يوافق يوم الاثنين 27 رجب ذكرى تحرير القدس والأقصى من الصليبيين، وهي ذكرى تجدد الأمل كل عام، بأن يوم تحريرهما من اليهود الغاصبين آتٍ لامحالة، وأن المسألة مسألة وقت فقط.
بعد أن نجح صلاح الدين في استكمال بناء الجبهة الإسلامية من الموصل إلى مصر، على
مدى 14 عامًا من العمل الدائب (569-583هـ) ، بادر بالدعوة إلى الجهاد، فتدفقت
الجيوش إلى معسكره بدمشق، من سائر إمارات الدولة، فاجتمع حوله، ثلاثين ألف مقاتل،
وجموع غفيرة من المتطوعين.
وفي نهار الجمعة 14 ربيع الآخر583هـ، زحف على رأس جيوشه باتجاه فلسطين، وعسكر
بالقرب من طبرية، الواقعة بمنتصف الطريق بين دمشق والقدس، بينما احتشد الصليبيون
قرب الناصرة عند قرية صفورية، وكانوا قد جمعوا أكبر جيش منذ مجيئهم إلى الشام،
قوامه بين 30- 60 ألفا، فعمل صلاح الدين على استدراجهم إليه في طبرية، بحيث يصلون
إليها، وقد قطعوا مسافة طويلة وأنهكهم التعب. ولنجاح هذه الحيلة، زحف على مدينة
طبرية، ودخلها عنوة، الأمر الذي أثار فزع الصليبيين، لكون طبرية خط الدفاع الرئيسي
عن المملكة الصليبية. وتحرّك الصليبيون نحو طبرية، في ظروف سيئة، نتيجة لحرارة الجو
وقسوة الطريق وندرة الماء.
وعندما سمع صلاح الدين بذلك، استبشر خيرًا، وقال: "جاءنا ما نريد"، وأسرع بالتحول
إلى منطقة أفضل من الناحية الدفاعية، فعسكر في تل بغربي طبرية، عند قرية "حطين".
وبعد مسيرة يومين وصل الصليبيون إلى طبرية وضربوا معسكرهم على سطح الجبل المشرف على
تل حطين، وكانوا منهكين، والعطش قد استبد بهم، لشدة الحرارة وركود الهواء في ذلك
اليوم، وقضوا ليلتهم فوق سطح الجبل يئنون، والمسلمون تحتهم يهللون ويكبرون، وفي
خلال الليل أخذ الهواء يتحرك باتجاههم، فأمر صلاح الدين، بإشعال النار في الأعشاب
والأشواك التي تكسو الجبل، فحمل الهواء الدخان وحرارة النار إلى أفواههم الملتهبة
من العطش، فزاد ذلك نكدا على نكد، وباتوا بشر ليلة، وبات المسلمون بخير ليلة.
المعركة
عندما أشرقت شمس يوم 24 ربيع الآخر 583هـ، أمر صلاح الدين بالهجوم الكبير على
الصليبيين، واصطدم الجيشان في معركة طاحنة، وكان المسلمون قد وطنوا أنفسهم على أن
لا خيار لهم اليوم إلا النصر أو الشهادة، ولذلك فقد قاتلوا باستماتة، وصيحاتهم
"الله أكبر"، تشق الفضاء، وعندما حمي النهار، تراجعت القوات الصليبية نحو بحيرة
طبرية للتزود بالماء، ولكن الجيش الإسلامي حال بينهم وبينها، وكبدهم خسائر فادحة،
فأخذوا يتراجعون باحثين عن مخرج، وقد بلغ بهم الانهاك والعطش كل مبلغ، لكنهم كانوا
يجابهون بحملات ضارية من المسلمين أينما توجهوا، فقد كان الحصار حولهم محكمًا.
|
وبعد شهرين من معركة حطين كان جيش المسلمين، يحيط بمدينة القدس، فأدرك
الصليبيون، أن مقاومتهم لهذا الجيش ستكون عبثية، فرأوا أن من الخير لهم
الإذعان للصلح |
وكانت سهام المسلمين تهوي نحوهم كالجراد المنتشر، فكثر جرحاهم، واكتظت الأرض
بقتلاهم، ولم يبق أمامهم ملجأ إلا قمة الجبل، فصعدوا إليها، يتقدمهم ملكهم،
والمسلمون يطاردونهم، وحناجرهم لاتزال تصدح بالتكبير، مزعزعة قلوب الصليبيين،
وفي غضون ذلك سقط أسقف عكا صريعًا، ووقع من يده صليب الصلبوت، الذي يزعمون أن
المسيح صلب عليه، وكانوا يعدوه ضمانة نصرهم، فاستولى عليه المسلمون، فأصاب ذلك
الصليبيين بالإحباط، وأيقنوا بالهلاك، واستمروا في صعود الجبل والقتال بيأس، وصلاح
الدين مستمر في الدفع بجموع المسلمين لمطاردتهم، وكان وجوده بينهم، أكبر حافز لهم
على متابعة القتال دون هوادة، ومازال القتل والأسر يعملان في الصليبيين، حتى كانت
المعركة الأخيرة عند خيمة ملك الصليبيين في قمة الجبل، التي لم تلبث جموع المسلمين
أن تكاثرت عليها حتى أسقطتها، ورمت بقية القوات الصليبية المدافعة عنها أسلحتها على
الأرض، واستسلمت، وكان ذلك ما ينتظره صلاح الدين بفارغ الصبر، فلما سقطت الخيمة
أيقن أنه النصر، وسجد شكرًا لله وبكى من الفرح. وانتهى أمر الجيش الصليبي كله، بين
قتيل وأسير وعلى رأسهم ملكهم وجل قادتهم.
