العنصر
البشري هو الأساس لكل نهضة ، وهو العماد لكل حركة ، وبدونه تموت في مهدها أي فكرة
. وعندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على العطاء ، فإنما هم بذلك يصدرون
حكماً بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم ، شاؤوا أم أبوا .
وذلك
أنهم بتقريرهم هذا الشعور ، يعلنون العزم المبيت على تجميد الحركة والعمل ليصبح ذلك
المجتمع بعد ذلك كالجثة الهامدة . إن هذه الظواهر الاجتماعية التي يعرفها الخاص والعام
، قد جاءت نصوص الشريعة بتقرير الحقائق عنها ، فهي ثابتة لا تتغير ، وكونية لا تتبدل
، قال عليه الصلاة والسلام : (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم) [1] رواه مسلم .
لقد
كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم المسؤولية الفردية القائمة
على الإحساس بالعزة الإيمانية ؛ فجعلتهم مشاعل هداية ، ونماذج فريدة في البذل والعطاء
والتضحية ، فكان الواحد منهم بأمة . فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- يقدُمُ المدينة
سفيراً للإسلام ، فلا يحول الحول إلا وقد دخل الإسلام أكثر بيوت المدينة .
وهذا
نعيم بن مسعود الغطفاني لا يكاد يُسلم حتى يؤدي دوره فيُخذّل جيوش الأحزاب .
وتأمل
دور أبي بكر في الردة ، وأحمد بن حنبل في الفتنة ، وصلاح الدين في الذلة ، كلهم أفراد
غيروا مسار الأحداث ، وأعادوا كتابة التاريخ ، وهذا غيض من فيض .
أولئك
آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير
المجامع
إن
مما يجدر بنا أن نستحضره في كل حين ؛ أنه لا أحد في المجتمع المسلم يمكن أن يوضع في
خانة : (غير قادر على العطاء) ، بل الجميع يملكون شيئاً ما إن لم يكن أشياء يستطيعون
من خلاله خدمة أمتهم . وهذا النسق الاجتماعي ، قد قرره المصطفى -صلى الله عليه وسلم-
بقوله وفعله ، والتزمته الأمة الإسلامية منذ فجرها الأول .
فلو
نظرنا إلى حديث الهجرة مثلاً ، لتجلّى لنا ذلك في أروع صوره ؛ فالصدّيق أمينُ السر
ورفيق السفر ، والجارية تحفظ السر وترتب الزاد ، والصبي ينقل الأخبار ويعفو الآثار
، كل ذلك في صورة مشرقة لتنوع البذل بحسب القدرة .
وفي
المدينة يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس للبذل قائلاً : (تصدق رجل من ديناره
، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بُره ، من صاع تمره ، حتى قال : ولو بشق تمرة) [2] .
بل
وفي قمة أعمال البذل والعطاء في الجهاد في سبيل الله يبرز هذا المعلم الإسلامي في أجلى
صوره ؛ فالكل يبذل ، والجميع يُضحي ، حتى إذا بقي الضعفة والمساكين الذين لا مال لهم
ولا قوة يجاهدون بها ، يبقى لهم دورهم الذي ينبه إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بقوله : (إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها ؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) [3] .
إن
خطر وأد الذوات وتحييدها عن العطاء ، لا يمكن تجاهله أو تناسيه خاصة في هذه الحقبة
، التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب . وإن هذا الخطر مما ينبغي تداركه وعلاجه
حسماً لداء المُواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي المنهك . ومما يحسن الختام به
التنبيه إلى أن صور وأد الذوات تكون من التعدد وعدم الوضوح أحياناً ؛ بحيث يصعب التفطن
لها ، ومن ذلك :
1- إحجام الفرد عن البذل ، أو ممارسة عمل ما
بحجة أنه ليس أهـلاً لذلك ، لأي عذر يرتئيه .
2- إيهام النفس بأنه لا يُحتاج إليه في هذا
المضمار ؛ لأنه قد امتلأ بغيره ، في الوقت الذي قد لا يكون الأمر كذلك ؛ بل ومن المحتمل
أن يكون نفس الوهم منتشراً بين العديدين ؛ فيؤدي ذلك إلى أن الجميع يتركون العمل فيصبح
هذا المضمار خالياً تماماً .
3- التحايل على النفس بأن الإنسان إنما هو فرد
لا يملك التغيير أو البذل أو العطاء ؛ لأن (التيار جارف) و (اليد الواحدة لا تصفق)
، متناسياً بذلك أصل المسؤولية الفردية في الإسلام .
هذه
بعض الصور من الأفراد أنفسهم ، وقد تحصل صور أخرى ممن يتولى الريادة والقيادة وذلك
مثل :
1- ألا تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية
لدى الأفراد كل بحسبه ، فتُقتل القدرات ويُخْنَق الإبداع ، وقد خلق الله الناس مختلفين
: منهم (القادة) ومنهم (الساقه) و (قد جعل الله لكل شيء قدراً) .
2- ألا يُنْظَر إلى الجميع عند توزيع الأعمال
؛ بل تتكرر نفس الوجوه دائماً لكل الأعمال ، وهذا يقتل الفئتين ؛ فالعاملة تنهك بالأعمال
؛ حتى تصبح غير قادرة على العطاء المثمر ، كما تَفُوتُ الاستفادة منهم فيما لا يحسنه
إلا هم ، وأما الكثرة الباقية فتبقى أرقاماً لا رصيد لها في واقع الحياة .
3- الحكم بالإخفاق المؤبد على من يُسند له عمل
ما ، ثم لا يتقنه ، في الوقت الذي قد يحسن غيرَه ، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد
هذا العمل له وهو لا يحسنه .
(1) أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، رقم 2623 ، ص 1053 .
(2) أخرجه مسلم ، كتاب االزكاة ، باب (الحث على الصدقة ولو بشق) ، رقم
1017 ، ص392 .
(3) صحيح الجامع/2384 .