• - الموافق2024/04/28م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بلاغ الرسالة القرآنية معالم في المنهج الدعوي

بلاغ الرسالة القرآنية معالم في المنهج الدعوي


{ هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } (إبراهيم : 52).

مقدمة :

عندما نهمل التدبر لبعض المنطلقات المنهجية للعمل الإسلامي بحجة أنها من البَدَهِيّات الإسلامية ، ومن المعلومات من الدين بالضرورة ؛ فإننا كثيراً ما نقع في الانحراف عنها تدريجياً ، فلا نشعر بذلك إلا بعد فوات الأوان ! ذلك أن الانغماس في الشأن اليومي السياسي ، والنقابي ، والاجتماعي العام للحركة الإسلامية ؛ قد يصنع مناخاً سيئاً لتربية الخَلَف من النشء الإسلامي .

وكذلك الدوران الداخلي حول الذات الحركية عندما تثقل أعباء العمل الإدارية والتنظيمية الداخلية ؛ فكل ذلك قد ينسي الجيل الجديد أنه يشتغل ضمن حركة إسلامية قامت أساساً على أصل تعبدي ، وقد يعصف الصراع السياسي الدائر في المجتمع بالبقية الباقية من الإحساس التعبدي في العمل لدى كثير من الشباب ، فتبدأ النتوءات المنحرفة في الفكر والممارسة تبدو من هنا وهناك ، وهو ما لاحظناه فعلاً في بعض القطاعات الطلابية والنقابية والسياسية التي أنشأها العمل الإسلامي أساساً لإقامة الدين وعدم التفرق فيه ؛ مما يفرض على ذوي الرأي والتوجيه في الحركة الإسلامية ضرورة الحرص في العمل التربوي على تجديد الوعي بالمنطلقات المنهجية ، والثوابت الدينية في كل عمل يراد له أن يكون إسلامياً .

وأحسب أن أول ما ينبغي أن نأخذه من المفهومات بقوة ، هو :مفهوم (القرآن)؛ من حيث هو المتن الرئيس لرسالة الله إلى الناس ، والمؤسِّس لمقاصد التعبد في كل عمل .

هذا خطاب الشباب اليوم في المنتديات،والجامعات،وسائر أنواع التجمعات،هو في أغلبه خطاب فكري متخشب ، لا نداوة فيه ولا طراوة . فيه كل شيء من النصوص والاستشهادات والمرجعيات إلا آيات القرآن العظيم ونصوص السنة النبوية ! تفرقت بهم الأهواء بين أقوال المفكرين والسياسيين من الزعماء والعلماء ، حتى أحلُّوها في أنفسهم في بعض الأحيان محل القرآن ، تقديساً وتوقيراً ، ولو ذكرت له : ( قال الله ، قال رسوله ) لوجدت منه استهجاناً على المستوى النفسي والعياذ بالله قد لا يشعر به هو نفسه ؛ لأنك إنما تحدثه بما هو ( معروف ) ، وبما هو ( متداول ) لا بما هو ( جديد ) ، هكذا ! ولقد بلغ الزيغ والضلال ببعض النابتة ممن يُحسَبون على الحركة الإسلامية أن صاروا إلى تمجيد كتابات بعض العلمانيين المتلبسين بالمسوح الإسلامية ، من أمثال الدكتور نصر حامد أبو زيد ، والدكتور حسن حنفي ! أما النهل من كتابات الروافض خاصة في الظروف السياسية الراهنة المعروفة فحدث ولا حرج ! فماذا إذن تنتظر من حركة ينهل شبابها من كتابات أمثال هؤلاء ؟ ! إن عدم توحيد المرجعية ، وعدم ضبط المنطلقات لن يضمن استمرار التوجه الإسلامي الصرف لأي حركة قامت في الأصل على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم غفلت عن ( بدهياتها ) .

