جعل اللّه - تعالى - مهمة رسله وأنبيائه وأتباع
رسله عليهم الصلاة والسلام هي البلاغ ، أي : إبلاغ دعوة الحق إلى جميع الناس وإلى الثقلين
، ولكنه ليس كأي بلاغ ؛ إنه ( البلاغ المبين ) ولفظ البلاغ
المبين جاء في القرآن
في سبعة مواطن ، وهي :
1 - { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِينُ } ( المائدة : 92 ) .
2 - { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ
مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن
دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ
إِلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ } (
النحل : 35 ) .
3 - { فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاَغُ الْمُبِينُ } ( النحل : 82 ) .
4 - { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ
تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ } ( النور : 54 ) .
5 - { وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى
الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ } ( العنكبوت : 18 ) .
6 - { وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ } ( يس : 17 ) .
7 - { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا
عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِينُ } ( التغابن : 12 ) .
وقفة مع اللغة : كلمة بَلَغَ : تعني : وصَلَ أو قارب على الوصول
.
يقول ابن فارس : « الباء واللام والغين أصل واحد
، وهو الوصول إلى الشيء : بلغتُ المكان إذا وصلتُ إليه ، وقد تسمى المشارفة بلوغًا
بحق المقاربة ».[1]
وقال الأزهري : ( والعرب تقول للخبر يبلغ أحدَهم
ولا يحققونه ، وهو يسوؤهم : سَمْعٌ لا بَلْغٌ ، أي : تسمعه ولا يبلغنا ، ويجوز سمْعًا
لا بلْغًا ) [2] .
وقال في اللسان ( رجل بليغ : حسن الكلام فصيحه
، يبلغ بعبارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه )[3] والبلاغ : بيانٌ يُذاع في رسالة ونحوها [4] .
وهذا دليل على أن استعمال كلمة البلاغ إنما كان
لما فيه من طبيعة الوصول والانتهاء .
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير
قوله - تعالى - : {
وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ } ( يس : 17 ) أي : البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها ، وما عدا هذا من آيات الاقتراع ومن
سرعة العذاب فليس إلينا ، وأن وظيفتنا هي البلاغ المبين .
من مقتضيات البلاغ المبين :
أ - عدم التقصير في البلاغ :
قال - تعالى - : { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن
لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ
لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ } ( المائدة : 67)
.
يقول القرطبي - رحمه الله - : « وهذا تأديب للنبي
- صلى الله عليه وسلم - وتأديب لحَمَلة العلم من أمته ألا يكتموا شيئًا من شريعته »
[5] .
ب - توفُّر عنصر الوعي لدى المبلِّغ :
قال - صلى الله عليه وسلم
- : « نضّر اللّه امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها ، فرُّب حامل فقه إلى من
هو أفقه منه ..» الحديث رواه أحمد .
استفاد الخطابي من هذا الحديث كراهة اختصار الحديث
لمن ليس بالمتناهي بالفقه .
وعلى هذا، فإن الوعي يكون بحفظ النص وأدائه كما
قيل، ويكون للفقيه بمحافظته على المعاني المستفادة .
ج - البلاغة : وتتضح البلاغة المقصودة في قوله - تعالى - :
{ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا
} (
النساء : 63 ) ، ويقصد بها
أن يكون الكلام حَسَنَ المعاني ، واضحًا في ألفاظه مع تجنب وحشيِّ الكلام وغريبه ،
ولا يقصد بالبلاغة التكلُّف والتشدُّق والتفيهق ، فهذا مخالف لمنهج السلف الصالح -
رضوان الله عليهم - فقد ( مرّ السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف .
ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكلفية
؛ علِم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين ، لكن من غير ترتيب متكلَّف
ولا نَظْمٍ مؤلَّف ، بل كانوا يلقون الكلام على عواهنه ، ولا يبالغون كيف في ترتيبه
إذا كان قريبَ المأخذ سهْلَ الملتمَس ) [6] .
د - كراهة الخوض فيما لا ينبني عليه عمل :يقول
الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - : ( كل مسألة لا ينبني عليها عمل ؛ فالخوض فيها
خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي .
وأعني بالعمل : عمل القلب وعمل الجوارح من حيث
هو مطلوب شرعًا ، والدليل على ذلك : استقراء الشريعة ؛ فإنّا رأينا الشارع يُعرِض عمّا
لا يفيد عملاً مكلفًا به ؛ ففي القرآن الكريم { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
} ( البقرة : 189 ) ، فوقع الجواب بما يتعلق به العمل ، ومن هنا
( نهى - صلى الله عليه وسلم - عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ) ؛ لأنه مظنة السؤال عما
لا يفيد ، وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل [7] .
