تمر بالإنسان - أحيانًا كثيرة - لحظات تخور معها عزيمة الرجال
الأشداء ؛ فلا يثبتون في مواقف الشدة ، حتى إن من كان يُنظَر إليه على أنه من الثابتين
الذين يُثبِّتون الناس ويدفعونهم في طريق الرِّباط قد خارت قواه ؛ فلم يقوَ على مواصلة
السير ، ولم يقتصر أمره على الوقوف وإنما تراجع القهقرى ، في مسلك يُحيِّر العقلاء
والمتابعين .
ولو بحثنا عن أسباب الثبات في مواقف الشِّدة ، لم نجدها في
قوة البدن أو كثرة العلم أو كثرة الدروس والمحاضرات ، ولكنها في تثبيت الله للمؤمن
، حتى إنك لَتَجِد بعض من تظنه من العوام وأنه غير حَريٍّ بالثبات عند المحن ، فإذا
جاءت المحنة كان أثبت من الجبال الراسيات .
وتثبيت الله لمن يثبِّته إنما هو بسبب رصيده الإيماني الذي
يلازمه في كل أحيانه .
قال الله - تعالى - : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (
إبراهيم : 27 ) ؛ فالتثبيت للمؤمنين
، وهو شامل لحال المؤمن في الدنيا كما في الآخرة
، والقول الثابت هو قول الحق فلا يُغيَّر ولا يُبدَّل تحت طغيان الإغراء بالشهوات أو التهديد بالعقوبات ، وقد ذكر الرسول
- صلى الله عليه وسلم - من عجيب التثبيت ما ذكره
عمَّن كان قبلنا ، فقال : « كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض ، فَيُجْعل
فيه ، فيُجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه فَيُشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ، ما
دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يصده ذلك عن دينه » ، ثم أردف قائلاً : « والله لَيُتمَّن هذا
الأمر حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون » مبَيِّنًا
أن هذا الدين منصور وظاهر ، وأن على المسلم التمسك
به والثبات عليه ولا يستعجل ؛ فإن العاقبة للمؤمنين
.
ومن عجيب التثبيت للمؤمن أن يقيض الله من العوام
مَنْ يُثبِّت العلماء .
قال أحمد بن حنبل في محنة خَلْق القرآن : « ما
سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلَّمَني بها في رحبة طوق .
قال : يا أحمد ! إن يقتلك الحق مُتَّ شهيدًا
، وإن عشت عشت حميدًا ، فقوي قلبي » .
وفي ظل غربة الإسلام ؛ فإن الدعاة إلى الله مِنْ
أكثر مَنْ يحتاجون للتثبيت لتعرُّضهم للمحن الشديدة ، وليس وراء الإيمان والعمل الصالح
طريق آخر إلى الثبات .