• - الموافق2024/04/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الجنرال الغامض!

الجنرال الغامض!


في صباح يوم الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، كان الجنرال جالسا في مبنى الكابيتول وهو المقر الرئيسي للسلطة التشريعية الفيدرالية (الكونغرس) في الولايات المتحدة الأمريكية، يتناول الفطور مع كل من رئيسي لجنتي الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب في أمريكا، يتحدثون حول الارهاب وأسامة بن لادن، ودافع الجنرال بحرارة عن طالبان وعن الملا عمر ووصفه بأنه شخص متدين وورع وليس رجلا عنيفا، وأن من مصلحة أمريكا الاتفاق معه، وأثناء الحديث تم ابلاغ الحضور أن هجوما قد وقع على البرجين بواسطة طائرات، وأن إحدى هذه الطائرات في طريقها الى مبنى الكونجرس مما يتطلب اخلاءه فافترق الحضور.    

كان هذا هو الليفتانت جنرال أو الفريق محمود أحمد رئيس المخابرات العسكرية الباكستانية في الفترة من 1999 حتى 2001، وهي الفترة التي تولى فيها إدارة المخابرات الباكستانية، حيث تعطينا ملمحا عن بعض خصائص شخصية رجل من ضباط الجيش الباكستاني يؤثرون بطريقة كبيرة في صناعة القرار الباكستاني في أحلك لحظات باكستان، وقبل ذلك كله يلقي الضوء على موقع المخابرات الباكستانية ودورها في صنع القرار السياسي الباكستاني.

فالفريق محمود كما تصفه المصادر الصحفية الباكستانية، رجل مربوع القامة يمتلك شاربا كثا طويلا وكان قاسيا وطموحا للغاية، ولم يكن محبوبا بين زملائه من الضباط بسبب قسوته وغطرسته. 

كان قائدا للفيلق العاشر في الجيش الباكستاني المتمركز في مدينة روالبندي ثاني أكبر المدن الباكستانية، وهي احدى فرقتين تمردت على إقالة قائد الجيش الباكستاني برويز مشرف من قبل رئيس الوزراء نواز شريف عام ١٩٩٩، وسارع الجيش إلى اعتقال شريف ووضعت مشرف على رأس الحكم الباكستاني، وبعدها كان يوصف الجنرال محمود حينئذ بأنه أحد المخلصين لمشرف الذي كافأه بوضعه على رأس أحد أهم أجهزة المخابرات الباكستانية، ليصعد الجنرال ليكون بمثابة أقوى ثاني رجل في النظام.

بعد توليه مسئولية المخابرات قامت المخابرات الأمريكية بترتيب زيارة للجنرال محمود رغبة في التعرف وإقامة علاقة معه، ولقي محمود ترحيبا حارا به وفي نهاية الزيارة تلقى الجنرال محمود انتقادات من توماس بيكرينج مساعد وزير الخارجية الأمريكي حينذاك بسبب المساعدة التي تقدمها المخابرات الباكستانية لنظام طالبان، وعاد محمود إلى باكستان غاضبا وشاعرا بالإهانة.

ثم نأتي الى الزيارة الثانية لواشنطون وهي التي تحدثنا عن جزء منها في بداية المقال، والمثير وللمصادفة العجيبة أنها كانت قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر بأسبوع، ونتيجة لهذه الأحداث مُدت الزيارة إلى يوم السادس عشر من سبتمبر.

يقول جورج تينيت رئيس المخابرات الامريكية وقت حدوث هجمات سبتمبر، في مذكراته عن هذه المقابلة مع محمود: اجتمعت به على الغداء في 9 سبتمبر 2001 أي قبل ضرب الأبراج بيومين، وحاولت الضغط عليه بخصوص الملا عمر لتسليم بن لادن، فأكد لنا محمود أن الملا عمر يريد الأفضل للشعب الأفغاني، قلنا له حسناً لكنه يؤوي رجلا أنشأ ملاذا لتدريب الإرهابيين الذين يقتلون العاملين في السفارات الأميركية والبحارة الأميركيين، في الواقع كان الدفاع عن الملا عمر أمرا معهوداً عنه كما يقول تينيت، وقد أبدى الرجل لطفاً شديدا في مائدة الغداء لكنه لم يتزحزح في ما يتعلق بطالبان والقاعدة، بل كان مجرّداً من العاطفة والشعور أيضاً على حد وصف تينيت. ثم يرجع تينيت بالذاكرة إلى الوراء، وكما يقول بعد هجوم الانتحاريين التابعين لبن لادن على المدمرة الأميركية كول، أرسل محمود إلى كبير ضباطنا في إسلام أباد رسالة محدّدة الكلمات بالضبط نقلت تعازيه بالخسارة في الأرواح، من دون التعرض ولو بكلمة تأييد واحدة إلى ملاحقتنا القاعدة في عرينها الأفغاني، ويرجع تينيت مرة أخرى إلى زيارة الجنرال محمود، كان اقتراح محمود الوحيد في الأيام الأولى من زيارته واشنطن محاولة رشوة المسئولين الرئيسيين في طالبان، لدفعهم إلى تسليم بن لادن لكنه أوضح مع ذلك أنه لن يكون له أو لجهازه أي علاقة بهذا المسعى ولا حتى بتقديم المشورة إلينا في شأن من نفاتحه بالأمر، وكان اقتراح محمود الوحيد في الأيام الأولى من زيارته واشنطن بحسب تينيت محاولة رشوة المسئولين الرئيسيين في طالبان لدفعهم إلى تسليم بن لادن، لكنه أوضح مع ذلك أنه لن يكون له أو لجهازه أي علاقة بهذا المسعى ولا حتى بتقديم المشورة إلينا في شأن من نفاتحه بالأمر.

