يتضمن شهر رمضان مسائل مهمة يحتاج كل مسلم إلى مذاكرتها ،
أُوجزها في هذه الوقفات :
الوقفة الأولى : حكم الصيام :
إن أول ما فرض صيام رمضان في السنة الثانية
من الهجرة كان على التخيير : فمن شاء صامه وهو أفضل ، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل
يوم مسكيناً ، ثم أُلزم الناس بصيامه حين نزل قوله تعالى : { فَمَن
شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة : 185] ، وكان الحكم في أول الأمر : أن من نام بعد غروب
الشمس وجب عليه الإمساك عن المفطرات ، ولو استيقظ ليلاً ، حتى تغرب الشمس من الغد
؛ فعن البراء رضي الله عنه قال : (كان أصحاب محمد إذا كان الرجل صائماً ، فحضر
الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن حرمة
الأنصاري كان صائماً ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت
: لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك .
وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته ،فلما رأته
،قالت : خيبةً لك . فلما انتصف النهار غُشي عليه ، فذُكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- ، فنزلت
هذه الآية : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } [البقرة : 187] ، ففرحوا
بها فرحاً شديداً ، ونزلت : { (وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حََتَّى يَتََبَيَّنَ لََكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ
الأََسْوَدِ } ) [1]
[البقرة : 187] .
الوقفة الثانية : حكمة الصيام :
قال تعالى : { يَا
أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 183] ، في هذه الآية إشارة إلى حكمة من حكم الصيام ،وهي
تحقيق تقوى الله ؛ فإن النفس إذا تركت ما هو مباح في الأصل وهو الأكل والشرب
امتثالاً لأمر الله في نهار رمضان كان ذلك
داعياً لترك المحرمات الأخرى ،ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (من لم
يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [2] ،
وقد هيأ الله لنا هذا الشهر بإضعاف كيد الشيطان وشره كما قال النبي -صلى الله عليه
وسلم- : (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ،
وغلقت أبواب النار ، وسُلْسِلت الشياطين) [3] .
ولا بد من توطين النفس وتهيئتها في أيام الصيام لتحقيق هذه
الحكمة كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال : (والصيام جنة ، وإذا كان
يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) [4] .
الوقفة الثالثة : فضل الصيام :
ورد في فضل الصيام نصوص كثيرة ، وأعظم ما ورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (يقول الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصيام
فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي والصوم جنة [5] ، وللصائم فرحتان : فرحة حين يفطر ، وفرحة حين
يلقى ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) [6] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (من قام ليلة القدر
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن صام رمضان
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) [7] .
الوقفة الرابعة : أحكام الصيام :
أولاً :
يثبت دخول شهر رمضان
برؤية الهلال ؛ فإن لم يُرَ أو حال دون رؤيته غيم أو قتر أُتِم شهر شعبان ثلاثين يوماً ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله
عنه قال : قال أبو القاسم : (صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ؛ فإن غُبِّيَ عليكم
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) [8]
.
والراجح أنه يكفي في ثبوت الرؤية خبرُ واحدٍ من المسلمين .
وهو مذهب الشافعي [9] ،
والحنابلة [10]
، وقول ابن حزم [11] واختيار
ابن تيمية [12]
وابن القيم [13] .
والدليل عليه قول ابن عمر رضي الله عنهما : (تراءى الناس
الهلال ، فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته ، فصام ، وأمر الناس
بصيامه) [14]
.
ثانياً :
يحرم صيام آخر يومين من شعبان أو آخر يوم منه إلا أن يوافق ذلك يوماً كان من عادته
صيامه ك (الإثنين ، والخميس) فيجوز عندئذٍ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- إذ قال : (لا يتقدمن أحدكم رمضان
بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصمْ ذلك اليوم) [15] .
ثالثاً :
يحرم على القول الراجح وهو مذهب الشافعي [16] صيام
يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر ؛ لحديث أبي
هريرة السابق ، ولقول عمار رضي الله عنه : ( من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم) [17] .
رابعاً : شروط وجوب الصيام ثلاثة :
1- العقل .
2- البلوغ .
3- القدرة عليه .
شروط صحة الصيام أربعة :
1- الإسلام .
2- العقل .
3- انقطاع دم الحيض والنفاس .
4- النية من الليل لكل يوم واجب .
لحديث حفصة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال : (من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له) [18] .
وهذا نص صريح لاشتراط النية لكل ليلة ؛ فمن كان مسافراً
وقد نوى الفطر من الليل ، ثم عزم على الصوم بعد طلوع الفجر لم يصح صومه .
