• - الموافق2024/05/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
آراء وتأملات في فقه الزكاة2

آراء وتأملات في فقه الزكاة2

في الحلقة السابقة تمت مناقشة أنواع الأموال التي أشار القرآن الكريم إلى وجوب زكاتها ، وإلى المفهوم اللغوي لكلمة المال ، وفي هذه الحلقة سيتم مناقشة القواعد والضوابط والشروط التي تحدد صفة المال الذي تجب فيه الزكاة :

ضوابط ما يجب زكاته من أموال : يختلف المعنى الشرعي للمال لدى فقهاء المذاهب ، فمنهم من يرى : أن المال هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد ، وقد اختُلف حول مفهوم الحيازة لدى الشافعية والمالكية والحنابلة ، إذ لا يقتصر مفهوم الحيازة على إمكان إحرازه بنفسه ، بل يكتفى بحيازة أصله ومصدره ، وبحسب هذا المفهوم للحيازة تكون المنافع أموالاً [1]  .

على ضوء ما سبق من مفهوم للمال سواء وفق المفهوم اللغوي أو الشرعي ، فهل يمكن اعتبار كل ما يملكه الإنسان مما له قيمة مالاً ، وبالتالي تجب فيه الزكاة مهما يكن مقداره ومهما تكن الحاجة إليه ؟ .

إن الإجابة على هذا التساؤل تتم من خلال دراسة ضوابط وشروط المال الذي تجب فيه الزكاة .

وتتمثل هذه الضوابط والقواعد في الأمور التالية :

الضابط الأول : تمام الملك : ويقصد به الحيازة وحق التصرف فيه ، أما حقيقة الملك فهي لله وحده ؛ فهو منشئه وخالقه وواهبه ورازقه ، يقول (تعالى) : { وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَذِي آتَاكُمْ} [النور : 33] ، ويقول : { وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد : 7] ، أما ملك الإنسان للمال فهو ملك حيازة وتصرف وانتفاع ، لا تملك إيجاد وإنشاء ؛ لهذا نرى أن القرآن الكريم حينما يضيف المال إلى الإنسان فهو يؤكد هذا المعنى ، كما في قوله (تعالى) : { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ } [المنافقون : 9] ، وقوله (تعالى) : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } [الهمزة : 3] ، وقوله (تعالى) : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } [المسد : 2] ، فتمام الملك في المفهوم الشرعي كما عرّفه القرافي في (الفروق) هو : (حكم شرعي قُدِّر وجوده في عين أو في منفعة ، يقتضي تمكين من أضيف إليه من الأشخاص من انتفاعه بالعين أو بالمنفعة أو الاعتياض عنها ما لم يوجد مانع من ذلك) [2] .

يرتب هذا الشرط على المال بعض الأحكام ، من حيث أن يكون مرجوّاً غير ميئوس منه ، وهذا الأمر يقتضي إما وجوب الزكاة أو عدم وجوبها ، فمثلاً عدم وجوب الزكاة على أموال الدولة التي تجبيها مثل أموال الزكاة أو ما تمتلكه ملكية عامة مثل المرافق المنتجة المملوكة بالكامل للدولة ، حيث إن عائد هذه الملكية وأصل المال يرجع إلى المسلمين بأجمعهم ، وما تكسبه الدولة من هذا المال تصرفه على مصالح المسلمين .

كما يترتب على مفهوم تمام الملك موضوع الديون ومدى وجوب الزكاة فيها ، وعلى من تجب ؟ على الدائن أم المدين ؟ ومتى يتحقق الوجوب ؟ إن موضوع الديون من الموضوعات المهمة بالنسبة لتحديد وعاء الزكاة ؛ ولهذا : نرى اختلاف الفقهاء (رحمهم الله) حول الديون ومدى وجوب الزكاة فيها ، ويقسم جمهور الفقهاء الدّين إلى نوعين :

1- دين مرجو الأداء ، بأن يكون لدى موسر مقر بالدين ، فهذا يزكى مع المال في كل حول ، وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام رأي علماء السلف في ذلك بأن يزكى مع المال الحاضر ؛ لما رواه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه كان إذا أخرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد .

كما روى ذلك عن عثمان (رضي الله عنه) وأنه كان يقول : (إن الصدقة تجب في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه ، والذي هو على مليء تدعه حياء أو مصانعة ، ففيه الصدقة) ، كما روى عن ابن عمر (رضي الله عنه) أنه كان يقول : (كل دين لك ترجو أخذه فإن عليك زكاته كلما حال الحول) ، كما روى ذلك عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) ، وقد وافق عدد من التابعين هؤلاء الصحابة ، منهم : مجاهد ، ومروان بن مهران [3].

2- الدين غير المرجو تحصيله ، ففيه مذاهب ، هي : الأول : تزكيته عند القبض لما مضى من السنين ، وهو مذهب علي وتابعه ابن عباس (رضي الله عنهم) ، فكان علي (رضي الله عنه) يقول في الدين المشكوك فيه : (إن كان صادقاً فيزكه إذا قبضه لما مضى) ، ويقول ابن عباس (رضي الله عنه) : (إذا لم ترج أخذه فلا تزكه حتى تأخذه ، فإذا أخذته : فزكِّ عنه ما عليه) . الثاني : تزكيته عند القبض لسنة واحدة ، وهو مذهب الحسن ، فقد روى أبو عبيد عنه أنه كان يقول : (إذا كان للرجل دين حيث لا يرجوه فأخذه بعد : فليؤد زكاته سنة واحدة) [4]  .

وكان يقول بذلك عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) ، فقد روى عنه  ميمون بن مهران قائلا : (كتب إليّ عمر بن عبد العزيز في مال رده عليّ رجل ،   فأمرني أن آخذ منه زكاة ما مضى من السنين ، ثم أردفني كتاباً أنه كان مالاً   ضماراً فخذ منه زكاة عامه) [5]  . الثالث : أنه لا زكاة عليه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، باعتباره مثل المال المستفاد ، يستأنف به صاحبه الحول ، فلا زكاة فيه [6]  .

وقد اختار أبو عبيد القاسم بن سلام الرأي الأول فيما يتعلق بالدين المرجو : أنه لا زكاة فيه حتى يتم قبضه وتزكيته عما مضى ، وعلل رأيه بقوله : (وإنما اختاروا من اختار منهم تزكية الدين مع عين المال ؛ لأن من ترك ذلك حتى   يصير إلى القبض لم يكن يقف من زكاة دينه على حد ، ولم يقم بأدائها ؛ وذلك أن   الدين ربما اقتضاه ربه متقطعاً كالدراهم الخمسة والعشرة وأكثر من ذلك وأقل ، فهو   يحتاج في كل درهم يقتضيه مما فوق ذلك إلى معرفة ما غاب عنه من السنين ،   والشهور والأيام ، ثم يخرج من زكاته لحساب ما يصيبه ، وفي أقل من هذا ما تكون   الملامة والتفريط ، ولهذا : أخذوا بالاحتياط ، فقالوا : تزكيته مع جملة ماله في رأس   الحول ، وهو عندي وجه الأمر ، وهذا كله في الدين المرجو الذي يكون على الثقات) [7]  .

ونحن نميل إلى هذا الرأي فيما يتعلق بالدين المرجو ، أما بالنسبة للدين غير المرجو والمشكوك في تحصيله : فنميل إلى الأخذ بالمذهب الثاني ، وقد أخذ به من الفقهاء المعاصرين : فضيلة الدكتور (القرضاوي) [8]  ، وهو أن يتم تزكيته عند قبضه لعام واحد ، باعتباره ميئوساً منه ، وأنه بمثابة المال المستفاد الذي يتم إخراج زكاته عند تحصيله دون اشتراط الحول .

إن الأخذ بهذا الرأي سوف يحقق أمرين :

أولهما : عدم إضاعة حق الفقراء والمساكين عند تحصيله .

