تعقيب على مقال عن "المناهج النقدية الحديثة في دراسة القرآن"
تمهيد:
نشرت مجلة البيان الإسلامية الجامعة في عددها 342 الصادر في صفر 1437 مقالا من الصفحة 14 إلى 16 من المجلة في زاوية "الانتصار للقرآن الكريم" عن "المناهج النقدية الحديثة في دراسة القرآن" للدكتور خالد بن عبد العزيز السيف: الأستاذ بكلية الشريعة، جامعة القصيم بالسعودية. وبعد قراءتي للمقال والتمعن في فقراته سجلت مجموعة من الملاحظات، التي هي نابعة من حبي للقرآن الكريم والانتصار له في هذا الزمان الذي كثر فيه الهجوم على الإسلام وعلى القرآن بصفة خاصة من قِبَل الأعداء وأصدقاء الأعداء من بني جلدتنا.
ويأخذ التعقيب على هذا المقال مسارين أو اتجاهين كبيرين:
أولهما عن إعمال أو استخدام المناهج النقدية الحديثة في دراسة الوحي وقراءته بناء على ما تقتضيه هذه المناهج.
وثانيهما عن تطبيق تلك المناهج على باقي النصوص والاجتهادات التي تَشكَّلت "حول ضفاف النص القرآني".
وقبل الخوض في المسارين أو الاتجاهين المذكورين أرى أنه لابد من التوقف قليلا مع هذا السؤال الذي أثاره الدكتور خالد في بداية المقال، وهو قوله:" ولكن السؤال المطروح وبقوة: ما الموقف من استخدام هذه المناهج؟ خصوصا أن بعضها ليس بالضرورة يؤدي إلى نتائج خاطئة بشرط ألا تكون القراءة إيديولوجية - هذا إذا افترضنا أن بعض هذه المناهج يحمل حمولة ثقافية".
هذا السؤال المُقيَّد بشرط وبافتراض، يجعل القارئ مثلي يتساءل أيضا عن حجم وقوة النتائج غير الخاطئة الممكن التوصل إليها باستخدام هذه المناهج في دراسة القرآن الكريم والنصوص الأخرى؟ وهل هناك من هذه المناهج من ليس مرجعيته ثقافية؟ إن المناهج المتحدث عنها وليدة إرث علمي وحضاري معين، ظهورها فيه فنُموها وكِبرها من داخله يجعل المتعلم الباحث يتساءل عن هذا الظهور في مجتمع دون آخر؟ وعن كيفية تطبيقها على إرث علمي وحضاري هو أصل منشئها دون آخر بعيد عنها؟ ثم أليس من حق الباحث- أي باحث - أن يقرأ ويتعاطى مع هذه المناهج بالفهم وبالتصور الذي يراه ويريده؟ إذ القارئ السياسي - مثلا- قد لا يمارس سياسة تنفيذية أو إجرائية، فقد يكون سياسيا من نوع آخر؟ ومن ثم فمن حقه أن يقرأ ويأخذ بالفهم الذي يختاره في تعاطيه مع هذه المناهج؛ ومن القراء السياسيين بالمعنى الإجرائي للكلمة الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري، فهو من كبار المنظرين للحركة اليسارية بالمغرب ومن المؤسسين لأقوى حزب اشتراكي عندنا[1]؛ والقارئ الذي له توجه أو نمط من التفكير- إذا صح هذا- من حقه أن يقرأ هو أيضا، على أساس أن تكون قراءته علمية؛ فالتوجه والوجهة ليس عائقين أمام القراءة، أو مما يُخل بها، بل شرط العلمية هو المطلوب والمبتغى.
إن بالقَيْدين المذكورين تم توجيه الإجابة على السؤال، بل تم التحيز إلى نوع معين من الجواب، وقد يكون هو المفضل عند الدكتور خالد، والذي لم يكشف عنه بوضوح ولم يحسم فيه، فبقي حبيس نظرة مزدوجة التوجه في هذه الإجابة، وتتجلى هذه النظرة في عدم التمكن من الاختيار بين رفض هذه المناهج أو القبول بها في دراسة القرآن الكريم وقراءته.