إن القول بوجوب رجوعنا إلى القرآن الكريم ليس بمعنى تزيين الكلام بآية أو أخرى هكذا اعتباطاً ، ولكنه رجوع منهجي مبدئي يجب أن يتقرر في الأذهان ، ويستقر في الوجدان ؛ ليكون فعلاً نوراً يمشي به المسلم في طريقه إلى الله ، ويبقى ذاكراً جيداً أنه بهذا العمل السياسي ، أو النقابي ، أو الاجتماعي ، أو الإعلامي ... إلخ ، إنما يعبد الله . هذا هو الأصل العظيم الذي كثيراً ما يغيب ، فيغيب معه كل شيء ؛ لأنه ( الفصل الجوهري ) على حد تعبير المناطقة الذي يَسِمُ العمل بوصف ( الإسلامية ) .

الإسلام بلاغ : من أخطر مزالق العمل الإسلامي أن يغيب عنه في خضم الصراع السياسي ، والتدافع الاجتماعي ، أن طبيعة مشروعه قائمة أصلاً على أنه ( رسالة ربانية ) بالقصد الأول ، وجب على حملتها الانضباط إلى شروط الأمانة في تبليغها ، كما تقتضيه شروطها هي ، لا كما تقتضيه أمزجتهم هم حسب أغراضهم وأهوائهم .

إن ( البلاغ ) بمفهومه القرآني هو أصل العمل الدعوي ؛ ذلك أنه بصيغته هذه مشترك الدلالة بين معنيين : لازم ، ومتعد . فهو بلاغ في ذاته ، أي أنه مضمون رسالي جاء من رب العالمين يحمل عدداً من البلاغات الربانية إلى الناس أجمعين ، ثم هو مقصود بـ ( البلاغ ) تكليفاً ، أي بالتبليغ ؛ ذلك أن ( البلاغ ) يرد في العربية بمعنى ( التبليغ ، والإبلاغ ) أيضاً ؛ فهو لفظ مزدوج الدلالة ، وكذلك ورد في القرآن كما سترى بحول الله . جاء في لسان العرب : ( والبَلاغُ : الإبْلاغُ . وفي التنزيل : { إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ } ( الجن : 23 ) ، أي لا أَجِدُ مَنْجى إلا أن أُبَلِّغَ عن اللهِ ما أُرْسِلْتُ به . والإبلاغُ : الإيصالُ ، وكذلك التَبْلِيغُ ، والاسم منه البَلاغُ ) [1] .

قلت : هذا أصل عظيم في الدين وجب الثبات على تذكره والتذكير به ، بلا ملل ولا خجل ، والتأكد من سلامة استقراره في الوجدان الحركي للعمل الإسلامي ؛ ذلك أن دوَّامة التدافع الدولي والاجتماعي المعاصر كفيلة بجرف الماء عن أبسط منطلقاته ، وأوضح مبادئه ، في أي لحظة من لحظات انغماسه الإداري والتنظيمي في وطيس الاستفزازات السياسية ، والمنافسات التنظيمية ، إلا أن يعتصم بالمناط الرسالي لعمله ، يدور معه حيث دار وجوداً وعدماً ، في كل أمره ، جليله وحقيره ، وبيان ذلك كما يلي :

سألني أحد المحبين يوماً في غمرة الحيرة التي انتابته ؛ إذ لاحظ ما آل إليه الوضع الإيماني من انحطاط ، في بعض مظاهر العمل الإسلامي الراجعة إلى نوع من الاستفزازات ، وبعض ردود الأفعال ، قال : كيف نجدد ديننا ؟ قلت : هناك سؤالان كبيران يرتبطان بوجود الإنسان في الكون ، ويحددان مصيره فيه ، وهما أول الخطو في طريق المعرفة الربانية التي هي مرجع كل عمل إسلامي ، وأساس كل تجديد ديني ، لكن قلما نضعهما نحن المسلمين اليوم على أنفسنا ؛ لأننا نزعم أننا نعرف الجواب بداهة ؛ فهل حصل لك أن جردت نفسك من نفسك وسألتها يوماً كأنها شخص آخر :

السؤال الأول : هل تعرفين الله ؟

السؤال الثاني : هل تعرفين القرآن ؟

المشكلة هي أننا عندما نكتفي بـ ( نعم ) نكف بها عن البحث ، وننقطع عن السير في طريق المعرفة الربانية ، واستكشاف هذا القرآن العظيم ؛ ومن ثم نفقد بوصلة الصراط المستقيم في عملنا الدعوي .

