• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المسألة الدستورية في المغرب والهوية الإسلامية

المسألة الدستورية في المغرب والهوية الإسلامية


من المسلَّمات أن دستور الدولة الإسلامية ينبغي أن يكون نابعاً من الإسلام، وهو ما طالب به العلماء في كل محطات المسألة الدستورية في المغرب، ومن ذلك: ما كتبه العلاَّمة عبد الله كنون في كتابه (مفاهيم إسلامية)، تحت عنوان: (الذين سيوضع لهم الدستور)، وقال - وهو يتحدث عن أول دستور سيوضع للمغاربة بعد الاستقلال (دستور عام 1962م) -:  «إن المغاربة الذين نحن في خدمتهم عرب مسلمون، دستورهم الخالد هو القرآن، وقانونهم العام هو الشرع الإسلامي، فعلى هذا الأساس يجب أن يوضع دستور الدولة التي تحكمهم، ومن هذين المنبعين الثريين يجب أن يستمدَّ ذلك الدستور مبادئه وأصوله، وهذا إن لم يكن إيماناً بالقرآن ولا بالشرع الإسلامي فَلْيكن إيماناً بالديمقراطية التي هي حكم الشعب من غير تحريف لها ولا تزييف...».

وقد صدع العلماء بمطالبهم بشأن هذا الدستور، ومن ذلك ما جاء في المؤتمر الأول لرابطة علماء المغرب عام 1380هـ/ 1960م:

الدستور المزمع وضعه:

أ - يجب أن ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام وأن لغتها هي العربية.

ب - يجب أن ينص على أن نظام الدولة في البلاد هو نظام ملكي.

ج - وعلى أن القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة المصدرُ الوحيد للدستور المغربي في جميع فروعه.

ويعارض المؤتمرُ كلَّ مادة تخالف الروح الإسلامية نصاً ومفهوماً.

هـ ـ يجب أن ينص الدستور على أن المغرب جزء من الأمة العربية يهدف لتوحيدها، وتُعتبَر وحدة المغرب العربي مرحلة إلى وحدة العرب. اهـ[1].

كما دعوا في الوثيقة نفسها إلى الفصل بين السلطات، مع التأكيد على استقلال القضاء استقلالاً حقيقياً، وضرورة إسناد وظائفه إلى مسلمين أكفياء لهم معرفة تامة بالشريعة الإسلامية، كما استنكروا بشدة السياسة الخطيرة التي تهدف إلى المحافظة على نفوذ اللغة الأجنبية في المغرب، كما طالبوا بإحداث هيئة عُليا ترتبط مباشرة بصاحب الجلالة، دورها مراقبة المظاهر المخلَّة بالحياء والأخلاق العامة: كالاختلاط في المسابح والحفلات الراقصة وتبرُّج النساء، والأفلام الخليعة وبرامج الإذاعة التي تخدش الكرامة، والتجاهر بتناول الخمور وبيعها... إلخ.

الدستور الجديد والإصلاح الإسلامي:

إذا كان من الواضح أن ثمرات التعديلات الجارية الآن على الدستور رهينةٌ بمدى الجدية والالتزام في تطبيق بنوده، فإننا نحب أن نلفت الانتباه إلى أن الإصلاح بوجه عام لن يتحقق إلا إذا روعي فيه إصلاح الفرد نفسه باعتباره أداة الإصلاح ومحوره في الوقت ذاته.

وهذه حقيقة اتفقت عليها كل الفلسفات الإصلاحية الجادة؛ وإن اختلفت في مفهوم (إصلاح الفرد) ووسائله.

فالإصلاح كالغيث في أهميته والحاجة إليه؛ والغيث لا يُنبِت كلأً ما لم يجد أرضاً صالحة تنبت وتثمر.

هكذا الإصلاح لا يتحقق إلا إذا قام على أرضية تقبَلُه، فتنبت زرعه وتخرج شطأه؛ وهي (الإنسان الصالح).

وبما أننا أمة مسلمة، وبما أن الإسلام من ثوابت الدستور المغربي؛ فإن المرجعية الأساسية لتكوين (الإنسان الصالح) و (الدستور المصلح) هي شريعة الإسلام بأحكامها وآدابها، وبنصوصها وقواعدها التي تواكب التطور وتوجِّهه، وتنفتح على النافع وتدعو لاستثماره.

والفساد بكل أنواعه لن يرتفع بالشكل الكافي بمجرد إجراء تغييرات على المستوى السياسي والقانوني؛ بل هذا يشكل جزءاً من الإصلاح إذا أُحسِن تدبيره؛ وبُنِي على الحق والعدل وقاعدة (أداء الأمانات)؛ وهي عناصر الإصلاح السياسي كما بلورتها الشريعة الإسلامية التي ندعو إلى جعلها إطاراً ومرجعاً موقنين بأنها الكفيلة بتحقيق الإصلاح الحقيقي للفرد والسياسة والقانون على حد سواء؛ وذلك لربانية مصدرها التي تجعلها مستوعبة لعناصر الإصلاح ومجالاته ومستلزماته، ومتجردة من التبعية لأهواء النفوس التي كثيراً ما تكون سبباً لإجهاض عملية الإصلاح، وصيرورتها مجرد مطية لأهداف (أيديولوجية) أو أطماع سياسية أو ذاتية.