لقد أراد صاحب المقال - والكلام هنا مع كلامه، والله أعلم بنيته - بإثارته لذلك السؤال أن يُعطي لآرائه وأفكاره الواردة بعده نوعا من المصداقية والحياد، وخاصة لما يمكن أن يكون محل نزاع واختلاف في الرأي، بل لما يمكن أن يُرفض من تلك الآراء التي تُذكر لاحقا في المقال، إلا أنه لم يفلح في ذلك، بسبب اضطراب رأيه في الاتجاه الأول، وهذا ما يتم بيانه في السطور الموالية.
فأما عن المسار الأول أو الاتجاه الأول الذي أخذ حظا من التحليل في رفض أو عدم رفض استعمال تلك المناهج في الدراسة والقراءة لنصوص الوحي، فإن لكاتب المقال رأيين مختلفين في هذا الاتجاه:
الأول يدعو فيه إلى الامتناع عن استعمال تلك المناهج في الدراسة والقراءة للقرآن الكريم والسنة النبوية، وفي هذا المنحى يقول الأستاذ خالد: "إن هناك تفريقا بين اشتغال المناهج النقدية على النص القرآني، وبين اشتغالها على باقي النصوص، وهو ما يمتنع قبوله في الأولى مع إمكان قبوله في الثانية. وهذا التفريق بين النص القرآني وغيره من النصوص من منطلق شرعي ديني، كما أنه من منطلق فلسفي أيضا". ويعزز اختياره هذا أو كلامه في فقرة موالية من المقال بقوله: "وعندما يكون الحديث عن النص القرآني فإننا نؤمن أن القرآن نص إلهي ... ولأن اشتغال هذه المناهج في النص المدروس فرع عن طبيعة النص نفسه، فإذا كانت طبيعة النص لا تسمح به كما هو النص القرآني فلا يمكن فلسفيا أن يصح اشتغال المنهج عليه".
والثاني تراجع فيه عن ذلك الامتناع، بقوله في السطور الموالية من المقال: "...فإن الحديث عن المناهج النقدية الحديثة في دراسة القرآن موضوع متشعب والحكم فيه لا يمكن أن يكون نهائيا، حيث إننا نتعامل مع ثقافة في طور التشكل وهذا له صعوبته المعروفة،...هذا الأمر يجعل المسألة صعبة الحسم بشكل نهائي لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع الوقوف على الصواب فيما يتعلق بممارسة المناهج الحديثة في دراسة القرآن كما لابد من البيان أيضا أن هذه المناهج النقدية متعددة بشكل كبير جدا..." من حيث مجالات اشتغالها، ومن حيث إمكانية التفضيل لمنهج على آخر في تناول بعض القضايا العلمية.
في الكلام السابق "الموضوع متشعب" و"الحكم غير نهائي" في إمكانية اشتغال المناهج النقدية الحديثة على الوحي، و"المسألة صعبة الحسم" في هذا الاشتغال، لكون ثقافة هذه المناهج في "طور التشكل"؛ وفي النصين اللذين قبل هذا الكلام، والكلام للأستاذ خالد: "ممتنع قبوله في الأولى" أي امتناع قبول اشتغال تلك المناهج على نصوص الوحي، و بعد ذلك:"...إذا كانت طبيعة النص لا تسمح به كما هو النص القرآني فلا يمكن فلسفيا أن يصح اشتغال المنهج عليه". هذه العبارات والجمل تدل على التخبط والاضطراب البيّن في التعامل مع مثل هذه القضايا العلمية الضخمة وذات الأولوية؛ وهو ما يُثير سؤالا جوهريا، هو: أليس من المفيد التوقف عن الخوض في مناقشة مسألة علمية من هذا الحجم وبهذه الطريقة قبل التأكد والإحاطة بما يمكن الخروج به منها من خلاصات ونتائج علمية؟ إذ الحسم في مثل هذه القضايا يُعطي للكلام وزنه وصبغته العلمية التي تجعل من تركه أو الأخذ به اختيارا صائبا.