افترض إذن أنك مثلي لا تملك الحقيقة كاملة ، ولنتابع البحث معاً : ألسنا مسلمين ؟ ألسنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ بلى طبعاً .

هذا شيء حسن ؛ فدين الإسلام الذي هو باب النجاة يوم القيامة إنما ينبني بعد الإيمان بالله على شهادة أن محمداً رسول الله . هذا بدهي ، ومعلوم من الدين بالضرورة ، نعم ، ولكن تأمل : عبارة ( رسول الله ) ، هذا الوصف للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هو مناط الدين الذي قال عنه الله عز وجل : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ } ( آل عمران : 19 ) ، { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ } ( آل عمران : 85 ) . فكل الإسلام قائم على شهادة أن محمداً رسول الله ؛ فنتج عن هذا الوصف ( رسول ) أن الدين كل الدين أعني الإسلام هو عبارة عن ( رسالة ) . وهذا شيء عظيم جداً ، ندرك رسمه ، وقلما نتذوق حقيقته . وإليك البيان :

عندما نقول : ( محمد رسول الله ) فإن الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية كلتيهما تقتضيان أن محمد بن عبد الله قد جاء برسالة معينة ؛ أي أنيطت به مهمة يقوم بتبليغها ، فكان بذلك ( رسولاً ) ، ولولا ذلك لما كان له شأن في الكون ولا في التاريخ .

نعم هذه بدهيات .. ولعل عدم تأملنا لهذا الذي نسميه ( بدهيات ) ، أو معلومات من الدين بالضرورة ، هو سبب شرودنا بعيداً عن حقائق الإسلام .

إن ( الرسالة ) أي رسالة ، مهما كانت لها أربعة أركان هي :

الأول : المرسِل وهو من قام بإرسال الرسالة .

والثاني : المرسَل إليه ، وهو الطرف المعني بها والمخاطب بفحواها .

والثالث : الرسول ، وهو حامل الرسالة المبلغ لها ، بتكليف من المرسِل .

ثم الرابع : وهو الخطاب المرسَل وهو مضمونها ، أي متن الرسالة ، ونصها اللغوي الحامل لمقاصد مرسلها .       

وهذا كله لو تدبرت منطبق على الإسلام من حيث هو رسالة .

فالخلاصة إذن ، هي أن الإسلام : رسالة مضمنة في متنها ، أي في خطابها الحامل لمضمونها الرسالي ، وهو القرآن الكريم الذي هو متن الرسالة ، ثم السنة النبوية التي هي ملحقها الشارح ، تلك هي أول مراتب { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } (الفاتحة:6) ، لو تدبرت قليلاً .

إنك لو قرأت القرآن بهذا المنطق لوجدت عجباً ! إن تجديد الدين يقوم أساساً على تبين ما { الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } ( الفاتحة:6) ثم كيف الاستقامة عليه ؟ وبغير ضبط ( الحقيقة الرسالية ) للقرآن يكون كل فعل من محاولات التصحيح خارج {الصٌَرّاطّ الًمٍسًتّقٌيمّ} . وليس عبثاً أن يكون ذلك هو دعاء المسلم في كل صلاة ، سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على الأقل .

مهم جداً أن تستحضر في ذهنك ووجدانك أن القرآن يخبرنا عن نفسه ، أنه رسالة ، جاءت تحمل ( الهداية ) للناس الحيارى وكل الناس لولا الدين حيارى ويرسم لهم معالم الصراط المستقيم ، فتدبر قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } ( الشورى : 52-53 ) .

