من الصعب جدا التنبوء بمآلات الإتجاهات المستقبلية للراهن السياسي المتشابك والخطير في الخرطوم فليالي السياسة السودانية حُبالى مُثقلاتٍ يلدّنَ كل عجيب.
لا يبدو أنّنا كسودانيين موعودون بالحلقة الأخيرة من المسلسل المكسيكي الطويل
والممل من الأحداث السياسية الجارية في المشهد السوداني منذ قرابة الثلاثة سنوات،
دون أن يجني الشارع العادي ثمار ثورته العاتية التي انطلقت في ديسمبر 2018 ومهرتها
دماء الشهداء الشباب الذين لا يزالون يقدمون أنفسهم فداً في سبيل ترسيخ التغيير
بمعناه الحقيقي.
ومن الصعب جدا التنبوء بمآلات الإتجاهات المستقبلية للراهن السياسي المتشابك
والخطير في الخرطوم فليالي السياسة السودانية حُبالى مُثقلاتٍ يلدّنَ كل عجيب.
غير إنه من نافلة القول ابتداءً أن المعادلة الحالية لا تخلو من مخاطر تتجاذب
البلاد بين قوى الثورة والمكونات السياسية والعسكرية والحركات المسلحة والحركات
المطلبية التي بدأت تتنامى في شرق السودان وشماله وهي مخاطر تجعل البلاد فوق فوهة
بركان إن لم يتداركها العقلاء من أبناء الشعب السوداني فلا يجب أن تكون الهرولة خلف
المناصب ومحاصصات السلطة والثروة هي سدرة المنتهى في غياب مشروع مصالحة وطنية لازمة
ومُلزِمة للجميع.
نحن.. وكرة الثلج
مشكلتنا التاريخية شئنا أم أبينا أنّ درجة الوعي الوطني لدينا في أدنى مستوياته،
بينما ترتفع عندنا آفة المصالح الشخصية والذاتية على حساب المصلحة العامة المُفترى
عليها هذه حقيقة قاسية ولكن يجب أن تُقال، فالجميع في هذا السودان المكلوم بأبنائه
يُفسِّر المصلحة الوطنية وفق التخريجات التي تخدم المصالح الذاتية حتى باتت كرة
الثلج تتدحرج بنا منذ بواكير العهد الوطني إلى هذه الأيام المفصلية الحرجة من عمر
البلاد والصراع فيها محتدم والاستقطاب خطير والجميع يلهثون لكسب الجولة حيثما اتفق
وكيفما اتفق.
ولك أن تتأمل معي في فذلكة تاريخية قصيرة أنّ الأميرالاي عبد الله خليل ترأس
الحكومة بعد الاستقلال عن حزب الأمة وبطريقة او بأخرى فسّر المصلحة الوطنية من وجهة
نظره بأنه من الأفضل أن ينهي الفترة المدنية القصيرة بعد الاستقلال بعام واحد وعشرة
شهور ويسلم الحكومة المدنية الوليدة إلى قائد الجيش وقتها الفريق عبود في نوفمبر
1958م ومنذ ذلك الوقت استنّ المدنيون سنتهم التي طالما حاقت بهم في الإلتجاء للعسكر
الذين استمرأوا نعومة ديباج السلطة فاختطفوها طويلاً منذ عهد عبود إلى عهد البرهان
مروراً بالنميري والبشير باستثناء سوار الذهب العسكري المدني الوحيد إن جاز
التعبير.
هكذا استدعى المدنيون العسكريين باكراً للحكم، والإنقلابات العسكرية كثيراً ما تأتي
في السودان مسنودة بالمدنيين بسبب تصفية الحسابات والغبن السياسي، ولذلك جمهوريات
العسكر لا تكاد تنتهي في مقابل الفشل المدني الذريع عبر كل الحقب، والواقع اليوم
ينبئ أنّ الجيش لن ينسحب قريباً من المشهد السياسي وروليت السلطة والثروة في
السودان.
إنّ كافة الثورات التي فجرها السودانيون في الشوارع تختطفها الأحزاب بلا استحياء
نهاية المطاف ليتقدم مننسبوها حتف الأنوف ثم لا يقدمون لأصحاب الثورة الحقيقيين غير
الأوهام الكبيرة أو يمهدون بصراعهم المزمن خلف الكراسي يمهدون الطريق لانقلاب جديد
في دورة خبيثة تُطبق براثنها جيداً في الجسد السوداني الكسيح. وكما جاءت أول حكومة
عسكرية في تاريخنا الوطني بعد الاستقلال بدعوة رسمية من عبد الله خليل رئيس الوزراء
للفريق عبود قائد الجيش لكن الثابت ان كل ثوراتنا المدنية لا تكتمل ما لم تعزف
القوات المسلحة موسيقاها العسكرية منذ اكتوبر فلولا الجيش ما نجحت أكتوبر وحتى عهد
النميري لولا انحياز سوار الذهب ما نجحت أبريل 1985، ولولا انحياز الجيش ما ذهب
البشير والإسلاميون من سدة الحكم بعد ثلاثين عاماً من العزلة الإقليمية والدولية
التي دفع ثمنها المواطن البسيط.
الحلقة الأخيرة:
أسوا ما أفرزته المرحلة الانتقالية الحالية هو الاستفزاز الشديد الذي تعرضت له
القوات المسلحة الذي ارتضى الجميع في قوى الثورة مشاركتها منذ أول دقيقة في الوثيقة
الدستورية، وربما قلة الرشد السياسي الذي صاحب حكومة حمدوك السابقة بكل ضعفها تغيبت
معه حنكة إدارة المرحلة نحو غاياتها الاستراتيجية المتعلقة بأمان السودان لا
الإنصراف لقضايا خلافية ليس الوقت وقتها، كما أنّ أنكأ ما عانته المرحلة الحالية هو
إستفراد بعض القوى بالسلطات وإقصاء الشركاء بينما المواطن يُكابد الغلاء والندرة،
مما عجل بقرارات البرهان الاخيرة التي أقالت حمدوك ثم أعادته بصفقة سياسية لم تتضح
معالمها السرية حتى اليوم.
للأسف لا يزال الأمر طي المخاطر والاستقطاب الحاد وتخوين الآخر هو سيد الموقف
حالياً، ولا تزال كرة الثلج تتدحرج و.. ربما سنصحو ذات صباح باكر على وقع الموسيقى
التصويرية للحلقة الاخيرة التي ستنهي مسلسل الاحتقان الطويل والخطير لصالح
العسكريين بحكومة عسكرية قابضة كما هو معتاد منذ فجر استقلال السودان، فلا تزال
أرضية الديمقراطيات السودانية تعاني الهشاشة.