إن من المفارقات العجيبة في هذا المقال اعتبار تلك المناهج ظنية لا يمكن الاعتماد عليها في استخراج الدلالة الشرعية - وهذا عين ما ذُكر في المفصل الأول من المقال-، بينما يظل الباب مفتوحا لقبولها أو رفضها في الاشتغال على قراءة القرآن الكريم ودراسته، وكأن الدلالات الشرعية أهم وآكد من النص الذي تُستخرج منه؟ بمعنى أن الأحكام الشرعية أهم من مواضع طلبها أو هي الأصل الذي يُستدل به على دليله؟
ومنها أيضا هذا الكلام للأستاذ خالد: "...حيث إن الدلالات الشرعية لا تستخرج بمثل هذه الظنيات، وإلا لتحولت الدلالة الشرعية إلى دلالة ظنية..."، وكأن هذه الدلالة قطعية فقط، يعني أنها ثابتة عن نص قطعي الثبوت والدلالة، فصارت من أقسام الحكم الشرعي المعروفة عند الفقهاء. وقد لا تكون من هذه الأقسام، كأن تكون ثابتة عن نص قطعي الثبوت ظني الدلالة، يعني أنها مما اختلف فيه الفقهاء، ومن ثم تتحول إلى ظنية؛ وعليه فهي حسب الدليل أو الأدلة المعتمدة، وحسب فهم وقدرة المُستخرج لها، وطريقة الاستنباط عنده؛ فقد تكون قطعية وقد تكون ظنية.
وأما عن المسار الثاني أو الاتجاه الثاني في استخدام تلك المناهج لنقد النصوص التي "نشأت على ضفاف القرآن الكريم" - والذي رأى فيه صاحب المقال شيئا من السعة - كاشتغال تلك المناهج على علوم القرآن والمسائل الفقهية ونشأة الفقه الإسلامي والسيرة النبوية وغيرها من النصوص. فإن هذا الأمر عليه وفيه نظر، لكون هذه العلوم موضوع اشتغال تلك المناهج هي علوم خادمة لكتاب الله عزوجل ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وأغلب النتائج المُتوصل إليها في نقد علوم القرآن وقراءة القرآن عند من أُعطي بهم المثال - أعني محمد أركون ومحمد عابد الجابري- إن لم تكن طعنات في القرآن الكريم ونتائج يُراد منها إدخال الشك عليه فَشُبَه استشراقية.
وأما ما يُعتبر مقبولا-عند محمد عابد الجابري- من القراءة للمجتمع المكي والمدني وقت البعثة المحمدية فيمكن أن يُتوصل إليه بأدوات علمية ومنهجية - كما ذكر ذلك الأستاذ خالد في المفصل الثالث من المقال- استعملت في علوم إسلامية معينة؛ فاشتغال تلك المناهج على النصوص الخادمة للقرآن الكريم بوجه من الوجوه، ما الهدف العلمي من ورائه؟ هل هو نبْشُها وتقويضها فهدمها؟ ومن ثم هدم النص المستعملة فيه أو على الأقل الإساءة إليه على اعتبار أنها مساعدة على فهمه، بل هي ركن ركين في ذلك الفهم. أم خدمتها لتجديد فهمها وإعادة بناء أركانها؟ أم ماذا؟
إذا كان الهدف هو تجديد بناء تلك العلوم الخادمة لفهم القرآن بأدوات منهجية جديدة، فإن البناء هنا والتطوير إنما يكون باستكمال جوانب النقص التي قد تظهر في ركن أو في أركان من بنائها العام، وشكلها العام، وهذا الاستكمال للبناء يكون بالأدوات والمحددات المنهجية الذاتية، ولا يكون بأدوات الهدم والتشكيك في علمية تلك العلوم، خصوصا وأن معظم العلوم الخادمة لفهم القرآن عرفت تطورا ونضجا كبيرا في بنائها عبر التاريخ؛ اللهم "متعلقات السيرة" و"مصطلح السيرة" الخادمين لـ"علم السيرة" الذي يحتاج إلى جهد إضافي أكبر لاستكمال اللبنات الأولى في بناء مباحثه، خدمة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، على غرار ما عرفته العلوم الشرعية الأخرى كعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه وغيرها.