ثانيهما : أنه لو تم احتساب زكاته عما مضى لكل سنة فقد يكون فيه ضرر على صاحب المال ، فقد تستغرق الزكاة الدّين جميعه ، كما قد يصعب تحديد فترات الحول ، وخاصة بالنسبة للتجار الذين يتعاملون مع أعداد كبيرة من المدينين .

الضابط الثاني : النماء : يقصد بالنماء : أن المال الذي تؤخذ منه الزكاة يكون نامياً بذاته ، بالتوالد ، والتناسل ، والتجارات ، أو قابلاً للنماء ، والذي من شأنه أن يدر على مالكه ربحاً أو غلة أو إيراداً ، بحيث يكون هو نفسه نماءً أو فضلاً وزيادة ، مثل مدخرات النقود .

إن الحكمة من اشتراط النماء كما ذكر ابن قدامة : أن (الزكاة إنما وجبت مواساة ، ولم نعتبر حقيقة النماء ؛ لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ، ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته ، كالحكم مع الأسباب ، ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال ، فلا بد لها من ضابط ؛ كي لا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات ، فينفد مال المالك) [9]  ، ويحدد الكاساني الحكمة من ذلك في (بدائع الصنائع) من زاوية أخرى ، فيقول : (ولا نعني به حقيقة النماء ؛ لأن ذلك غير معتبر ، وإنما نعني به كون المال معدّاً للاستثمار بالتجارة أو الإسامة ؛ لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسِّمَن ، والتجارة سبب لحصول الربح ، فيقام السبب مقام المسبب ويعلق الحكم به ، كالسفر مع المشقة .. ونحو ذلك) [10]  .

إن تأثير هذا الضابط على الأموال التي تجب فيها الزكاة يتمثل في مدى شمولية واتساع الأموال الخاضعة للزكاة ، وهو مجال اختلف فيه الفقهاء ، فمثلاً لا يأخذ ابن حزم بشرط النماء ، وإنما يطبق الزكاة على الأصناف التي أخذ منها النبي -  صلى الله عليه وسلم- الزكاة ، وبالتالي : فهو لا يوجب الزكاة ، على الأصناف   الأخرى ، أما من جعل من ضوابط المال الخاضع للزكاة ضابط النماء : فقد أفسح المجال لخضوع جميع الأموال مهما تنوعت وتغيرت أنماطها ، وقد دلت آيات القرآن الكريم والأحاديث التي أوجبت الحقوق في الأموال على ذلك ، ولا يتم استثناء بعض الأموال من الزكاة إلا بدليل شرعي يخرجها من هذا الضابط .

الضابط الثالث : بلوغ النصاب : يضع هذا الضابط حدّاً للمال الذي تجب فيه الزكاة ، والذي يتمثل في بلوغ النصاب ، فإذا بلغ المال هذا الحد وجبت فيه الزكاة ، وما لم يبلغه المال فلا زكاة فيه ، وبالتالي : فإن مقدار الزكاة يتفاوت بتفاوت المال وفق تفاوت الأنصبة ، وقد حددت السنة الأنصبة لمختلف أنواع الأموال بحيث لا يستوجب المال الزكاة إلا إذا بلغها ، كما ربطت الأنصبة بجنس المال .

إن اعتبار النصاب أحد الضوابط في اشتراط وجوب الزكاة فيه إرشاد إلى الغاية من فرض الزكاة ، فالغاية منها : تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة ، وقيام أغنياء الأمة بكفالة فقرائها والمحتاجين من ذوي النوائب .

ومقدار الأنصبة وتحديدها قد يفهم منه الإرشاد إلى الحدود الدنيا لكفاية الإنسان وضرورة الاسترشاد بذلك بدراسة حجم الأموال التي تخرج الإنسان من دائرة الفقر إلى دائرة الغنى .

إن من الإشكاليات التي تطرح حول مقادير الأنصبة : ثباتها ، فمثلاً : إن قيمة مئتي درهم أو خمسة أوسق قد لا تكفي حاجة الإنسان إذا نظر إلى أن الأنصبة تمثل حدود الفقر والغنى ، وعليه : فهل يمكن رفع مقدار الأنصبة بما يعادل الزيادة في تغير قيمتها بمرور الزمن ؟ .

