الدراما التاريخية بين الخيال والواقع
رغم عدم افتتاني بمتابعة الأفلام والمسلسلات إلا أنهم يعتبرون في زمن الحجر المنزلي الإجباري، شئنا أم أبينا، ضمن أكثر وسائل الترفيه وشغل أوقات الفراغ شيوعاً. وبما أنني أعشق التاريخ فقد اتجه خياري نحو الدراما التاريخية دون غيرها. المشكلة أن غالبيتها تحوي هفوات وأحياناً مغالطات تاريخية خادعة. لذا فقد قررت أن أختار أحدها وأنقده تاريخياً دون الالتفات إلى الإخراج أو أداء الممثلين أو الحبكة الدرامية أو غيرها من الأمور التي أتركها لأهلها من النقاد السينمائيين.
وبما أن مسلسل فايكنجز Vikings 2013 قد حصد على أكبر نسبة للمشاهدة بمواسمه الخمسة التي وصلت إلى 69 حلقة، عرض آخرها بعام 2018م، وينتظر أن يعرض الموسم السادس في الأيام المقبلة. حيث ينتظره الكثيرون، خاصةً لما سرب عنه من اتساع رقعة أحداثه لتشمل الأندلس وروسيا، فقد قررت أن أبدأ به.
يتحدث المسلسل عن الظروف الصعبة في شبه الجزيرة الإسكندنافية، من زيادة عدد السكان، وقلة الأراضي الصالحة للزراعة، التي دفعت الفايكنج إلى غزو ونهب المناطق المجاورة عبر بحر البلطيق، وكيف كان يحلم أحدهم ("راغنار لوثبروك" بطل المسلسل) بالإبحار أبعد وفي الجهة الأخرى، عبر بحر الشمال، نحو مناطق سمع أنها أكثر ثراءً للنهب، وأكثر خصوبةً للاستيطان، وبالفعل ينجح بإقناع عدد قليل منهم، ويصل بهم إلى سواحل مملكة نورثمبريا في إنجلترا، وتحديداً في ليندسفارن حيث داهموا الدير الذي يحوي رفات القديس كوثبرت ونهبوا كنوزه دون مقاومة تذكر ، لتبدأ بعد ذلك سلسلة من هجمات الفايكنج على إنجلترا ثم فرنسا، واستيطانهم لبعض المناطق بل والممالك هناك. ورغم أن هذه الحادثة ثابتة تاريخياً، إلا أن شخصية راغنار خيالية، ومأخوذة من الحكايات الشعبية الاسكندينافية الشفهية التي لم تدون إلا بعد حوالي 200-400 سنةً بعد تلك الحادثة كملاحم إسطورية. حيث تم دمج العديد من الأبطال والملوك الواقعيين في تلك الحقبة كأخ وأبناء لراغنار الأسطوري.