خاتمة:
ولذلك كله فإن الإرث العلمي الثقيل الخادم لفهم القرآن الكريم يدفع تلك المناهج والعلوم الوافدة ذات المنبع الحضاري المختلف عن الرؤية الحضارية والعمرانية للقرآن الكريم، يدفعها دفعا لا تستطيع معه الدخول إلى حماه، وإعطاء الأمثلة هنا والأدلة على ما أقول لا تسمح به طبيعة التعقيب. كما أن الاقتراض المنهجي هو عين الغزو الفكري، الذي هو نقيض فكر القرآن وثقافة القرآن التي هي الحصن المنيع من إدخال أي منهج غريب عليه، نظن أنه يساعد ويعين على فهمه.
ويكفي لطرح تلك المناهج والتخلي عنها في مجال الدرس القرآني وفي باقي العلوم الإسلامية- ومنبعها القرآن- هو هذا الكلام للأستاذ خالد السيف: "... كما لابد من البيان أيضا أن هذه المناهج النقدية متعددة بشكل كبير جدا وفيها من التداخل الشيء الكثير، وبعض مباني هذه العلوم ليس جديدا..."، فلا تستحق هذا الاهتمام الذي أخذته منا، لأنها ليست من جنس النص المقروء أو المدروس، ومن ثم فلا يعتد بها، فهو يرفضها لذلك السبب؛ وقوله:"... ولأن اشتغال هذه المناهج في النص المدروس فرع عن طبيعة النص نفسه، فإذا كانت طبيعة النص لا تسمح به كما هو النص القرآني فلا يمكن فلسفيا أن يصح اشتغال المنهج عليه".
وعن ضعف تَشَكُّل تلك المناهج وعدم اكتمالها ومحدوديتها، يقول الدكتور خالد: "... هذه المناهج ليست محددة المعالم بشكل دقيق... بل هي أشبه بمفاهيم ومحددات كلية تتشكل بصور مختلفة ولذلك نجد هناك تفاوتا في استخدامها بين المشتغلين في نقد النص القرآني،... بحيث نشكل المنهج بما يتناسب مع المسألة المدروسة وهذا مقبول علميا إلى حد ما..."، وقد لا يكون مقبولا لأن في ذلك انتقائية قد تخل باستعمال المنهج واشتغاله، مما قد يُخرج لنا نتائج غير علمية، ولأن من خصائص المنهج الاطراد والأسبق من أركانه يسلمك للاحق منها. أما السلوك الانتقائي في استعمال تلك المناهج عند أركون والجابري فهدفه إنشاء خزان احتياطي من وسائل الهدم المتاحة عند من أقرضوهم المنهج وأدوات التقويض والهدم، وقد خيب الله مسعاهما وخسرا. والحمد لله رب العالمين. والله أسأل التوفيق والسداد والعون والمدد للمنتصرين للقرآن الكريم وللمناضلين عن الإسلام.
* تشكر مجلة البيان د. عبدالقادر محجوبي لتواصل مع المجلة، ويسعدها نشر تعقيبه على مقال د. خالد السيف، وفي الوقت نفسه وصل المجلة تعقيب د. خالد السيف على الرابط التالي:
تعقيب على تعقيب الدكتور عبدالقادر محجوبي حول مقال المناهج النقدية الحديثة في دراسة القرآن
[1] في المغرب وهو المسمى بـ "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" وكان هذا التأسيس سنة 1975م، وقبله ساهم أيضا معية رفاقه في النضال في تأسيس الحزب المعروف بـ" الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" وكان ذلك سنة 1963م.