ويترتب على ذلك : أن العلم الشرعي وسيلة إلى
عبادة الله ، و ( ذلك أن روح العلم هو العمل ؛ وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به .
قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاؤُا إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ غَفُورٌ } ( فاطر : 28 ) ، قال سفيان الثوري : ( إنما يتعلم العلم ليتقي
به الله ، وإنما فضل العلم على غيره ؛ لأنه يتقي اللّه به ) [8] .
وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ؛ ليس
مقصودًا لنفسه من حيث النظر الشرعي ، وإنما هو وسيلة إلى العمل .
هـ - وعلى المبلِّغ تحديد الهدف من بلاغه بدقة
، والبدء بالمهم فالأهم : وأن يعرف كيف يبدأ وما مضمون دعوته ، وأن يعرف
رسالته بدقة ؛ فالرسالة رسالة إحياء وبعث ، ولن يكون الإحياء إلا بتصحيح مفهوم العقيدة
، وتصحيح مفهوم التوحيد بمعناه الشرعي الشامل ؛ توحيدِ الأئمة وسلف الأمة ، وأن يدعو
الناس على أن يقيموا حياتهم على ( قبول شرع الله ورفض ما سواه ) [9] .
و - إيجاد ( واقع ) دعوي يؤمن بفكرة الداعية
لا بشخص الداعية : وغنيٌّ عن القول أن نذكِّر أن فكرة الداعية حتمًا
تكون نابعة من أصول وتصورات أهل السنة والجماعة .
فالداعية حين يجد من يؤمن بفكرته وتصوُّره تزداد
همته ويزداد وضوح الفكرة في قلبه وعقله ، ويزداد ( إقبال الناس على ( الأفكار ) لوجود
( واقع ) عملي لها ، وقد كان السلف الصالح - رضوان الله عليهم - ينادون كل صاحب سنّة
ويدعونه إلى إقامة ( واقع ) له على منهج أهل السنة والجماعة ؛ فروى ابن وضاح عن غير
واحد : أن أسد بن موسى المسمى ( أسد السنة ) كتب إلى أسد بن الفرات : اعلم أيْ أخي
! أنّ ما حملني على الكتابة إليك ما ذكَرَ أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك
الناس ، وحُسْن حالك مما أظهرت من السنة وعيبك لأهل البدعة ، وكثرة ذكرك لهم وطعنك
عليهم ، فقمعهم الله بك ، وشدَّ بك ظهر أهل السنة ، وقوّاك عليهم بإظهار عيبهم والطعن
عليهم ... ) .
ثم ذكر بعد كلام ( ... فاغتنم ذلك وادعُ إلى
السنة ؛ حتى يكون لك في ذلك فئة وجماعة يقومون مقامك إن حدث لك حدث ؛ فيكونون أئمة
بعدك ، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء الأثر ؛ فاعمل على بصيرة ونية وحسبة
) [10] .
وأخيرًا وليس آخرًا :
( فإن نجاحنا في الإقلاع
بالأمة مرهون بمدى أدائنا للبلاغ المبين الواضح الناصع القوي الواسع الانتشار ، وذلك
أداءً لأمانة الدعوة ) [11] .
أسأل الله بكرمه وفضله أن يرزقنا حُسْن البلاغ
، وأن يجعله ( بلاغًا مبينًا ) ، وأن يرزقنا الإخلاص والصدق معه ، وأن يجعلنا من الذين
يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه ، وأن يرحم كل صاحب ( بلاغ مبين ) ويغفر له .
وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين
، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
(1) معجم مقاييس اللغة 1/201 .
(2) تهذيب اللغة 9/14 ، نقلاً عن (قواعد الدعوة
إلى الله) للدكتور همام عبد الرحيم .
(3) لسان العرب 10/302 .
(4) المعجم الوجيز 61 .
(5) تفسير القرطبي 6/242 .
(6) معالم السنن للخطابي 4/187 .
(7) تهذيب الموافقات للشيخ الدكتور محمد حسين
الجيزاني ، طبعة مكتبة ابن الجوزي ، 40 .
(8) المصدر السابق 37 وأصل كتاب الموافقات
للشاطبي رحمه الله .
(9) المصدر السابق .
(10) أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى
، لمحمد عبد الهادي المصري .
(11) رؤية في مسيرة العمل الإسلامي ، للأستاذ
خالد أبو الفتوح ، البيان155 ، ص 95 .