هذه أول درجات الوعي التي يجب أن تحققها لذاتك وللآخرين : ( الإسلام رسالة ) ، متنها القرآن . إن الشعور بالمعنى الرسالي للقرآن إنما يتحقق لك على المستوى النفسي إذا تصورت طبيعة الوجود البشري ؛ ذلك أن الإنسان وقد جاء من عالم الغيب ، قد أحاطت به حجب عالم الشهادة ففقد الاتصال بأصله الغيبي إلا ما كان من نداء الفطرة الخفي في قلبه . إن ميلاد كل شخص من بطن أمه ونزوله إلى الدنيا هو كنزول آدم عليه السلام من الجنة في عالم الغيب إلى الأرض ؛ حيث تبدأ حجب الحياة الدنيا تنسج عليه غلائل النسيان وتغرقه في جزئياتها اليومية ، فيضرب بعيداً عن استشراف السماء مرة أخرى ؛ ومن هنا اقتضت رحمة الرب العظيم وهو الرحمن الرحيم أن يرسل الرسل إلى الناس : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ( البقرة : 21-22 ) ، جاءت الرسالة من عالم الغيب لتربط الإنسان بأصله الحقيقي ، ولتشعره بسعة الكون ، وربوبية الخالق عز وجل المحيطة بكل شيء ثم لتعلمه بقصته كاملة من النشأة حتى المصير ، وما له في ذلك كله وما عليه ، فجاء القرآن لذلك في صورة ( بلاغ ) رباني .

هذا مصطلح مهم جداً للتعرف إلى طبيعة القرآن : إنه ( بلاغ ) فيه دلالة عميقة جداً على ( قصد التبليغ ) لمضمون الرسالة ؛ حتى يتم العلم بها على التمام عند من قُصدوا بالتبليغ والإعلام ، قال عز وجل : { هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( إبراهيم : 52 ) .

بلاغ قادم من عالم الغيب ، من فوق سبع سماوات إلى عالم الشهادة ، إلى الإنسان المتحرك فوق هذه الأرض ، وبين العالمَيْن مسافة رهيبة ، لا تستطيع النفس استيعابها مهما أوتيت من قدرة على الخيال ، فجاء القرآن رسالة تعبر تلك المسافات كلها لتلقي على الإنسان خطاباً ربانياً عظيماً يحمل قضايا محددة قصدَ ( إبلاغها ) للإنسان ، قضايا أو إن شئت فقل : ( بلاغات ) هي مناط مسؤوليته ووظيفته في الأرض .

ولقد كان أول هذه البلاغات هو القرآن نفسه ، أعني أن أول ما جاء القرآن ليبلغه إلى الناس هو هذا المعنى الرسالي للقرآن ، حتى لا يقرأه أحد أو يستمع إليه بعيداً عن هذه الحقيقة الكونية الكبرى ، فلا يستفيد من بلاغاته الربانية شيئاً .

إن أول ما يجب أن يعرفه الإنسان من القرآن هو طبيعة هذا القرآن ، من حيث هو رسالة رب الكون مرسلة إلى واحد من أهم سكان الكون : أنت ، وأنا ، وكل إنسان .. فكان ذلك هو البلاغ الأول للقرآن .

ومن هنا فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله إلا بهذا القرآن استجابة لقوله تعالى : { فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } (الفرقان:52) ، وكذلك كان صحابته الكرام على هديه ؛ فما أسلم أغلب من أسلم من الصحابة إلا بعد سماع القرآن ، وهذا أمر متواتر في كتب السنن ، وكتب السير والمغازي لمن استقرأه وتتبعه ، ومن أشهر الأمثلة على ذلك قصة مفاوضة قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ بعثت إليه ممثلها الوليد بن عتبة ، فكلمه في أن يكف عن تسفيه أحلامهم ، حتى إذا فرغ من مقالته قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : « أفرغتَ ؟ » قال : نعم ! قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ( فصلت : 1-2 ) حتى بلغ : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } ( فصلت : 13 ) [2] .

وكذلك كانت سفارة النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد ؛ إذ يرسل صحابته إلى الأقاليم والأمصار ؛ فإنما كانوا يدعون الناس بالقرآن ، كما هو الشأن في بعث أصحابه إلى المدينة ؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : « أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير و ابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن » [3] .

