تدفع
العاطفة القوية صاحبها دفعةً ربما أخلّت بتوازنه ، وربما تحكمت كثيراً فيما يطرحه
، وأدت به إلى عدم اتزان ، ومبالغات تحوي مخالفات شرعية .
استمعت
لأحد الوعاظ الغيورين يتحدث للمصلين مع مطلع شهر رمضان
حول القنوات الفضائية ، وانطلق في حديثه من قوله : (يا باغي الخير أقبل) وأقسم
أيْماناً عدة أنه ليس في جميع هؤلاء من يبغي الخير ومن يريده .
إنه
وإن كان كثير من هؤلاء يعلن المعصية ويظهرها ، إلا أنهم ليسوا في درجة واحدة ،
وربما كان فيهم من المصلين البعيدين عن الفواحش والآثام ، لكن غلبه هواه ، أو ضعفت
قوامته على أهله .
وبعد
ذلك بأيام سمعت آخر يتحدث عن أولئك الذين لا يشهدون الصلاة مع المسلمين إلا في رمضان ، فقال : (والله إنهم يحبون الله ورسوله ،
ويريدون الخير لكن يغلبهم هواهم) إنه تطرف آخر .
إن
المسلم لا يمكن أن يشهد للمصلين الخاشعين أمامه بهذه القضية ؛ التي هي قضية قلبية
، فكيف يقسم على أن جميع الذين لا يشهدون الصلوات مع
المسلمين في غير رمضان يحبون الله ورسوله ؟ أليس التخلف عن صلاة الفجر والعشاء من
علامات أهل النفاق بنص كلام النبي ؟ فعن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال :
صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً الصبح فقال : (أشاهدٌ فلان ؟ ) قالوا : لا ، قال : (أشاهدٌ فلان ؟ ) قالوا : لا ، قال : (إن هاتين الصلاتين
أثقل الصلوات على المنافقين ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على
الرّكب..)[1]
.
ويذكر
الشيخ عبد اللطيف السبكي أن أحد الخطباء في الأزهر خطب حول حديث : (وأتبع السيئة
الحسنة تمحها) ، فهوّن أمر المعصية ، وذكر أن الله فطر الناس عليها ، حتى قال
بالحرف الواحد : (إن الله لم يقل للناس لا تسيئوا ، ولكن قال إذا أسأتم فاستغفروا)
.
إذن فما معنى أن تكون السيئة سيئة ؟ ومن أين له في كتاب الله وسنة
رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن الله لم
يقل للناس : لا تسيئوا ؟ وأين هؤلاء عما أُثِر عن
علي -رضي الله عنه- أنه قال : (ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقية : من لم يقنط الناس
من رحمة الله ، ولم يُرخص لهم في معاصي الله ، ولم يؤمنهم مكر الله)[2] .
لقد
غلّب الرجل الأول جانب الخوف ، وأشفق مما يرى من كثرة الفساد وطرقه ، والأخرون
غلّبوا حرصهم على هؤلاء العصاة ورغبتهم في إعادتهم إلى ركاب الطائعين .
فما
أجدر الدعاة والوعاظ أن يكونوا معتدلين فيما يطرحونه للناس بأن يعتدلوا في حماسهم
لمشروع أو برنامج أو ظاهرة من الظواهر ، وأن يعتدلوا حين يخاطبون الناس ويزنوا
ألفاظهم بميزان الشرع ؛ فالإفراط والمبالغة قد تؤدي إلى نتائج معاكسة لما يريد
صاحبها ، وسنة الله قائمة في الكون أجمع على الاعتدال .
إن
استخدام الأسماء والألفاظ الشرعية ، وسعة الثقافة والاطلاع ، وعمق النظر للقضايا ،
والشمول وعدم نظر الأمور من زاوية واحدة ، وهدوء الطبع والاتزان ، والتربية
السليمة ، إن ذلك كله يمكن أن يسهم إلى حد كبير في التخفيف من اللغة واللهجة
الحادة التي تسيطر على حديث بعضنا أحياناً .
اللهم
إنا نسألك السداد في القول والعمل ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
(1) رواه أحمد (30758) ، وأبو داود (554) ، والنسائي (843) .
(2) تذكرة الحفاظ (1/13) .