إن تعديل الدستور وتوسيع صلاحيات ممثلي الشعب لن ينتجَ دولةَ الحق والعدل ما لم يؤسَّس على أرضية صالحة تتمثل في مرجعية سليمة، وسياسيين شرفاء نزهاء يعدلون في ما وُلُّوا، ويؤدون {الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

وإصلاح القضاء لن يتم إلا إذا اشتمل تكوين القضاة على التربية الشرعية التي تجعلهم يؤمنون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل جار في الحكم فهو في النار»[2].

ويعملون بمقتضى ذلك الإيمان وما يستلزمه من تحري العدل، واجتناب بيع الذمة لضغوط سلطوية أو أطماع مادية.

وإصلاح التعليـم لا يمكـن أن يتحقـق ما لم يتحـلَّ رجاله بوصف الأمانة، ويوقظوا في نفوسهم الضمير الحي وفي عقولهم الوعي الناضج اللذَين يجعلانهم أمناء على قيم الأمة ومقوماتها.

وإصلاح الإدارة لن يتحقق ما لم يتشبَّع الموظفون بروح المسؤولية التي تقوم على أساس من الإيمان وخشية الله في السر والعلن.

والعدل في توزيع الثروات والوظائف والفرص لن يتم إلا إذا أُسنِد إلى أهله من الأكفياء الأمناء.

إن التاريخ والواقع يؤكدان أن أحوال الأمة لا تصلح إلا بالدين الذي أوحى الله - تعالى - به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليمثل المنطلق نحو الإصلاح الحقيقي والشامل.

وهذا ما عناه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه حين قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).

فالعز والصلاح رهينان بمدى عملنا بالإسلام وتجسيدنا لأحكامه وآدابه (حكاماً ومحكومين)، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع؛ بكل مكوناته وفي كل مجالاته: من تعليم وقضاء وسياسة واقتصاد.

إن الإسلام هو الذي أفرز حكاماً من أمثال أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي قال لشعبه: (قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم؛ فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.

ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه).

ومن أمثال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الذي قال لشعبه: (وأيم الله! لا أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندي، وما تبلغُنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم)[3].

والإسلام هو الذي أفرز سياسة العدل والمساواة التي طبَّقها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والتي يؤخذ فيها الحقُّ لصاحبه ولو كان كافراً.

والإسلام هو الذي أوجد ولاة من أمثال عمير بن سعيد الذي جعله عمر بن الخطاب واليه على حمص، فلما استدعاه بعد عام من توليته جاءه في حال رثة، فقال له عمر: (أأجدبت البلاد أم بلاد سوء؟ فقال: ولِم يا أمير المؤمنين، وقد جئتك بالدنيا أجُرُّها بقرابها؟ فقال له عمر: وماذا أخذت من هذه الدنيا؟ فقال: عكازة أتوكأ عليها، وأدفع بها عدواً إن لقيته، ومزوداً فيه الطعام والشراب)، فأرسل عمر من يتتبع الأمر فوجده كما قال، فأرسل له مالاً فلم يلبث عنده حتى قسمه بين الفقراء والمساكين.

والإسلام هو الذي أوجد قضاءً لا يحابي أحداً، ولو كان الخليفة الذي يتربع على هرم السلطة؛ وقد سُجن وعُذِّب كثير من القضاة حين رفضوا الانصياع لأهواء الحكام وأصحاب النفوذ والأموال.

والإسلام هو الذي حفظ الحقوق ونشر الأمن الاجتماعي الذي جعل عمر بن الخطاب يقول: (لئن سلَّمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً)[4].

والإسلام هو الذي أوجد طبقة من الأغنياء يتفاعلون مع مأساة الضعفاء، ويبادرون إلى سد حاجاتهم؛ كما فعل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - حين رفض بيع ألف بعير جاءه من الشام محملاً ببضائع كثيرة، وفضَّل أن يهبه لفقراء المدينة على أن يبيعه لتجارها، وقد أعطوه ضعف الربح مرتين.

والإسلام هو الذي أوجد نظاماً اقتصادياً متكاملاً يضمن تقليص الفوارق بين طبقات المجتمع بعيداً عن الرأسمالية الجشعة التي تضخِّم ثروة القلة على حساب الكثرة البئيسة، والاشتراكية الشيوعية التي تسلِّط الدولة على جهود الأفراد.

والإسلام هو الذي حرر المرأة من قيود الظلم والاحتقار، وعدل بينها وبين الرجل في الحقوق، وسوَّى بينهما في الكرامة والقيام بواجب الإصلاح: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71].

وأيضاً، فإن التراجع عن الاعتزاز بالإسلام والعمل بأحكامه وتوجيهاته على مستوى الفرد والمجتمع، هو السبب الأصلي والأول لما عرفتْه الأمة من انتكاسات على كافة المستويات.