في اكتشاف البلاغ القرآني تدبراً وتفكراً : لا سبيل إلى معرفة الحقيقة إلا عبر هذا القرآن أولاً ، ولا يكون ما دونه من طرق المعرفة إلا توابع له وملاحق ؛ فهو متن الرسالة التي أرسلها رب العالمين إلى الخلق ، وما سواه شروح وتفاسير ، ويا لتعاسة من ضل عن هذا الأصل العلمي العظيم ! إذن يضرب في التيه على غير هدى .. قال عز وجل : { إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ( الإسراء : 9-10 ) .

وقال مستدركاً بقوة على الذين حرفوا وبدلوا وغيروا : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } ( آل عمران : 79 ) . ذلك سبيل الربانية الأوحد ، لا سبيل سواه ، فتدبر .

ومن هنا وجب أن تكون خطوتك الأولى في طريق المعرفة الربانية أن تتعرف إلى القرآن ، بل أن تكتشفه ؛ ولذلك جاء الخطاب القرآني يحمل أمر القراءة للقرآن تلاوة وترتيلاً ، وأمر التعلم للقرآن مدارسةً وتدبراً .

والتدبر هو غاية كل ذلك ونتيجته ؛ ولذلك قال عز وجل : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( ص : 29 ) . فجعل غاية الإنزال للقرآن التدبر والتذكر ، ولولا التدبر لما حصل التذكر الذي هو يقظة القلب ، وعمران الوجدان بالإيمان ؛ فالتدبر هو المنهج القرآني المأمور به لقراءة القرآن العظيم ؛ ومن هنا زجره تعالى للناس الذين لا يتدبرونه . قال سبحانه : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( محمد : 24 ) ، { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } ( النساء : 82 ) فما التدبر إذن ؟تَدَبَّرَ الشيء في اللغة يَتَدبَّرُه : تتبع دبره ، أي نظر إلى أواخره وعواقبه ومآلاته ، كيف هو إذا صار إليها ؟ وكيف يكون ؟ جاء في لسان العرب : ( ودَبَّرَ الأَمْرَ وتَدَبَّره : نظر في عاقبته ، واسْتَدْبَرَه : رأى في عاقبته ما لم يرَ في صدره ، وعَرَفَ الأمْرَ تَدَبُّراً أي بأَخَرَةٍ . والتَّدْبِيرُ في الأمر : أن تنظر إلى ما تَؤُول إليه عاقبته . والتَّدَبُّر : التفكر فيه ) .

فتدبر القرآن وآيات القرآن : هو النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع ؛ وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله ، فتنظر إن كانت متعلقة بالنفس إلى موقعها من نفسك ، وآثارها في قلبك وعملك ، تنظر ما مرتبتك منها ؟ وما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها ؟ وما آثار ذلك كله في نفسك ، وما تعانيه من قلق واضطراب في الحياة الخاصة والعامة ؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها ، باعتبارها مقياساً لوزن نفسك وتقويمها ، وتعالج أدواءك بدوائها ، وتستشفي بوصفاتها .

وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع ، فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت ؟ وكيف تراها اليوم تقع ؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها ، عند المخالفة وعند الموافقة ؟ ثم تنظر ما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير ؟ وهنا تلج إلى باب آخر من أبواب القرآن رديف للتدبر ، بل هو منه ، ذلك هو : التفكر .

إن التفكر غالباً ما يرد مذكوراً في القرآن في سياق النظر في خلق الله ، والتأمل في بديع صنعه ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ } ( آل عمران : 190-194 ) ؛ فكل هذه الأدعية العابدة ، الحارة ، الخاشعة ، الباكية ؛ إنما هي نابعة عن الإحساس الحاصل للعبد بُعَيد التفكر في خلق الله ، فاقرأ الآيات وتدبر تجد أن المؤمن لمَّا يسيح في جنبات الكون الفسيح فإنه يشعر بعظمة الله الواحد القهار ، وتأخذه الرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه ، فيسرع هارباً إلى مساكن رحمته ، وجمال غفرانه .

وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له إلى امتدادات الكون ، ويرجع به إلى كشف كثير من أسرار الوجود ، وغرائب الخلق ؛ فإن ( التدبر ) الذي هو المنهج الرباني لقراءة القرآن ، يحيل الإنسان إلى ( التفكر ) الذي هو المنهج الرباني لقراءة الكون ، فيكون كل متدبر للقرآن متفكراً في الكون ، فيقرأ بقراءة القرآن كل آيات الله المنظورة والمقروءة سواء .

هكذا وجب أن تقرأ القرآن آية آية ، اقرأ وانظر .. عسى أن ترى ما لم تر ، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل ، فتكون له متدبراً .. فتدبر .

ولنسأل الآن : ما القرآن ؟ ما هذا الكتاب الذي هزَّ العالم كله ، بل الكون كله ؟أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه ( كلام الله ) ، واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه ، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف الصالح . وإنما المهم عندنا الآن ها هنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين : ( القرآن كلام الله ) . هذه حقيقة عظمى ، ولكن لو تدبرت قليلاً .

الله جل جلاله خالق الكون كله ، هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق ؟ طبعاً لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى ؛ فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود ، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود .. هذه الأرض وأسرارها ، وتلك الفضاءات وطبقاتها ، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها ، وتلك السماء وأبراجها ، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها ، إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية .

أين أنت الآن ؟ اسأل نفسك .. أنت هنا في ذرة صغيرة جداً تائهة في فضاء السماء الدنيا : الأرض . وربك الذي خلقك ، وخلق كل شيء ، هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً .. هذا الرب الجليل العظيم ، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت ، أيها الإنسان ، فكلمك بالقرآن .. كلام الله رب العالمين ، أوَ تدري ما تسمع ؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } ( طه : 13 ) ، أيُّ وجدان ، وأيُّ قلب ، يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجداً لله الواحد القهار رغباً ورهباً ؟ اللهم إلا إذا كان صخراً أو حجراً . كيف ، وهذا الصخر والحجر من أخشع الخلق لله ؟ { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ( الحشر : 21 ) ، وهي أمثال حقيقية لا مجاز ، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } ( ص : 18-19 ) ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ } ( الأعراف : 143 ) .

كلام الله هو كلام رب الكون ، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عَلُ : أي من فوق ؛ لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى فوق كل شيء ، محيط بكل شيء علماً وقدرة .

إنه رب الكون .. فتدبر ، { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ }(فصلت : 54).

ومن هنا جاء القرآن محيطاً بالكون كله ، متحدثاً عن عجائبه .

قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ( الواقعة : 75-82 ) . سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك نكذب .

ذلك هو القرآن .. كلام من أحاط بمواقع النجوم ؛ خلقاً ، وأمراً ، وعلماً ، وقدرة ، وإبداعاً ، فجاء كتابه بثقل ذلك كله ، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، من بعدما هيأه لذلك ، وصنعه على عينه سبحانه وتعالى فقال له : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ( المزمل : 5 ) . ومن هنا لما كذَّب الكفار بالقرآن نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم ، وقصور إدراكهم ، وضعف بصرهم ، عن أن يستوعبوا بُعده الكوني الضارب في بحار الغيب ، فقال تعالى : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ( الفرقان : 5-6 ) ، وإنه لرد عميق جداً ؛ ومن هنا جاء متحدثاً عن كثير من السر في السماوات والأرض . قال عز وجل : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } (الكهف 54) . وقال : { سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } ( فصلت : 53-54 ) .

فليس عجباً أن يكون تالي القرآن متصلاً ببحر الغيب ، ومأجوراً بميزان الغيب ، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا معنى لها في اللغة ، نعم في اللغة ، أما في القرآن فالحرف له معنى ، ليس بالمعنى الباطني المنحرف ، ولكن الرباني المستقيم ، أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به الله ؟ إذن ! يكفيه ذلك دلالة وأي دلالة ! ويكفيه ذلك عظمة وأي عظمة ! فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : ( ألم ) حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف » [6] ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } ( الجمعة : 4 ) .

