لا يمكن للانتصارات الأولية أن تنبئ بمعركة سهلة، فكثيرًا ما تهيئ لهزائم في المستقبل، ولا يمكن لحرب قامت بأهداف ساذجة وسطحية أن تكتسب تضامنًا واسعًا يكسبها الشرعية، العواقب في الحروب دائما غير مضمونة
حينما قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يغزو أراضي أوكرانيا، كان رهانه على أن
قرار الحرب، أو "العملية العسكرية الخاصة" وفقاً للتسمية الروسية، نابعًا من أسباب
جوهرية ودوافع مصيرية تقتضي التضحية بأرواح الجنود الروس والدفع بجزء كبير من
الترسانة العسكرية لبلاده إلى المستنقع الأوكراني، إلا أن استجابة الأوكرانيين على
الأرض عكست وقائع قاتمة مخالفة لما ظنّه الروس قبيل بدء الغزو، إلى جانب حالة
التجاسر من الدول الغربية التي وقفت في صف كييف وانتهزت الفرصة لفرض العقوبات على
موسكو. الآن وبعد مرور أكثر من 5 شهور من حالة الـ "لا نصر" والـ "لا هزيمة"، ربما
بات على الرئيس الروسي أن يفكر ـ ولو في هذا الوقت المتأخر من اتخاذه للقرار ـ في
خطة بديلة، هل أخطأ بوتين في حساباته ورهانه الجيوسياسي قبيل غزو أوكرانيا وبات
عليه أن ينهي هذه الحرب الآن، أم أنه سيواصل الحرب مهما كانت كلفتها ونتائجها غير
المعلومة؟، هل يستطيع الروس الابقاء على دينامية هذه الحرب بغض النظر عن تداعياتها
الخطيرة التي ربما لم تظهر بعد؟
تسبب
الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية في تحريك خرائط أوروبا وإعادة تموضع قواتها،
حدثت حالة من الارتباك كانت أشبه ما يكون بالعودة إلى زمن الحرب الباردة، الارتباك
أصاب التحالفات الأمنية التي هرع أطرافها إلى تقويتها، والميزانيات العسكرية التي
بدأ الجميع يفكر جديًا في زيادتها، كما تأثرت التجارة الدولية والتدفقات المالية
بسبب العولمة والتشابك الاقتصادي المعقد بين الدول، حتى أصبح من يقطن على أطراف
الأمازون يشعر بتبعات الحرب شأنه شأن من يسكن على ضفاف الدانوب في رومانيا المجاورة
لأوكرانيا، لا شك أن الضرر الأكبر يقع على الطرفين المتحاربين في المقام الأول، إلا
أن الروس ـ وهم الذين كانوا في غنى عن هذه الحرب من الأساس ـ قد تكون الأضرار عليهم
كبيرة، كونها غير قابلة للتعويض في المستقبل القريب مهما كانت نتيجة الحرب، فبغض
النظر عن القرار الاستراتيجي الخاطئ ببدء الحرب منذ لحظتها الأولى، فقد انتهك بوتين
القوانين الدولية التي تحرّم استخدام القوة ضد وحدة أراضي دولة أخرى، بدأ في
استخدام تبريرات غير منطقية، كأن يتم وصف الغزو بأنه حرب ضد النازية الجديدة، أو
أنه دفاع مقدّس عن الوطن الأم في مواجهة حلف شمال الأطلسي.
هذه التبريرات الجوفاء كانت جزءًا من براهين وهمية يصرّ الروس على أنها كافية لشنّ
حرب، حاول الروس أعادة استخدام سيناريو طلب الدعم والحماية، والذي سبق وأن تم
افتعاله مع النظام السوري من أجل تسهيل دخول القوات الروسية إلى الأراضي السورية،
فروّج الروس إلى أن سكان القرم ودونيتسك ولوغانسك يطالبون موسكو بدعمهم وتحريرهم
وحمايتهم، إلا أن النجاح في التهام شبه جزيرة القرم وضمّها إلى روسيا، لا يضمن
بالضرورة النجاح في التهام أوكرانيا بأكملها، لقد ظّن بوتين أن عملية تحديث جيشه
وإعادة تسليحه التي بدأها في عام 2008م، ستضمن له الانتصار السريع في أوكرانيا
مثلما حدث الأمر في بقاعٍ أخرى، يخطئ القادة أحيانا حين يقيسون قوتهم العسكرية
بأعداد حاملات الطائرات والغواصات والمقاتلات المتطورة والقنابل الفتاكة، يقللون من
أهمية المقاومة الوطنية في تحفيز الناس على القتال والموت في سبيل أرضهم، كان على
بوتين أن يقرأ ما آلت إليه حرب الهولنديين في إندونيسيا (1949)، أو الفرنسيين في
الهند الصينية (1954)، وكذلك في الجزائر (1962)، والأمريكيون في فيتنام (1975).
