التمثيل هو :
محاكاة لأحداثٍ واقعيةٍ أو متخيَّلةٍ بقصد التأثير
في المشاهدين بطريقةٍ غير مباشرة .
وقد اتفق أهل العلم على حرمة التمثيل المقترن
بالمحرمات ، المتحلِّل من القيود الشرعية ، المتضمِّن لِبَثِّ الفجور والمجون ، والانحرافات
الفكرية والخُلُقية بين الناس ، وهو - وللأسف - أكثر ما يُعرض في القنوات الفضائية
والبرامج التلفزيونية .
لكنهم اختلفوا في حكم التمثيل من حيث هو ، بغضِّ
النظر عن محتواه وما اتصل به ما بين محرِّم ومبيح ، فمَنْ حرَّمه جعله لوناً من ألوان
الكذب والتزوير ؛ والكذب محرَّمٌ باتفاقٍ ؛ ومَنْ أباحه رأى أنه لا يعدو أن يكون نوعاً
من الحكاية للواقع لا أنه إخبار عن الواقع بخلاف ما هو عليه ، والظاهر جوازه ؛ إذ الأصل
إباحة الحكاية إذا لم تكن على وجه التنقُّص والازدراء للبراءة الأصلية ، وقد جاءت بعض
الأدلة الشرعية المؤكِّدة لأصل إباحة المحاكاة ؛ فمن ذلك ما ذكره ابن مسعود - رضي الله
عنه - حيث قال : كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيّاً
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ
وَجْهِهِ وَيَقُولُ : « اللَّهُمَّ ! اغْفِرْ لِقَوْمِي ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
» [1] ، ففيه حكاية من النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله لِمَا جرى
من ذلك النبي - عليه السلام - وهو دالٌّ على جواز هذه المحاكاة .
ومنه أيضاً ما ذكره أبو هريرة - رضي الله عنه
- في قصة مَنْ تكلم في المهد وفيه : ( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم يَمُصُّ إِصْبَعَهُ ) [2] ، قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا
الحديث : « وفيه المبالغة في إيضاح الخبر بتمثيله بالفعل » [3] ، وغير ذلك
من الدلائل والشواهد .
ومما ينبغي التأكيد عليه أن القائلين بإباحة
التمثيل من أهل العلم - وهُم كُثُر - وضعوا له شروطاً وضوابط لا بد من التزامها والانضباط
بها ، ومتى تخلفت هذه الضوابط والشروط ، صار التمثيل محرماً وعُدَّ مخالفةً شرعيةً
.
والإحاطة بهذه الشروط والضوابط والعلم بها متعيِّن
على كل من أراد الدخول في عالم التمثيل واقتحام فضاءاته ، خصوصاً المربين الذين يقومون
على تربية الشباب في مختلف المناشط الخيرية ، في المراكز الصيفية والمخيمات الشبابية
والأنشطة التوعوية ، ممن قد يستعملون هذه الوسيلة في التأثير .
وتزداد الحاجة إلى معرفة هذه الضوابط مع اتساع
رقعة التمثيل في العمل الإسلامي باتساع رقعة الفضاء الإعلامي ، وقيام الدعوات لتقديم
البدائل الإسلامية في مجال : الفن ، والدراما ، والمسلسلات ، والأفلام ... وغيرها
.
ومن المؤلم دخول كثيرٍ من الأخيارِ هذا المجال
مريدين للخير ونشر الدعوة ؛ ثم تجد منهم ألواناً من التساهل المذموم في التزام هذه
الضوابط مع تعلُّقهم بأقوال من أباح التمثيل من أهل العلم ، وكأن أولئك العلماء ما
تكلموا في شروط وضوابط ؛ وكأنهم قد أباحوا كافة صور التمثيل .
فالواجب على من أراد التعلُّق بكلام أهل العلم
في هذه المسألة مراعاة ما وضعوه من الضوابط والشروط ، لا الأخذ بطرفٍ من كلامهم وبتر
أطراف .
ولستُ بالذي ينكر أثر التمثيل في عقول الناس
وأخلاقهم ، وأهمية الاستفادة منه في تبليغ الخير ومزاحمة الشر خصوصاً في هذا الزمان
، الذي كثرت فيه وسائل الشر وطرائقه ، وأعيد تشكيل عقول الناس ووعيهم ؛ فصار التمثيل
من « اللسان » الذي يتعقله كثيرٌ من الناس ويتفهمونه ، وما عليك إلاَّ أن تنظر في واقع
الأفلام والمسلسلات وحجم تأثيرها في حياة الناس ؛ لتعلم ضخامة هذا التأثير ، وما يمكن
أن يحققه من خيرٍ وشرٍ ، وإصلاحٍ وإفسادٍ .
فمَنْ أراد استعمال التمثيل في نشر الخير ومدافعة
الشر فلا تثريب عليه – إن شاء الله - إن هو التزم المباح منه وجانَبَ المحظور بالتزام
شروط وضوابط الإباحة .