إنه تعالى تكلم ، وهو سبحانه وتعالى متكلم ، سميع ، بصير ، عليم ، خبير ، له الأسماء الحسنى والصفات العلىا ، نثبتها كما أثبتها السلف ، بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه . لقد تكلم عز وجل ، وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه الأمة المشرفة أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فكان صلة بين العباد وربهم ، صلة متينة ، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض ، طرفه الأعلى بيد الله ، وطرفه الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين .

قال عليه الصلاة والسلام في خصوص هذا المعنى ، من حديث لطيف تشد إليه الرحال : « كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض » [7] ، وقال في مثل ذلك أيضاً : « أبشروا .. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به ؛ فإنكم لن تهلكوا ، ولن تضلوا بعده أبدا » [8] .

وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضاً فيها زيادة ألطف ، قال صلى الله عليه وسلم : « أبشروا .. أبشروا.. أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ » قالوا : نعم ! قال : « فإن هذا القرآن سببٌ طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به ؛ فإنكم لن تضلوا ، ولن تهلكوا بعده أبداً » [9] .

ذلك أن القرآن جاء وهو من رب العالمين بلاغاً إلى الناس أجمعين ، يحمل رسالة ذات مضامين من النبأ الرباني العظيم ، نبأ الخلق ، ونبأ الكون ، ونبأ الغيب ،ونبأ الشهادة ، ونبأ الحياة ، ونبأ الموت ، ونبأ البعث القريب ، ونبأ الأمر الإلهي الحكيم في ذلك كله ، وكلف رسوله ببلاغه جميعاً إلى الناس ، فقال له عز وجل : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ } ( المائدة : 67 ) ، وقال أيضاً : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } ( الجن : 22-23 ) ، وقال سبحانه : { هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( إبراهيم : 52 ) ، وقال : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَعَلَيْنَا الحِسَابُ } ( الرعد : 40 ) ، ومن أشد المعارض القرآنية لهذا المعنى وقعاً على النفس ، قوله تعالى للمؤمنين من هذه الأمة بعد آية تحريم الخمر مباشرة : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ } ( المائدة : 92 ) ، ونحو ذلك كثير في القرآن الكريم مما ينطق عن طبيعته ( البلاغية ) بالمعنى الرسالي للكلمة ، وما ينتج عن ذلك كثير من إعذار وإنذار ، ومن ثقل الأمانة الملقاة على عاتق كل مسلم ، بل كل إنسان ( بلغته ) الرسالة .

ها هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان ؛ فاحذر أن تظنك غير معني بها في خاصة نفسك ، أو أنك واحد من ملايين البشر ، لا يُدْرَى لك موقع من بينهم ؛ كلا ، كلا ، إنه خطاب رب الكون ، فيه كل خصائص الكلام الرباني من كمال وجلال . أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد ، ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد ، { قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }  } (آل عمران:29)؛ فهو سبحانه جل جلاله لا يشغله هذا عن ذاك ، وإلا فما معنى الربوبية وكمالها ؟ وكما أنه قدير على إجابة كل داع ، وكل مستغيث ، من جميع أصناف الخلق ، فوق الأرض وتحت الأرض ، وفي لجج البحر ، وتحت طبقاته ، وفي مدارات السماء ... إلخ ، كل ذلك في وقت واحد وهو تعالى فوق الزمان والمكان لا يشغله شيء عن شيء ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات ، كأنه لا يخاطب أحداً سواك ، فاحذر أن تخطئ هذا المعنى .. تذكر أنه كلام الله ، وتدبر .

قال جل جلاله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }  (محمد:24) ، { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } ( النساء : 82 ) .. فتدبر !  ذلك هو القرآن : الكتاب الكوني العظيم ، اقرأه وتدبر ؛ فوراء كل كلمة منه حكمة بالغة ، وسر من أسرار السماوات والأرض ، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير ، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرهاً نحو نهايتها ، فتدبر ؛ فإن فيه كل ما تريد .