ويستمر تينيت في مذكراته فيقول: لكن بعد وقوع الأحداث انقلب الموقف رأسا على عقب، وتم استدعاء الفريق محمود أحمد إلى وزارة الخارجية الأمريكية في العاشرة من صباح يوم 12 سبتمبر، وقال له ريتشارد أرميتاج إن باكستان تواجه خيارا مهما إما أن تكونوا معنا أو ضدنا، إنه خيار أبيض أو أسود لا وجود للون رمادي، وأخبره أنه سينقل له غدا تفاصيل المطلوب منه وعاد الفريق محمود إلى أرميتاج في اليوم التالي، ليسلمه ورقة عليها لائحة من سبعة مطالب وينظر إليها محمود لثواني عديدة، ثم قال له بسرعة كلها مقبولة بالنسبة لنا حتى أن الأمريكيين دهشوا من الجواب السريع، فسأله أرميتاج ألا تريد مناقشة ذلك مع رئيسك فأجابه الفريق محمود أعرف رأي الرئيس .

ولكن رأي الرئيس مشرف عن هذه المطالب السبعة قد عبر عنه في مذكراته بعدها بعدة سنوات: يقول مشرف عن واقعة مذكرة السبعة مطالب، في 13 سبتمبر جاءت سفيرة الولايات المتحدة وندي تشامبرلين إلى بمجموعة سبعة مطالب، مع العلم أن هذه هي نفسها المطالب التي وافق عليها الفريق محمود أحمد دون تردد بمجرد قراءتها، وذكر للأمريكان أن مشرف موافق عليها دون أن يعرضها عليه، ثم جاء مشرف في مذكراته  ليقول بالحرف الواحد أن بعض هذه المطالب كان مضحكا، فكيف نقبل بوضع المواقع الاستراتيجية تحت التصرف الأمريكي، لم نقدم لأمريكا سوى ممر ضيق بعيدا عن جميع المناطق الحساسة، ولم نقدم أيضا سوى قاعدتين وذلك لأغراض لوجستية ولا يمكن شن هجوم منهما .

وبعد أن خرج الفريق محمود من مقابلة أرميتاج، توجه بعدها للقاء رئيس المخابرات الأمريكية جورج تينيت، وخرج من هناك مكتئبا كأنه قائد عسكري خسر معركة للتو كما وصفته وسائل الاعلام حينها، وظل الفريق محمود حتى يوم 16 سبتمبر يناقش المسئولين الأمريكيين في الدور الباكستاني في الحرب على ما يطلق عليه الإرهاب، وعلى ما يبدو كان الجنرال محمود يتصور أن الكلام النظري شيء وليس عليه غبار، وأن الناحية العملية هي الأهم والتي لم يتخل عنها، كما ظهر لاحقا ففي يوم 17 سبتمبر بعد يوم واحد من مغادرة الفريق محمود واشنطون تم إرساله إلى أفغانستان لمقابلة الملا عمر، ومحاولة اقناعه بضرورة تسليم بن لادن إلى الولايات المتحدة، وبالرغم من وجود بعض رجال الخارجية الباكستانية في الوفد الذي كان برئاسة الفريق محمود، إلا أنه أصر على أن يدخل للمقابلة مع الملا عمر وحيدا، وبعد الاجتماع قالت الصحافة الغربية أن محمود طلب من الملا عمر الثبات على موقفه، وعدم الخضوع للضغط الأمريكي، وبعد بضعة أيام أرسل محمود وفدا من العلماء إلى الملا عمر والغريب أن هذا الوفد كان يضم شيوخا موالين لطالبان .

وفي السابع من أكتوبر وهو اليوم الذي بدأ فيه الأميركيون قصف أفغانستان، اتخذ الجنرال مشرف خطوة قوية بإقالة مدير الاستخبارات الباكستانية الفريق محمود أحمد، وعين مكانه شخصاً مقرباً منه هو الفريق إحسان الحق وبقي السبب مجهولا وقتها ولكن كان واضحا هو استياء أمريكي على الأقل من تصرفات الجنرال الذي طلب من الملا عمر عدم تسليم ابن لادن.

وبعد بضعة أيام من عزله، تحدث تقرير صادر عن المخابرات الهندية أن الجنرال محمود قد أزيح من منصبه بناء على طلب أميركي من الرئيس الباكستاني، وذلك لثبوت دوره في تحويلات الأموال من أسامة بن لادن إلى محمد عطا.

و بالرغم من أن مصدر تلك المعلومة غير موثوق به، لأنه كان من الجانب الهندي المعروف بعدائه الأبدي لباكستان، فإن الأسباب الحقيقية لإقالة محمود تظل في إطار اللعبة المزدوجة أو سياسة اللعب على الحبال، والذي كان يمارسها مشرف: عندما يتعرض للضغوط فإنه يحاول أن يفرغها بحيث لا تنفجر في وجهه.

وهكذا انتهت المسيرة السياسية والعسكرية لأحد أخطر الذين تولوا إدارة المخابرات الباكستانية في لحظة فارقة، وتظل مسيرته مبعث للتساؤلات حول دوافعها: هل هي لاعتبارات استراتيجية تتعلق بالأمن القومي الباكستاني، الذي يرى ضمان بقاء أفغانستان تحت النفوذ الباكستاني كظهير استراتيجي في صراعها الأبدي مع الهند، أم أن الأمر وراءه خلفيات أخرى لاتزال طي الكتمان؟

أعلى