أما التساهل في الحرام طلباً لتحصيل الخير فلا
شك في حرمته ؛ إذ الغاية لا تبرر الوسيلة ، وإرادة الخير لا تبرر الخطأ ، وكم من مريد
للخير لم يصبه ، بل الواجب تحصيل المقاصد الحسنة بالوسائل الحسنة ، وسلوك طريق الخير
لتحصيل الخير .
أما الحرام فليس طريقاً للخير ، ولم يجعل الله
شفاء أمته فيما حَرَّمَ عليها .
ولست أدعي أن كافة ما ستراه من ضوابط وشروط هي
محل اتفاق بين أهل العلم - وإن كان جُلُّها كذلك - بل منها ما يتسع فيه الخلاف ويَسَعُ
فيه الاجتهاد ، منبهاً إلى عدم جواز الاتكاء على مجرد وجود الخلاف في المسألة لإباحة
فعلها ، أو الاستدلال باختلاف أهل العلم في ضابطٍ للتفلت منه ، بل الواجب النظر في
دلالات الشريعة ومقتضيات الأدلة طلباً لحكم الله في المسائل ؛ فمن وُفِّق إلى بذل الجهد
طلباً لمراد الله ، فهو الموفق للأجر وإن أخطأ ، وإلاَّ كان مخطئاً في فعله أصاب الحق
في المسألة أو أخطأه .
أما ضوابط وشروط « التمثيل المباح » فأهمها
ما يلي :
1 - وجود الحاجة الداعية إليه شرعاً ، تحقيقاً
لمصلحةٍ معْتَبرةٍ أو دفعاً
لمفسدةٍ
معْتَبرةٍ ، وثمَّةَ في الواقع حاجةٌ بل حاجاتٌ
تدعو إلى الاستفادة من التمثيل
كوسيلة للدعوة
إلى الأخلاق الحميدة والأفكار السليمة ومزاحمة الشر بالترفيه المباح ،
مع التنبُّه إلى تأخُّر رتبة هذه الوسيلة بالمقارنة
مع غيرها من وسائل الدعوة القائمة
على تبليغ
القرآن وتبليغ السُّنة ونشر فِقهِهِما ، بالموعظة والتذكير ، والمحاورة
والتعليم ، والاقتداء والائتساء ؛ فلا ينبغي
التوسع فيه حتى يصير غايةً في نفسه ،أو يُتوهم أنه الوسيلة الأهم في باب الدعوة ، أو
يُتشاغل به عمَّا هو أَوْلى منه ...
وهكذا .
2 - ألاَّ يقترن به محرَّمٌ :
كوجود آلات اللهو والمعازف ، ومثلها الأناشيد
المشتملة على الإيقاعات والمؤثرات التي هي في حكم الموسيقى ، أو ظهور النساء للرجال
ولو بحجاب ، أو الاختلاط بين الجنسين وما قد يتبعه من مصافحة وضم وغيره ، أو الإسفاف
والابتذال ، أو نشر الفجور وبثُّ الرذيلة ، أو وَصْلُ الشعر طلباً للتجمُّل ؛ فإن خلا
من قصد التجمُّل ، فمحلُّ تردُّدٍ والأحوط تركه ، أو السخرية والاستهزاء بمعيَّنٍ أو
طائفةٍ : كتمثيل أعرجَ أو أخرسَ أو أعمى أو جنسية أو لهجة قومٍ على وجه التنقص ؛ فإن
لم يكن على وجه التنقص فلا بأس به ، وغير ذلك من عموم الذنوب والمعاصي .
3 - عدم تمثيل مَنْ يَحْرُم التشبه بهم ،
أو من يكون في تمثيلهم انتقاص من قَدْرِهم :
كالأنبياء والملائكة - قطعاً - ومثلهم الصحابة ، وكبار العلماء والصالحين على خلاف
بين أهل العلم فيهم .
وأما من يَحْرُم تمثيلهم لحرمة التشبه بهم ؛
فتمثيل الرجال لأدوار النساء والعكس ، وكذا التشبه بالحيوانات في حركاتها أو أصواتها
إلاَّ ما كان يسيراً على وجه مداعبة الأطفال خاصة ، والأصل حرمة تمثيل أدوار الكفار
والعصاة ، وقد يُستثنى من هذا الأصل ما كان فيه مصلحة راجحة بشرط أن لا يصدر من صاحبه
قولٌ أو فعلٌ مكفِّرٌ أو معصيةٌ حقيقيةٌ : كسجود لصنمٍ ، أو سب الله والدين ، أو شرب
الدخان ، أو حلق اللحية أو غير ذلك ، ومثله العاصي فيجوز تمثيله والتظاهر بفعل المعصية
لا فعلها حقيقةً ، طلباً للتنفير منها في حال المصلحة الراجحة ، خصوصاً فيما شاع من
المعاصي ، أما ما لم ينتشر منها فالأَوْلى عدم التنبيه إليها ، خشيةً من إذاعتها ونشرها
.
والأَوْلى بكل حالٍ اجتناب الخوض في هذا الاستثناء
ما أمكن ؛ إذ هو على خلاف الأصل ، ومحل شبهةٍ ؛ ينبغي على من يعالج تربية الشباب الصالح
أن يتجنبه ولا يتوسع فيه .