ألست تريد أن تكون من أهل الله ؟ إذن ، عليك بالقرآن ، اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك ، تكن من ( أهل الله ) كما في التعبير النبوي الصحيح .

قال صلى الله عليه وسلم : « إن لله تعالى أهلين من الناس : أهل القرآن هم أهل الله ، وخاصته » [9] .

هذا غاية ما عندي عن القرآن ، فلا تغتر بما عندي ، إنه لا يحدثك عن القرآن إلا القرآن ، فتدبر .. اقرأه آية فآية ، وتدبر .

خاتمة :

القرآن إذن هو متن رسالة الله يمنحك أول مقاصده الإرسالية : معرفة الله ، مرسل الرسالة إلى الخلق ، تلك حقيقته الأولى ، وهي أول ما يرفع بصيرتك إليه ، عسى أن تبصر جمال الخالق جل جلاله ، فتكون له من العابدين .

فاسأل نفسك : هذه هي الرسالة : القرآن ، ولكن هذا المرسل .. من يكون ؟ ومن هو ؟ هذا أول المعرفة الربانية ، وهو في مقاصد ؛ الخطاب القرآني ، البلاغ الأول من بلاغات القرآن ، ذلك من حيث الرتبة لمقاصد الإرسال ، وهو ها هنا من حيث ترتيب السير المنهجي في التعرف إلى معالم الطريق ، ومنازل السير يحتل الرتبة الثانية منهجياً لا مقاصدياً ؛ إذ لا يعرف الله إلا بمعرفة القرآن ، كما أنه لا يمكن أن يعبد الله عملياً إلا باتباع رسوله ، وإن شئت فقل : معرفة الله وتوحيده هو غاية الغايات ، ومنتهى الخطوات ، ولكن أولاها قطعاً وإنجازاً هي معرفة القرآن ، فإذا أنت عرفت ما القرآن ؟ وبدأت تغرف من مأدبة الله ، وجدت الله جل وعلا أول المقاصد التي يدعوك القرآن لتعرفها ، ومن هنا لم تكن الأمة لتنبعث من جديد إلا ببعث القرآن فيها من جديد ؛ ذلك صمام الأمان لسلامة السير في كل عمل إسلامي ، والمقياس الفاصل بين الحق والباطل في كل استقامة أو انحراف عن الصراط المستقيم من المنهج الدعوي العام ، والله الموفق للحق والمعين عليه ، فتدبر !

 

 

 


(1) لسان العرب : مادة (بلغ) ، طبعة دار صادر ، بيروت .

(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده ، و ابن هشام في السيرة ، و البيهقي في الدلائل ، و أبو نعيم في دلائل النبوة ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، والحاكم في المستدرك ، ووافقه الذهبي ، وحسنه الأستاذ إبراهيم العلي في صحيح السيرة النبوية ، ص 64 ، دار النفائس ، الأردن ، الطبعة الثانية ، 1416هـ 1996م .

(3) رواه الحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، صحيح السيرة النبوية ، لإبراهيم العلي ، ص 58 .

(4) لسان العرب ، مادة : (دبر) .

(5) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، انظر سنن الترمذي ، (كتاب فضائل القرآن ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر ؟) ، كما رواه الحاكم في المستدرك .

(6) رواه الطبري في تفسيره ، (4/31) ، نشر دار الفكر ، بيروت لبنان ، 1405هـ ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ، 4473 ، نشر المكتب الإسلامي بيروت ، دمشق ، الطبعة الثالثة ، 1408هـ 1988م .

(7) رواه الطبري بإسناد صحيح (صحيح الجامع الصغير ، ص 34) .

(8) رواه ابن حبان في صحيحه ، والبيهقي في شعبه ، و ابن أبي شيبة في مصنفه ، و الطبراني في الكبير ، و عبد بن حميد في المنتخب من المسند ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ، ص 713 ، نشر مكتبة المعارف بالرياض ، لصاحبها سعد عبد الرحمن الراشد ، طبعة جديدة بتاريخ 1415هـ 1995م .

(9) رواه أحمد و النسائي و ابن ماجه و الحاكم ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، ص 2165 .

أعلى