يشهد الزمان بمدى الإخاء المتبادل بين أهالي الأرضين على مختلف الأزمان
هي الأوتاد الثابتة في جوف أمة الإسلام لا تنخلع ولا تلين مادام هذا الجوف صلباً
متماسكاً، بل وتخبر من تجرأ على نزعها أن (حدها مسنون)، فهذه الأوتاد الراسخة هي
دين وتاريخ وعقيدة وإنسانية، نعم، إنها روابط الإخاء بين بلدين هم الأقدس على الكرة
الأرضية برمتها، أرض المعراج (فلسطين) وأرض الحرم (السعودية)، فمع زيادة أصوات نعيق
الغربان التي تحاول ضرب أوتاد الإخاء هذه بأسافين من الفتنة والتهم الباطلة وإثارة
الشائعات، تأتي الصواري ممدودة من الأجواف تؤكد أنهم (الأشقاء).
نبدأ إبحارنا في عباب بحر الإخاء والفداء بين البلدين، مستوقفين على افتتاحية سورة
الإسراء في كتاب الله تعالى إذ قال ربنا:
}سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا،
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{
[الإسراء:
1]،
ولا يزال المؤمنون يقرأون هذه الآية أبد الدهر إلى أن يشاء ربنا سبحانه أن يُرفع
الكتاب من الأرض، ومع كل قراءة لهذه الآية لابد على المؤمن أن يستشعر أن أرض
المعراج وأرض الحرم قد جُمع بينهما في أعظم كتاب على وجه الأرض.
أما إذ أبحرنا في التاريخ، فسيطول بنا الإبحار ماضياً بعيداً وماضياً قريباً
وحاضراً وكذلك إن شاء الله مستقبلاً، فلا تزال أرض فلسطين تعبق بدماء المجاهدين
الأبطال ممن جاءوا متوشحين سلاح العزم والتضحية من أرض الحرم إلى أرض المعراج نصرة
ودفاعاً، فإذا دخلت فلسطين من شمالها سيشهد اليرموك على أرضٍ احتضنت عياش ابن ربيعة
وسالم ابن هشام وعكرمة ابن عمرو ابن هشام قادمين من أرض الحرم إلى أرض المعراج في
واحدة من أعظم معارك الفتوحات الاسلامية، وقسّ على ذلك عدداً لا حصر له من الصحابة
والتابعين الذين نفروا من مكة والمدينة وجوارهما إلى أرض فلسطين ليجاهدوا فيها
ويستشهدوا، ويظل المارون على هذا الثرى إلى يومنا هذا يترحمون عليهم ويأخذون
أسمائهم بيارقاً شامخة في سماء أمجادنا.
ويمكن أن نقول أن هذا جزء بسيط من ماضي بعيد لا ينفك عنه الماضي القريب الذي تعبق
به أرض المعراج مخبرة عن حبها لأبناء أرض الحرم، فهذه شواهد المعارك وكذا شواهد
قبور الشهداء الذين جاءوا لقتال الإنجليز واليهود من أرض الحرم، فمع بداية الاحتلال
الصهيوني لأرض فلسطين أمر الملك عبد العزيز آل سعود بإرسال الأسلحة وفرق من
المجاهدين السعوديين الذين كان أغلبهم متطوعين وقد بلغ العدد الإجمالي لهم ما يقارب
(3200) مجاهد، منهم من قضى نحبه ومنهم من عاد إلى أرض الحرم بعد الحرب وسرعان ما
حركه الشوق للعودة للجهاد على أرض المعراج في حرب 1967م.
ولا يزال الناس في أرض المعراج يخبرون بمدى حبهم لأهل أرض الحرم، ففي جلسة سمر على
شاطئ بحر غزة، أخذ الحاج أبو محمود أبو عمرة يتحدث عن كرم وجود أهل أرض الحرم،
ليوافقه رأيه الحاج أبو براهيم النجار قائلاً: (كنت أعمل في السعودية كمدرس، وإني
لست أبالغ حينما أقول أنني لم أشعر بالغربة البتة رغم أن البلدين يفصلهما بلاد
وبلاد)، وما ينفك الشاب مصطفى عن الحديث عن ذكرياته وطفولته التي قضاها في أرض
الحرم، وكيف كانت نظرات البطولة تتوجه إليه من زملائه فقط لأنه (من أرض المعراج)
بالرغم من أنه ولد في أرض الحرم ولم يأتي إلى فلسطين إلا قبل سبع سنوات فقط!!.
كما يشهد الزمان بمدى الإخاء المتبادل بين أهالي الأرضين على مختلف الأزمان، ولعل
مناسبة هذا المقال أن الأفواه التي تنعق بما يُصدع هذا الإخاء لابد أن تجد نفسها
أمام الحقيقة التي يكرهونها، ألا وإن موعد الإخاء الحقيقي سيتجدد _بإذن الله تعالى_
عندما تُقدم أمة الإسلام تحت راية الإمام المهدي المنتظر تسير من أرض الإسراء إلى
أرض المعراج، وإن غداً لناظره قريب.