غالب الظن أن بوتين اتخذ قرار الحرب منفردًا، أو على الأقل محاطًا بالمستشارين
المقربين المتواطئين بالصمت مع كل ما يفكر ويأمر به، وكان واضحًا أنه قام بعزل 8
جنرالات و150 مسؤولًا كبيرًا في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، كما انتقد بشدة مدير
جهاز الاستخبارات الخارجية، سيرغي ناريشكين، علنًا على التلفاز بسبب تعارض وجهتي
النظر فيما يخص الحرب، في ظروف كهذه يتوقف الباقون عن مجرد ابداء الرأي خوفًا على
مناصبهم، يبدو أيضا أن بوتين لم يتشاور مع أصدقاء موسكو الاستراتيجيين، مثل الصين
والهند، حيث أعرب الرئيس الصيني عن "ألمه لرؤية نيران الحرب تستعر مجددًا في
أوروبا"، فيما أصدرت الحكومة الهندية بيانًا حادًا على غير العادة، أكدت فيه على
ضرورة الحفاظ على مبدأ السيادة الوطنية للدول، فيما أدانت دول مقربة من روسيا مثل
صربيا وقرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان، الغزو الروسي على أوكرانيا.
لو تمعن بوتين قليلًا في تاريخ خصمه اللدود، الولايات المتحدة الأمريكية، لتعلم
درسًا مهمًا من تاريخ حروبها في القرن الواحد والعشرين، فبالرغم من أن واشنطن لديها
أكبر ميزانية عسكرية في العالم، وتمتلك كذلك ترسانة نووية متقدمة وأكبر عدد من
القواعد العسكرية الموزعة على قارات العالم، ناهيك عن التقدم التكنولوجي العسكري
والتفوق الاستخباراتي، إلا أنها أخفقت في كسب أي من حروبها، غرقت قواتها على
ضخامتها في مستنقعات طويلة الأمد، تطلبت وجودًا عسكريًا مكلفًا، وتكبدت خسائر بشرية
ومادية ضخمة، وبقدر ما كانت الخسائر أكبر، كان الإصرار الأمريكي على أن النصر
يقترب، إلا أن النهاية كانت صادمة في فيتنام وكوريا والعراق وأفغانستان وأماكن أخرى
عديدة، وسواء حاربت أمريكا بجنودها أو بالوكالة، كان القادة الأمريكيون يفترضون
دائما أن تفوقهم العسكري سيجعل المعركة سهلة ومضمونة، ورغم إحراز انتصارات في ساحات
المعارك، كان الجيش الأمريكي يفشل في نهاية المطاف في تحقيق الأهداف المعلنة، وما
حدث في أفغانستان ليس ببعيد مكانيًا أو زمانيًا عن بوتين، فالدولة التي غزتها
الولايات المتحدة ذات يوم، ودمرتها وسيطرت على عاصمتها كابول، غدت اليوم وبعد نحو
عقدين من غزوها، تحت سيطرة حركة طالبان، التي جاءت أمريكا في الأساس للقضاء عليها.
لا
يمكن للانتصارات الأولية أن تنبئ بمعركة سهلة، فكثيرًا ما تهيئ لهزائم في المستقبل،
ولا يمكن لحرب قامت بأهداف ساذجة وسطحية أن تكتسب تضامنًا واسعًا يكسبها الشرعية،
العواقب في الحروب دائما غير مضمونة، فعندما ظنَّ الأمريكيون في أفغانستان أنهم
يحررون الأفغان من قبضة طالبان، كان القصف الجوي المكثّف بطائراتهم يقضي على الأخضر
واليابس على الأرض، دفع الدمار آلاف المزارعين وأصحاب المهن والمتاجر ممن خسروا كل
شيء، إلى الانضمام إلى ميليشيات المقاومة، وعلى رأسها حركة طالبان ذاتها، هذا
الواقع تكرر نفسه في العراق، وفي كل مكان جاءته القوى الغازية المعادية التي يمكنها
أن تهزم الجيوش النظامية، لكنها تستنهض مقاومة وطنية قلّما تستطيع أن تهزمها، من
الواضح الآن أنّ كلفة الحرب باتت أكبر من أيّ مكاسب مرتجاة منها، إلا أن رئيسًا
عنيدًا مثل بوتين، في دولة يغلب عليها القمع والديكتاتورية، قد لا يعترف بتلك
الحقيقة مهما كلّفه الأمر.
من تقاليد الحروب أن تنتهي دائما بطرف خاسر وآخر منتصر، فيمضي الخاسر يلملم جراحه
ويحصي خسائره، فيما يسير المنتصر مزهوًا بما حققه من نتائج ومكاسب ملموسة على أرض
الصراع، ومن المفترض أن تكون الحرب الروسية على أوكرانيا كسائر الحروب، بحيث تخضع
في نهايتها إلى هذا التصنيف، إلا أن هذه الحرب المستمرة حتى الآن والمليئة
بالمفاجآت مع صبيحة كل يوم، يبدو أنها ستكون بلا منتصر، فجميع الأطراف خاسرة حتى
الآن، وحتى من التزموا الحياد يعانون من تأثيرات الحرب على اقتصادهم، لقد انتهى زمن
الحروب التي ينتصر فيها منتصر، وبات على كل المتحاربين أن يعانوا من ويلات المعارك.