إن هذا التساؤل مهم إذا نُظر إلى الأنصبة باعتبارها حدود الإعفاء ، واعتبار الزكاة ضريبة ، أي : نظر إلى الزكاة باعتبارها أداة من أدوات المالية العامة ، وبالتالي : فيعتبر النصاب هو حد الإعفاء ، ومن هنا : ينبغي النظر في رفع النصاب باعتباره حد الإعفاء وفق التغير في قيمة السلع والمنافع .

إن الرد على ذلك وفق ما أشرنا إليه في الحلقة الماضية : أن أصل الزكاة عبادة ، يجب على الفرد المسلم أداؤها إذا توفر لديه النصاب ، وتحديد النصاب أمر توقيفي ، لذا : تظهر ضرورة قياس أنصبة الأموال المستجدة بالأموال التي ورد فيها النص .

إن بعض الباحثين المعاصرين عند مناقشته لأنصبة الزكاة أو التعرض لأحكام الزكاة ينظر للأمر من زاوية التشريعات المالية المعاصرة ، وبموجب هذه النظرة : فقد يحدث مخالفة الأحكام الواردة في الأحاديث النبوية المتعلقة بالزكاة ، كما ينبني على هذه النظرة أن الشريعة الإسلامية تحاكي في تشريعها المالي النظام المالي المعاصر ، والذي يضع حدوداً للإعفاء لمقابلة احتياجات الممولين ، ولكن الشريعة بكمالها لم تغفل هذا الجانب من تأثير التغير في قيمة النصاب ، حيث تم استيعاب ذلك من خلال الضابط الرابع ، وهو : الفضل عن الحوائج الأصلية .

الضابط الرابع : الفضل عن الحوائج الأصلية : إن وجوب الزكاة في المال وفق ما يذهب إليه الأحناف لا يجب إلا إذا كان النصاب فاضلاً عن الحاجة الأصلية لمالكه ، وقد استُدل بأحاديث ، منها : ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (إنما الصدقة عن ظهر غنى) [11]  ، وفي رواية : (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) ، وما ورد عن الصحابة في تفسيرهم لقوله (تعالى) : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } [البقرة : 219] ، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) : العفو : ما يفضل عن أهلك ، وقد ذكر ابن كثير أن هذا القول قال به ابن عمر ، ومن التابعين : مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير .

وترد بقية المذاهب على ذلك بعدم اشتراط هذا الضابط بحمل الحديث وما جاء في تفسير الآية على صدقة التطوع والإنفاق المندوب لا الواجب ، وعلى هذا : لا يمكن اعتبار أنه لا يزكى إلا ما فضل عن حاجة الشخص حيث إن الحاجة نطاقها واسع حتى ولو حددت بالأمور الأساسية ، كما أن الأحاديث الواردة في الزكاة والسنة الفعلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تعمد إلى تحديد الحوائج الأصلية ،   وقد كانت الزكاة تؤخذ ممن توفر لديه النصاب بدون نظر إلى الحاجة ، كما يُرَد على ذلك : بأن شرطي النماء والنصاب كافيان عن اشتراط الفائض عن الحوائج ؛ لأنه لا صدقة إلا عن ظهر غنى حقيقي ، فلا يمكن حينئذ أن يصل المال إلى النصاب والإنسان لا يكفي حاجته الأساسية ، كما أن شرط الحول يقتضي أن الإنسان سيقوم بالصرف على حاجته من ماله ، فإذا حل الحول وهناك فائض وصل حد النصاب : فإن ذلك مؤشر على سداد الإنسان لحاجته .

الضابط الخامس : السلامة من الدين : يقصد بهذا الضابط : ألا يكون مالك النصاب مديناً لأحد دَيْناً يستغرق نصاب الزكاة ، أو ينقصه عن النصاب ، ففي هذه الحالة لا زكاة عليه .