4 - عدم تمثيل عوالم الغيب :
فلا يجوز تمثيل أدوار الملائكة ونحوهم ، أو وقائع
يوم القيامة : كالبعث والحشر وعَرْضِ صحائف الأعمال ومشهد الحوض والورود على الصراط
... وغير ذلك ، وكذا أحوال الجنة والنار وسائر المغيبات ؛ فإن في تمثيل هذه المشاهد
قولاً على الله - تعالى - بغير علم ، وتوهيناً من قَدْرها ومنزلتها .
5 - ألاَّ يتضمن التمثيل دعوةً لمحرَّمٍ ،
من عقائدَ كفريةٍ ، أو بدعٍ رديةٍ ، أو معاصٍ
وذنوبٍ ؛ إذ الدعوة للحرام حرام ، بل قد يكون صاحبه أشد إثماً ووزراً .
6 - أن لا يتضمن التمثيل كذباً وتزويراً
للواقع والتاريخ ، أو الأشخاص والطوائف ، أو
على الشرع والدين .
7 - ألاَّ يؤدي التمثيل إلى أمر محرَّم :
كالصد عن ذكر الله ، أو التشاغل عمَّا هو أوجب
منه ، أو تضييع للأوقات والطاقات والأموال بما لا يفي بمصلحة التمثيل .
ومما أؤكد عليه أن ما عُلِّق من الأحكام والضوابط
على تحقُّق المصلحة الراجحة فالمقصود مراعاة المصلحة الشرعية المعتَبَرة التي يقدرها
أهل العلم ؛ فإن الفقه الحقيقي في معرفة مَحَالِّ هذه المصالح والمفاسد ، وإدراك خير
الخيرين وشَرِّ الشرين ، والموازنة بين منازل المصالح والمفاسد ، وهذه خاصيَّة أهل
العلم ؛ فالأصل الرجوع إليهم في تحقيق هذه المسائل واستشارتهم بتصوير حقيقة النازلة
من كافة جهاتها ، وبيان ما يمكن أن يترتب عليها من المصالح والمفاسد ، ويُترك لهم الحكم
بعد ذلك فيها ، عملاً بقول الله - تعالى - :
{
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ
}
( النحل : 43 )
.
وأنبِّه أيضاً إلى أنه ينبغي الأخذ من هذا الأسلوب
بقدرٍ ؛ فإن في الإكثار من
هذه الوسيلة تشاغلاً عمَّا هو أَوْلى وأحرى ،
وهو مظنة الوقوع في شيء من المحظورات والتخفف من بعض الضوابط ، والواقع شاهد بهذا
.
ومهما قيل عن فوائد التمثيل والإنشاد ونحوهما
، فينبغي التأكيد على أن من الخطأ البالغ أن يُبالِغ المربون في صرف الشباب الصالح
إلى مثل تلك المناشط التي تصدهم - غالباً - عمَّا هو أنفع لهم في أمر دينهم ؛ من التزود
من العلم النافع ، والعمل الصالح ، وحفظ كتاب الله ، والتفقه فيه ، وتربية النفوس على
التقوى والخشية والخوف من الله .
وأما عامة الناس ومخاطبتهم « بلغة التمثيل »
فأحسب أن لهم في هذا الباب فقهاً أوسع وأرحب من فقه مَنْ تقَدَّم .
والمصالح المعتبرة في حقهم لا تساوي ضرورةً المصالح
المعتبَرة في حق الشباب الصالح ، وما يليق بهم وبأحوالهم قد يكون أوسع دائرةً من اللائق
بأحوال أهل الاستقامة .
وإن في صرف عموم الناس عن متابعة « التمثيل المحرَّم
» إلى مشاهدة « التمثيل المباح » خيراً ، وتقديم « البدائل المشروعة » لا شك مشروعٌ
، وتخفيف « الشر الحاصل » لا ريب مطلوبٌ ، وهو يستدعي من المتخصصين في الصناعة الإعلامية
والقائمين على القنوات الفضائية وأصحاب رؤوس الأموال عناية بهذا المجال ، وبذلاً وعطاءً
، شريطة الانضباط بضوابط الشرع في ما يُقدِّمون ، وعدم التساهل والتسامح في شيءٍ من
الحرام ؛ فإن « الحرام » لا يُعَالَج « بالحرام » ،و « الخطأ » لا يُصحَّح « بالخطأ
» ، وإنما يُصحَّح « الخطأ » « بالصواب » ويُعَالَج « الحرام » « بالحلال » ،
{
وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا
}( النحل : 92 )
.
أسأل الله الكريم أن يثبتنا على شرعه القويم
ويجعلنا هداة لدينه الحق ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
.
• مراجع يَحْسُن الرجوع إليها للمهتمين :
-
« حكم التمثيل في الدعوة إلى الله » لعبد الله آل هادي .
-
« حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية » لصالح الغزالي .
-
« أحكام التمثيل في الفقه الإسلامي » لمحمد بن موسى .
(1) رواه البخاري 3477, و مسلم 4747 .
(2) رواه البخاري 3436 .
(3) فتح الباري 6/483 .