يمر بنا رمضان كل عام ، فلا يجد فيه كثير من الدعاة
والمصلحين المعين الذي يجدد الإيمان في قلوبهم ويعينهم على مواصلة ما نذروا أنفسهم
للقيام به من دعوة وإرشاد وتربية للناس على مفاهيم هذا الدين ، وتعليمهم ما
يحتاجون إليه في أمر دينهم .
إن رمضان الذي مرَّ على الأمة سابقاً ، وأثّرَ فيها
تأثيراً عميقاً ولا نجد له مثيلاً في حياتنا هو رمضان نفسه .
والقرآن الذي تلاه سلفنا الصالح وحرّك كوامن
الإيمان في قلوبهم وملأها بالخوف والخشية هو القرآن الذي نقلبه بين أيدينا في
عصرنا هذا ، فلماذا تغيرت أحوالنا عن أحوالهم ؟ وما هو الخلل الذي حدث في حياتنا
؟إننا حين نقف مع هذه الظاهرة الخطيرة في نفوس الدعاة والمصلحين نلحظ الأسباب
التالية :
أولاً : خطأ كثير من الدعاة في تغليب
الاهتمام بالآخرين على حساب الاهتمام بالنفس ، والفهم الخاطئ للنصوص التي جاءت
مرغبة للخير في هذا الشهر .
ومن تلك النصوص :
1 - « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان »[1] ؛ حيث يفهم الكثير من هذا النص أن من أنواع
الجود التي يمكن أن يقدمها الداعية الجود بالوقت في تعليم الناس وتوجيههم ،
والتفرغ لهم « كما هو معروف من أنواع الجود المختلفة » .
وهذا فهم فيه شيءٌ من الصحة ، ولكن لا يعني
بالضرورة الجود بالوقت كله للآخرين وإهمال النفس ؛ لأن النفس الجزء الأكبر من
الجود بشغلها بالطاعات والقربات لتطهر ولتتزكى ، وخصوصاً أنها هي مصدر الجود الذي
يراد بذله للآخرين .
ومن هذه النصوص :
2 - « إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ،
وصفدت الشياطين »[2] .
حيث يفهم بعضنا من هذا النص أن نفوس الناس
يحصل لها من التهيؤ لتقبل الخير في رمضان ما
لا يحصل في غيره ؛ وذلك لأن الشياطين تُصفد فلا تخلص إلى ما كانت تخلص إليه في غير
رمضان . وهذه بالطبع فرصة سانحة لزيادة التأثير
على الناس وترقيق قلوبهم وربطها بالله تعالى .
وهذا فهم صائب ، ولكن الخطأ دم الموازنة بين
الأمور وعدم تقديم الأولويات ؛ فالنفس هي أحق من تُقتنص لها الفرص لتعبيدها وتذليلها
وتعويدها على جوانب العبادة المختلفة .
ثانياً : نسيان كثير من المصلحين أن النفوس
العاجزة عن التأثير في ذاتها وقصرها على جوانب العبادة المختلفة ستكون أشد عجزاً
عن التأثير في الآخرين وغرس المبادئ والقيم الخيّرة في نفوسهم ، وهذا هو مضمون
العبارة التي تقول : « فاقد الشيء لا يعطيه » .
- إذ كيف يوصل الإيمان للقلوب ويعلقها بالله
قلب مقطوع عن الله ؟
- وكيف يرقق القلوب ويغذيها بالخوف والخشية
قلب قاسٍ لم يتمرغ في طاعة الله ، ولم تدمع عين صاحبه من خشية الله ، ولم تتغذَّ
روحه بالصلاة والقيام وتلاوة القرآن ؟
ثالثاً : الغفلة عن حال نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم وهو أعظم الدعاة ، وعن حال السلف الصالح .
- فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم : « كان
ينزل عليه جبريل في رمضان كل
ليلة فيعارضه القرآن »[3] ، متفق عليه بلفظ « فيدارسه القرآن » .
- وكان صلى الله عليه وسلم « إذا دخل العشر
أحيا ليله ، وأيقظ أهله ، وشدَّ المئزر »[4] .
- يقول ابن القيم : « وكان هديه صلى الله
عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات » .
- وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان أوقف حلقات العلم وكفَّ عن التدريس والفتيا
وقال :« هذا شهر رمضان » .
فكل هذه النصوص تعطي للدعاة درساً في وجوب
الاهتمام بالنفس قبل الاهتمام بالغير .
* يا صُنّاع الحياة !
إن اهتمامكم بأنفسكم
وصلتكم بالله هي من الدعوة ذاتها ؛ لأنها المعين الأول لكم بعد توفيق الله على
مواصلة جهدكم في دعوة الناس وتعليمهم وإصلاح فساد مجتمعاتنا ، والتي تحتاج إلى ثقة
كبيرة بنصر الله لهذا الدين مهما بلغ حجم الانحراف والفساد في هذه الأمة ، وهذا ما
تغرسه العبادة والاتصال بالله في النفوس حتى لا تقع ضحية اليأس والإحباط من
التغيير .
* وأخيراً : لا يعني كلامي هذا أن يتفرغ الدعاة
والمصلحون لأنفسهم ، ويتركوا الميدان للمفسدين والمضللين ودعاة الشر بحجة الاهتمام
بالنفس قبل الغير ، ولا يعني في المقابل أن يبذلوا لهم كل أوقاتهم وجهودهم بل
التوسط مطلوب في كل الأمور . فكلا طرفي قصد الأمور ذميم ؛ كما قيل . والوقت فيه
مُتَّسع لهذا وذاك إذا أخلصنا النيات وجردنا المقاصد ورتبنا أولوياتنا ، واستبعدنا
كثيراً من الأمور التي تُعدُّ من الترف ، أو يمكن قضاؤها بعد رمضان .
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(4) متفق عليه .