لقد اختلف الفقهاء حول هذا الضابط ، وهل يتم استقطاع الديون الواجبة على مالك المال من وعاء الزكاة ؟ .

واختلف الفقهاء في استقطاع الديون الواجبة على مالك المال (المكلف) من وعاء الزكاة ، فبالنسبة للأموال الباطنة (النقود وعروض التجارة) فإن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى أن الدّين يمنع وجوب الزكاة أو ينقص بقَدْره قيمتها ، وذهب بعض الفقهاء (فيما يتعلق بالأموال الظاهرة) إلى أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة فيها ،   حيث إن تعلق الزكاة فيها أظهر ، وبذلك : فالزكاة أوكد ، وقد قال بهذا مالك  والأوزاعي والشافعي ، وورد عن أحمد [12]  .

وبالنسبة للدين في الزروع : فقد اختلف ابن عمر وابن عباس (رضي الله عنهما) كما ذكره ابن قدامة ، حيث قال : (روي عن أحمد أنه قال : قد اختلف ابن عمر وابن عباس ، فقال ابن عمر : يُخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ، ويزكي ما بقي ، وقال الآخر : يخرج ما استدان على ثمرته ، ويزكي ما بقي ، وإليه أذهب : أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي) [13]  .

وعلى ضوء ما سبق ووفقاً لهذا الضابط : فإنه يمكن تحقيق وعاء الزكاة بالديون المستحقة على صاحب المال ، ولكن يشترط أن يلاحظ ضرورة ثبات الدين وصحته ، وقيام صاحب المال بالسداد في وقت حلوله ، وألا يماطل به وفق ما أشار إليه عثمان بن عفان (رضي الله عنه) كما روى ذلك أبو عبيد عن السائب بن يزيد ، قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ، حتى تخرجوا زكاة أموالكم) [14]  .

الضابط السادس : الحول : إن مفهوم الحول هو : أن يمر على المال اثنا عشر شهراً عربيّاً ، وهذا الشرط خاص بالنقود والثروة الحيوانية وعروض التجارة ، أما ناتج الأرض والمستخرج من المعادن والكنوز ونحوها من الأموال المستفادة فلا يشترط لها مرور الحول .

إن علة عدم تطبيق ضابط الحول على جميع الأموال أشار إليها الإمام ابن قدامة بقوله : (الفرق بين ما اعتبر له الحول وما لم يعتبر له : أن ما اعتبر له الحول مرصد للنماء ، فالماشية مرصدة للدر والنسل ، وعروض التجارة مرصدة للربح ، وكذا : الأثمان ، فاعتبر له الحول ؛ لأنه مظنة النماء ؛ ليكون إخراج الزكاة من الربح ، فإنه أسهل وأيسر ، ولأن الزكاة إنما وجبت مواساة ، ولم نعتبر حقيقة النماء ؛ لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ، ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته ،   كالحكم مع الأسباب ، ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال ، فلا بد لها من ضابط كيلا يفضى إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات ، فينفد مال المالك ، أما الزروع والثمار : فهي نماء في نفسها ، تتكامل عند إخراج الزكاة منها ، فتؤخذ الزكاة منها حينئذ ، ثم تعود في النقص لا في النماء ، فلا تجب فيها زكاة ثانية ؛ لعدم إرصادها للنماء ، والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض بمنزلة الزرع والثمر ، إلا إنه إن كان من جنس الأثمان ففيه الزكاة عن كل حول ؛ لأنه مظنة للنماء ، من حيث إن الأثمان قيم الأموال ورأس مال التجارات ، وبهذا تحصل المضاربة والشركة وهي مخلوقة لذلك ، فكانت بأصلها وخلقتها كمال التجارة المعد لها) [15]  .

