظام عمل مربح بشكل لا يصدق. بينما كان دخل جوجل 19 مليون دولار في عام 2000، لكن بحلول عام 2004، كانت الشركة حققت أرباحًا بمقدار 3.2 مليار دولار. لقد تعلمت جوجل كيف تحول معلومات المستخدمين لمنجم من الذهب، ثم سارعت الشركات التكنولوجيا الحديثة بالتقاط أطراف اللعبة وسعت إلى مشاركة جوجل تلك الكعكة الرائجة والغنيمة الباردة.

لقد تعلمت الشركات والصناعات غير الرقمية أن هذه الأسلوب لم يمكن أن يمر من دون أن تشارك هي الأخرى تلك الأرباح الكبيرة، فقد أصدرت شركة Nike على سبيل المثال مؤخراً أول أحذية ذكية لها، ويفترض أن تتمكن من الحصول على نسبة في تجارة البيانات الحديثة.

ولكن كيف تفعل الشركات ذلك:

تقوم شركات الذكاء الاصطناعي ببناء قواعد بيانات متكاملة عن المستخدمين من خلال البيانات التي تصف أنماط حياتهم وسلوكياتهم، وهو ما يسمح بتحديد الروابط والأنماط السلوكية، واستخدام آليات الاستدلال على المعلومات المتعلقة بالأفراد، ثم وضع التنبؤات المستقبلية بسلوكهم المستقبلي. بل وتحسين تلك التنبؤات ذاتها من خلال عملية مسبقة تقوم من خلالها بالتأثير على توجهات المستخدمين وسلوكياتهم، وهو ما يمكن التعبير عنه بمصطلح "التشغيل"، وهي عملية تقوم من خلالها شركات التكنولوجيا بمحاولة تشكيل سلوك المستخدمين، وتنميطه، وضبطه وتعديله وتوجيهه في اتجاهات محددة من خلال تنفيذ مجموعة من الإجراءات الدقيقة والمستهدفة، مثل إدراج عبارات معينة في موجز الأخبار في الفيسبوك، أو التحكم في توقيت ظهور زر الشراء لمنتجات معينة، أو إغلاق محرك السيارة بشكل تلقائي في حال التأخر عن دفع مبلغ التأمين.

يقول عالم النفس سكينر: إن الاعتقاد بوجود إنسان حر تمامًا في حياتنا المعاصرة هو وهم كبير في ظل عالم متناغم يعمل من خلال منظومة تخضع للتحكم الكامل. فصناعة التكنولوجيا تعمل على تطوير وسائل تعديل السلوك كما وصفها "سكينر". علمًا بأن ذلك النظام الجديد الناشئ ليس شموليًّا أو سلطويًّا، إذ ليست هناك حاجة للعنف أو فرض التوجهات الأيديولوجية. بدلًا من ذلك، تتمثل آلية فرض الهيمنة من خلال (الأدواتية) حيث تستخدم تلك الشركات أساليب المراقبة والتحفيز اليومي من خلال الإعلانات والمنشورات التي تستهدف الأفراد بشكل فردي أو جماعي لتوجيههم في الاتجاهات التي يفضلها أولئك الذين يسيطرون عليها. مثال على ذلك: الجهود التي تقوم بها الصين لتطبيق نظام الائتمان الاجتماعي الجديد، والذي يستهدف الأفراد من خلال مراقبة وتتبع سلوكيات الأفراد وأصدقائهم والجوانب الأخرى من حياتهم، ثم يعيد استخدام تلك النتائج لتحديد وصول كل فرد إلى الخدمات والامتيازات التي يحتاجها.[4]

هذا هو المقصود برأسمالية المراقبة. التي يمكن وصفها بأنها حقبة جديدة في تاريخ الرأسمالية حيث تسير المراقبة والأعمال جنبًا إلى جنب – حيث البيانات هي السلعة الأكثر قيمة في الاقتصاد - والتي في النهاية تحول بيانات المواطنين إلى منتجات تباع وتشترى.

هذه الشركات تستطيع أن تملي عليك مستقبلاً ما يجب أن تقوم به، وأنت ما عليك ألا أن تقوم بما أملته عليك، وستنفذ طوعيًا ما تقترحه أو تفرضه شركات التقنية عليك هذه الشركات التي تعمل وتسخر جهودًا جبارة لا لتوقع ما ستقوم به فحسب، بل لتعديل سلوكك قسرًا وفقًا لما تراه هذه الشركات مفيدًا لها ولأرباحها خاصة من خلال قدرات التسييل النقدي للبيانات.

وهكذا حولتنا وسائل التواصل الاجتماعي إلى سلع تباع وتشترى، وتدخلت في خصوصياتنا حتى جعلتنا نرسل لها وعن طيب خاطر كل معلوماتنا ماذا نأكل وماذا نلبس مع من نتحدث من أقرب وأصدقائنا وماذا نفكر في المستقبل، لقد أصبحنا أرقاء لوسائل التقنية الحديثة، وشركاتها تتلاعب بنا كيفما تشاء، وتبيعنا لمن يدفع لها أكثر، لقد أصبحنا نحن السلعة، وأضحت الحرية الحقيقة اليوم هي التحرر من أسر تلك التكنولوجيا وفضح وسائل تغلغلها داخل مجتمعاتنا.


 


[1] أسرار رأسمالية المراقبة، الجميع أصبح مواد خام!، الخميس 10 مارس 2016، https://arabic.arabianbusiness.com/technology/409153

[2] فيس بوك المظلم، شوشانا زوبوف، https://shoshanazuboff.com/book/dark-facebook/

[3] أستاذة شرفية بمدرسة هارفارد للأعمال، كانت من بين أوّل من أدرك حجم التحولات التي أحدثتها المعلوميّات وسيادة الخاصية الربوتية داخل عالم الشغل، وبعد إصدارها لكتابها الذي يحمل عنوان "في عصر الآلة الذكية: مستقبل الشغل والسلطة" In The Age Of The Smart Machine: The Future Of Work And Power, Basic books 1988، جاء آخر كتاب لها حاملا لعنوان: The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power (عصر رأسمالية المراقبة، معركة لأجل مستقبل إنساني والحد الجديد للسلطة)، وهو كتاب يوجد في طور الترجمة إلى اللغة الفرنسية، وسيصدر عن دار النشر Zulma.

[4] كتاب "رأسمالية المراقبة: أبعاد الصراع التكنولوجي على تشكيل سلوك المجتمعات" تأليف، شوشانا زوبوف شوشانا زوبوف، عرض سارة عبدالعزيز.

 

أعلى