وينبغي على العبد أن يبتعد عن وسواس الشيطان في النية ؛
فإن النية لا تحتاج إلى تكلف ؛ فمتى خطر بقلبه أنه صائم غداً فقد نوى .
خامساً : فرض الصيام :
الإمساكُ عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ، لقوله تعالى : { وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حََتَّى يَتََبَيَّنَ لََكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ
الأََسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أََتِمُّوا الصِّيَامََ إلَى اللَّيْلِ } [البقرة : 187] .
سادساً : مفطرات الصوم :
1- الأكل والشرب .
2- ما كان في معنى الأكل والشرب ، وهو ثلاثة أشياء :
أ- القطرة في الأنف التي تصل إلى الحلق ، وهو مأخوذ من
قوله : (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أخرجه مسلم ، فإنه يفهم أنه لو
دخل الماء من الأنف إلى الجوف أفطر .
ب- الإبر المغذية ؛ فإنها تقوم مقام الأكل والشرب فتأخذ
حكمها ، وكذا المغذي الذي يصل إلى المعدة عن طريق الأنف .
ج- حقن الدم في المريض ؛ لأن الدم هو غاية الأكل والشرب
فكان بمعناه [19] .
3- الجماع : وهو من المفطرات بالإجماع [20] .
4- إنزال المني باختياره بمباشرة أو استمناء ، أو غير ذلك
؛ لأنه في معنى الجماع ، ولأنه من الشهوة التي يدعها الصائم كما سبق في حديث أبي
هريرة مرفوعاً وفيه : ( يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي ) [21] ومعلوم
أن من أنزل المني عامداً مختاراً باستمناء أو غيره ، فقد أنفذ شهوته ولم يدعها ،
أما الاحتلام فليس مفطراً بالإجماع [22]
.
5- التقيؤ عمداً ، وهذا مفطر أيضاً بالإجماع [23] ، أما من غلبه القيء فلا يفطر ؛ لحديث أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (من ذرعه القيء فليس
عليه قضاء ، ومن استقاء فليقض) [24] .
6- خروج دم الحيض والنفاس ، بالإجماع [25] ؛
فمتى وُجد دم الحيض أو النفاس في آخر جزء
من النهار ، أو كانت حائضاً فطهرت بعد طلوع الفجر فسد صومها ؛ ومن الأدلة عليه
حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً : (أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ ؟ ) [26] .
7- اختلف أهل العلم في الحجامة : هل
تفطر أو لا ؟ وسبب الخلاف في هذه المسألة : التعارض الظاهر بين حديث ثوبان
مرفوعاً : (أفطر الحاجم والمحجوم) [27]
، وحديث ابن عباس : (أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- احتجم وهو صائم ) [28] ،
واختلف أهل العلم في طريق الترجيح بينهما لتعذر الجمع بينهما فاختار ابن تيمية [29] وابن
القيم [30]
وهو مذهب الحنابلة [31] تقديم
حديث : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) لأنه ناقل عن الأصل ، أما حديث ابن عباس فمبقٍ
على الأصل ، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي ، كما هو مقرر في قواعد الترجيح بين
الأدلة المتعارضة .
والراجح تقديم حديث ابن عباس وأن الحجامة ليست من المفطرات
وهو مذهب الجمهور ؛ وذلك أنه لا يُصار إلى إعمال قواعد الترجيح بين الأدلة إلا إذا
جهل التاريخ ، أما إذا علم فيجب العمل بالمتأخر ويكون ناسخاً للمتقدم [32] ، وقد علم هنا بخبر الصحابي من حديثين :
الأول :
حديث أنس بن مالك قال : (أول ما كُرِهَت الحجامة للصائم ، أن جعفر بن أبي طالب احتجم
وهو صائم فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : أفطر هذان ، ثم رخص النبي -صلى
الله عليه وسلم- بعدُ في الحجامة للصائم ، وكان أنس يحتجم وهو صائم) [33] .
الثاني :
حديث أبي سعيد الخدري قال : (رخص رسول الله في القبلة للصائم والحجامة ) [34] ،
والرخصة إنما تكون بعد العزيمة فيكون الحديثان نصاً في النسخ فوجب العمل بهما [35] .
8- الراجح في القطرة في العين أو الأذن والكحل ، ومداواة
الجروح الغائرة ، وشم الطيب ، والإبر غير المغذية ، وإدخال علاج لمريض من الفرج :
أنها لا تفطر ؛ لأنه ليس أكلاً ولا شرباً
ولا في معناهما ، فتبقى على الأصل وهو الجواز ، وما أحسن كلام شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله في هذا حيث قال : ( ...
فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام ، فلو كانت هذه
الأمور مما حرمها الله ورسوله على الصائم ، وأفسد الصوم بها ، لكان هذا مما يجب
على الرسول بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوها سائر شرعه
،فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك لا حديثاً
صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً ، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك ) [36] .
سابعاً : من أفطر ناسياً أو مخطئاً فصومه صحيح ولا قضاء
عليه كمن ظن أن الفجر لم يطلع فأكل وهو طالع ، أو ظن أن الشمس غربت فأكل وهي لم
تغرب .
ومن الأدلة على ذلك :
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (من أكل ناسياً
وهو صائم فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه) [37] .
2- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : (أفطرنا
على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم
غيم ثم طلعت الشمس) [38]
.
ولم يُنقل أنهم قضوا ذلك اليوم ؛ ولو أُمِرُوا بقضائه
لنُقل إلينا كما نُقِلَ فطرهم [39]
.
تنويه : سقط
سهواً في العدد (119) (ص9) في مقال (هل يمكن التعاون بين المسلمين مع وجود
الاختلاف) فقرة هامة أحببنا التنبيه إليها .
والسقط بعد قوله : فما المحذور الشرعي من ذلك التعاون : (
سيبادر أحد بالقول ، ولكن قد يكون الأمر بالمعروف على مذهبهم ، أي فيه نشر لمذهبهم
، وقد يكون بناء المسجد لتقاوم فيه حلقات الذكر ، أو لتدريس عقائد الأشاعرة ونحو
ذلك ) ثم يأتي بعد ذلك : فالجواب عندئذ ...
إلخ .
(1) أخرجه البخاري ، ح/1915 .
(2) أخرجه البخاري ، ح/1903 .
(3) أخرجه البخاري ، ح/1899 ، ومسلم ،
ح/1079 .
(4) أخرجه البخاري ، ح/1904 .
(5) أي شر ووقاية من الآثام والنار (فتح
الباري 4/125) .
(6) أخرجه البخاري ، ح/1894 ، 1904 ، 7492 ،
ومسلم ح/1151 .
(7) أخرجه البخاري ، ح/1901 .
(8) أخرجه البخاري ، ح/1909 .
(9) انظر : روضة الطالبين (2/207) .
(10) انطر : الفروع (3/14) .
(11) انطر : المحلى (4/373) .
(12) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية (25/105)
.
(13) انظر : زاد المعاد (2/38) .
(14) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه
الذهبي ، وقال ابن حزم : (هذا خبر صحيح) ؛ وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/16) .
(15) أخرجه البخاري ، ح/1914 ، ومسلم ،
ح/1082 .
(16) المهذب والمجموع (6/275) .
(17) حديث صحيح أخرجه البخاري معلقاً بصيغة
الجزم ، ووصله أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم (انظر فتح الباري 4/144) ومختصر
صحيح البخاري للألباني (1/444) .
(18) صحيح أبي داود ، ح/2454 .
(19) انظر مجالس شهر رمضان
لابن عثيمين ، ص 66 .
(20) حكاه النووي في المجموع (4/348) .
(21) انظر المغني 4/361 363 ، والمجموع
6/349 ، وحقيقة الصيام لابن تيمية ، ص 23 .
(22) انطر المجموع 6/349 .
(23) حكاه ابن المنذر في كتاب الإجماع ، ص
15 .
(24) صحيح أبي داود ، ح/380 .
(25) حكاه ابن قدامة وغيره ، انطر المغني
4/397 .
(26) أخرجه البخاري ، ح/304 .
(27) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة
وغيرهم ، وصححه الإمام أحمد والبخاري والدارمي وغيرهم ، انظر فتح الباري ، 4/409 .
(28) أخرجه البخاري ، ح/5694 .
(29) حقيقة الصيام ، ص 23 .
(30) زاد المعاد ، 2/60 .
(31) الفروع ، 3/47 .
(32) انظر البحر المحيط للزركشي (6/140) .
(33) أخرجه الدارقطني وصححه وأقره البيهقي
في السنن الكبرى ، وصححه الألباني (انظر الإرواء 4/73) .
(34) أخرجه الطبراني والدارقطني قال ابن حزم
: إسناده صحيح وصححه الألباني (انظر الإرواء
4/74) .
(35) انظر الإرواء 4/75 .
(36) حقيقة الصيام ، ص 37 .
(37) أخرجه البخاري ، ح/6669 .
(38) أخرجه البخاري ، ح/1960 .
(39) انظر حقيقة الصيام ، ص 34 .