إن هذه القيم السامية والمثل العليا التي جاء بها الإسلام ليست حبيسة (تاريخيةٍ) ولا (إقليميةٍ)؛ بل هي قابلة لأن تُجسَّد  في كل زمان ومكان، في دولة المؤسسات كما في دولة الولايات، وفي الدولة العصرية والحديثة كما في غيرها.

ومن هنا فإن عدداً من العلماء المعاصرين شددوا على ضرورة تعزيز الهوية الإسلامية في التعديلات الدستورية، وعدم المساس بها أو تشريع ما يتنافى مع الأحكام الشرعية القطعية، منهم - على سبيل المثال - شيخنا الدكتور محمد المغراوي الذي عبَّر عن هذا المطلب في ندوات وبيانات وأنشطة مختلفة، فقد نشرت يومية (المساء) بتاريخ: 3 رجب 1432هـ مقالاً تحت عنوان: (المغراوي يتوعد بالرد بصرامة على الدستور الجديد في حالة مخالفته الإسلام) قال كاتبه:

«دعا محمد المغراوي - رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة - المغاربة إلى التعبئة الشاملة والاستعداد للدفاع عن الإسلام ونصرته في الدستور الجديد معرباً عن دعمه لكل الحركات الاحتجاجية المطالِبة بالحقوق شريطة التزامها بحدود الشرع وعدم رفع شعارات كفرية وضلالية.

واعتبر المغراوي في معرِض كلمته خلال ندوة علمية نظمتها منظمة التجديد الطلابي أول أمس في القنيطرة حول موضوع (سؤال الهوية الإسلامية في ظل التحولات السياسية الراهنة)، أن الظرفية الحالية تتطلب تنسيق الجهود والالتفاف حول مطلب صياغة دستور جديد لا يتعارض مع الضوابط الشرعية الإسلامية.

وقال المتحدث الذي حج المئاتُ من أنصاره إلى قصر بلدية القنيطرة لاستقباله: إن على المواطنين الغيورين على دينهم أن يقفوا موقفاً صحيحاً وصارماً إزاء ما قد يتضمنه الدستور من موادَّ تخالف صراحة أحكام الدين الإسلامي، وأضاف: «لن نتساهل مع أي تعديلات تسير في هذا الاتجاه، المغرب بلد مسلم وكل الدول التي تعاقبت على حكمه كانت إسلامية ولن نقبل إطلاقاً بإجازة أشياء تناقض الإسلام».

وعن الموقف مما جاء في الدستور الجديد الذي سيعرَض للاستفتاء في بداية شهر يوليو المقبل كشف المغراوي أنه لا علم له بما جاء فيه لأنه لم يُعرَض عليه ولم يُستشَر بشأنه ولم يتسلم نسخة منه؛ لكنه استطرد قائلاً: على كل حال رغم أن المسودة عُرضَت فقط على زعماء الأحزاب والهيئات الممثَّلة داخل آلية التتبع والتنسيق التي تتابع عمل اللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة الدستور، في وقتٍ تم فيه تغييب العلماء وعدم توجيه النداء إليهم للأخذ بآرائهم في هذا الأمر، فإننا نحرص على مكامن الخلل وأوجه التقصير حين سيعرَض الدستور الجديد على الاستفتاء) اهـ.

 الهوية الإسلامية في الدستور الجديد:

صدرت مسودة الدستور الجديد رسمياً مساء الجمعة 15 رجب 1432هـ، الموافق لـ 17 يونيو 2011م، وذلك بالتزامن مع الخطاب الملكي في الموضوع.

وقد جاء الدستور الجديد معززاً لمكانة الهوية الإسلامية من خلال ديباجته التي نصت على أن (المملكة المغربية دولة إسلامية)، وأن (الهوية المغربية تتميز بتبوُّء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها).

ومن خلال الفصل الثالث الذي نص على أن (الإسلام دين الدولة).

وهذا من المكاسب لصالح الهوية؛ أنه لم يتم استبدال لفظ (دولة إسلامية) بـ (بلد مسلم) كما سعى لذلك أفراد من التيار العلماني؛ لأن مفهوم الدولة في القانون الدستوري يعني الشعب والحكومة والحكم، وهو ما يريد المستعمر من خلال أذنابه أن يتخلص منه ليكتمل إقصاء الشريعة الإسلامية.

ومن خلال التنصيص في الفصل (19) على أن الالتزام بالاتفاقيات والمواثيق الدولية ينبغي أن يكون في نطاق ثوابت المملكة، وعبَّر عنه الخطاب الملكي: (بما لا يتنافى مع أحكام الدين الإسلامي).

وفي الفصل 175: (لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي).

لكن يبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى سيتم تفعيل مقتضيات هذه المعطيات، والعمل على تجسيدها في المنظومة القانونية للدولة؟

كما أننا كنا نود أن يتم التنصيص على سمو الشريعة الإسلامية، وأنها مصدر التشريع في القانون المغربي.


 


 [1]مواقف وآراء رابطة علماء المغرب من التأسيس 1960م إلى المؤتمر العاشر 1987م، ص (99 - 103).

[2] صحيح ابن ماجة للألباني.

[3] حلية الأولياء.

[4] رواه البخاري.

 

أعلى