إن اشتراط الحول كضابط من ضوابط المال الذي تجب فيه الزكاة ، قد قسم على ضوئه الأموال إلى نوعين : ما أجمع عليه جمهور الفقهاء ، ويشمل الذهب والفضة والماشية ، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة ، ولانتشاره في الصحابة (رضي الله عنهم) ، ولانتشار العمل به [16]  ، أما بالنسبة لبقية الأصناف الأخرى من الأموال مما لا يشترط فيه الحول : فقد اختلف الصحابة والتابعون فيه : فقد جاء عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية (رضي الله عنهم) وجوب تزكية المال عند استفادته دون اشتراط الحول ، وجمهور الصحابة ومنهم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي (رضي الله عنهم) على خلافهم ، وهذا يتعلق بالمال المستفاد من غير جنس ما عنده .

ويقصد بالمال المستفاد : كل مال يدخل في ملكية الشخص بعد أن لم يكن له ، وتنقسم الأموال المستفادة إلى قسمين : أموال تجب فيها الزكاة عند الحصول عليها ، مثل : الزروع والثمار والمعادن إذا بلغت النصاب ، وقسم يدخل ضمن الأموال الحولية ، مثل : النقود ، وعروض التجارة ، والماشية ، وقد أشار ابن قدامة إلى أحوال المال بالنسبة للأموال الحولية ، وقسمها إلى قسمين [17]  :

القسم الأول : المستفاد مما يعتبر له الحول ولا مال سواه وبلغ النصاب ، أو كان له مال من جنسه لا يبلغ نصاباً فبلغ بالمستفاد نصاباً : فإن وجوب الزكاة تتم عند تمام الحول فيه .

النوع الثاني : إن كان عنده نصاب من جنس المال المستفاد ، وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام : الأول : أن يكون المستفاد من النماء كربح مال التجارة ونتاج السائمة فيضم إلى ما عنده من أصله ، ويعتبر حولُ المال المستفاد حولَ أصله ، وهذا متفق عليه بين العلماء ، الثاني : أن يكون المستفاد من غير جنس ماله : فلا يُضَم هذا المال إلى ما عنده في زمن الحول ولا في النصاب، فإن بلغ نصاب زكاة بعد مضي حول على اكتسابه وإن لم يبلغ النصاب : فلا شيء فيه ، وهذا قول جمهور العلماء ، لكن روي عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية (رضي الله عنهم) أن الزكاة تجب فيه حين استفادته .

الثالث : أن يكون المال المستفاد من جنس نصاب ما عنده ، وقد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل ، مثل : أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول ، فيُعطى مئة ، ففي هذه الحالة اختلف فيها : هل تجب على الماشية الزكاة أم لا ، قال الشافعي : إنه لا تجب فيها الزكاة حتى يمضي حول عليها ، وأما أبو حنيفة فيرى أن يضم إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعاً عند تمام حول المال الذي كان عنده ، إلا أن يكون عوضاً عن مال مزكى .




(1) انظر : فقه الزكاة ، د يوسف القرضاوي ، ج1 ، ص 125 .

(2) نقلاً عن المصدر السابق ، ص 129 .

(3) الأموال ، لأبي عبيد القاسم بن سلام ، ص 526 527 .

(4) المرجع السابق ، ص 528 .

(5) المال الضمار : هو الذي لا يظن صاحبه الحصول عليه ، انظر : المرجع السابق ، ص 528 .

(6) انظر : المصدر السابق .

(7) المرجع السابق ، ص 530 531 .

(8) انظر : فقه الزكاة ، ج1 ، ص38 .

(9) المغني ، ج2 ، ص 625 .

(10) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني ، ج2 ، ص 21 .

(11) أخرجه أحمد بن حنبل ، 2/501 ، والدارمي ، وأخرجه البخاري (ك/ الزكاة ، 18) ، وأحمد ابن حنبل (2/230) بلفظ : (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) .

(12) انظر : فقه الزكاة ، للقرضاوي ، ج 1 ، ص 157 .

(13) المغني ، ج3 ، ص 42 .

(14) الأموال ، لأبي عبيد ، ص 534 .

(15) المغني ، ج2 ، ص625 .

(16) انظر : فقه الزكاة ، ج1 ، ص 162 .

(17) انظر : المغني ، ج2 ، ص 626 627 .

 

أعلى