لن أتدخل هنا في هذه الحيثية لأظهر من منهم كان شخصية خيالية ومن منهم كان شخصية واقعية، ولا إلى مدى القرابة بينهم (إن وجدت)، ولا إذا ما كانت الأعمال المنسوبة لأبطال المسلسل كلها لهم فعلاً، أم تم دمجها بأعمال قامت بها شخصيات أخرى واقعية، لم تذكر بالمسلسل أصلاً. فهذا كله يدخل في إطار الحبكة الروائية التي لم يخفي المؤلفين استنادها إلى كل من التاريخ والأساطير معاً، بالإضافة إلى خيالهم الخاص. ولكن عندما يتم تجاهل سيرة "الملك أوفا" (757م - 796م) الفاعلة والمؤثرة في تلك الحقبة من التاريخ، بل وتتم إهانة ذكراه وتصوير ابنه كألعوبة مسلوب الإرادة، وابنته كفتاة لعوب بعد معاناتها من نكاح المحارم، ومملكته "مرسيا" كمملكة ضعيفة تحت سيطرة ووصاية مملكة "وسيكس" بشكل مهين، بينما الحقيقة هي العكس تمامًا، على الأقل في تلك الفترة. فيجب عندها إظهار الحق وبيانه، ليس فقط من أجل التاريخ الإنجليزي، بل ومن أجل التاريخ الإسلامي أيضاً؛ حيث يكاد يجزم المؤرخون بإسلام الملك أوفا، أو على الأقل يتفقون بما لا يدع مجالاً للشك بعمق علاقته مع الخلافة العباسية، وتوقيره للإسلام والمسلمين، وإيقاف تدخلات البابا "أدريان الأول" (772م - 795م) بالشأن الإنجليزي، والتهديد بخروج الممالك الإنجليزية من الكنيسة الرومانية، مما استجلب عليه تآمر البابا مع الإمبراطور شارلمان (742م - 814م) ضده، وحرمانه كنسياً ومقاطعته تجارياً وتحريضهما معاً لصغار ملوك إنجلترا، ممن كانوا تحت سيطرته للتمرد عليه، وتطويب احدهم (ايثلبرهت ملك إيست أنجليا) كقديس شهيد رغم سوء سيرته بعد أن قتله الملك أوفا. حتى نجحوا أخيراً باغتيال الملك أوفا بظروف غامضة، بل ودفنه في مصلى صغير على حافة نهر "الأوسك Usk“ المعروف بتياراته وفيضاناته الجارفة، وإتلاف وجميع سجلاته، ومحاولة طمث جميع آثاره من السجلات التاريخية الأخرى، رغم مساهماته في أول توحيد فعلي للممالك الانجلوسكسونية السبعة، ورغم بنائه لخندق عظيم، يعد الحدود النظرية الفاصلة بين انجلترا واسكتلندا، ولا يزال يعد ما بقي منه معلما تاريخيا وسياحيا مهما، وهو "خندق أووفا - Offas Dyke"، الذي يعتبر من وجهة النظر الهندسية أعظم عمل إنشائي أنشئ في إنجلترا على امتداد تاريخها القديم والوسيط، حيث امتد من شرق إنجلترا لغربها، من البحر للبحر وشمل حائطا وسورا، ورغم بنائه أيضاً داراً لسك العملات المعدنية لأول مرة في تاريخ إنجلترا.
وبالفعل نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً، لولا أن أراد الله أن يخلد ذكره فتم العثور سنة 1841 م على عملة ذهبية، كانت على عكس مسكوكاته الأخرى خالية من الصور، وقد نقش عليها باللغة العربية عبارة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وفي الحافة عبارة "ﷴ رسول الله" ثم الآية الكريمة " أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" وفي الوسط اسم الملك باللغة الإنجليزية وبالحافة مكتوب بسم الله ضرب هذا الدينر سبع وخمسين ومائة". (محفوظة حالياً في المتحف البريطاني)
وهو ما فتح شهية المؤرخين للتنقيب عما بقي من أخباره على ندرتها في سجلات خصومه، مثل سيرة الملك ألفريد العظيم التي كتبها المؤرخ الويلزي أسر، ونسب فيها الخندق للملك أوفا، وكتاب "حياة الاثنان المسميان أوفا" (باللاتينية Vitae duorum Offarum) للراهب ماثيو الباريسي، وبقية سجلات الحملات العسكرية والحروب الإنجليزية التي ذكر بها أسمه. وقرارات شارلمان بمنع التجار الإنجليز من دخول أراضيه في عهد الملك أوفا، وخلافه مع البابا، وظروف تطويب القديس ايثلبرهت، وغيرها من الشواهد التي قادت الكثيرين منهم لتبني احتمال إسلام الملك أوفا، دون الجزم بذلك تماماً لإختفاء جميع سجلات مملكته وآثارها في فترة حكمه الطويلة التي امتدت إلى 39 عاماً، رغم كثرة إنجازاته التي تطرقت إليها سجلات الممالك المجاورة.