الطريق إلى القدس
بعد هزيمة الصليبيين في حطين، لم يتوجه صلاح الدين إلى القدس مباشرة، ورأى أن
الطريق إليها يمر بمدن الساحل، وذلك للأسباب التالية:
1. قطع شرايين الاتصال التي تربط الصليبيين في هذه المدن بوطنهم الأم وراء البحار،
ومنع تلقيهم لأي مدد عن طريقها من الغرب الأوروبي، وبالتالي، تضييق الخناق على بقية
الغزاة في القدس.
2. تأمين الاتصال البحري بين هذه المدن الساحلية، وبين مصر، لاستقبال المدد منها
عند اللزوم عبر الأسطول المصري، وبخاصة عسقلان وعكا.
3. أنه لو بدأ بتحرير القدس، لربما أخذت النشوة الجيوش الإسلامية، وفتر حماسهم،
وتكاسلوا عن تحرير هذه المدن بعد ذلك، وربما عادوا إلى بلدنهم، بعد أن قرت أعينهم
بتحرير القدس والأقصى.
4. أنه لو بدأ بتحرير القدس، فلن يستطيع بعد ذلك استثارة حماس المسلمين في الداخل
لنجدته، لتحرير هذه المدن، على عكس عندما يكون الأمر متعلقًا بتحرير المدينة
المقدسة.
وقد تداعت مدن الساحل في السقوط في يد صلاح الدين إحداهما بعد الأخرى، مثل عكا
وقيسارية وحيفا وصيدا وبيروت وجبيل وعسقلان وغزة وغيرها. ولم يتبقَ من الموانئ
التابعة لمملكة بيت المقدس سوى صور التي لجأ إليها الناجون من المعركة، والتي أيضًا
وصلتها نجدة بحرية.
|
وأمر صلاح الدين جنوده بألا يقتلوا أحدا، ولا يهاجموا بيتاً، واتخذت
الإجراءات لخروج الصليبيين منها سلمياً، فأغلقت جميع أبواب المدينة، ووضع
بها الحراس والأمناء للإشراف على خروج الصليبيين |
وبعد شهرين من معركة حطين كان جيش المسلمين، يحيط بمدينة القدس، فأدرك الصليبيون،
أن مقاومتهم لهذا الجيش ستكون عبثية، فرأوا أن من الخير لهم الإذعان للصلح،
فأرسلوا أحد قادتهم ويدعى "باليان"، للتفاوض مع صلاح الدين حول شروط التسليم، وتم
الاتفاق على أن يخرجوا من المدينة بأموالهم وممتلكاتهم في مـدة أربعـين يومًا، على
أن يدفع الرجل منهم عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والولـد اثـنين.
تحرير القدس
وتسلّم صلاح الدين المدينة من قادة الصليبيين، ظهيرة الجمعة 27رجب583هـ الموافق (2
أكتوبر1187م.)، وكان بها 60 ألف صليبي، من المقاتلين والنِّساء والولدان، وكانوا قد
تجمعوا بها من سائر النواحي القريبة من القدس، فاكتظت بهم الكنائس والشوارع.
وأمر صلاح الدين جنوده بألا يقتلوا أحدا، ولا يهاجموا بيتاً، واتخذت الإجراءات
لخروج الصليبيين منها سلمياً، فأغلقت جميع أبواب المدينة، ووضع بها الحراس والأمناء
للإشراف على خروج الصليبيين،
وقبض الفدية المقررة، فخرج الصليبيون من المدينة في ثلاث قوافل، إحداها لفرسان
المعبد، والثانية لفرسان الاسبتارية، والثالثة يقودها البطريرك.
وكلها خرجت في حراسة القوات الإسلامية، ومعهم أموالهم، دونما إراقة قطرة دم واحدة.
فكان هذا المشهد مناقضاً للمشهد الذي شهدته القدس عندما دخلها الصليبيون قبل 90
عاما، بل إن صلاح الدين، أعفى كثيرا من الصليبيين الفقراء وكبار السن من الفدية،
وسمح للنصارى الأصليين في المدينة من العودة إلى مساكنهم، كما سمح بشراء المواد
التي عرضها الصليبيون للبيع، قبل خروجهم. وخرج الصليبيون باتجاه الإمارات الصليبية
في طرابلس وصور وإنطاكية، ولكنهم وجدوا أبوابها مغلقة دونهم.
واهتم صلاح الدين، بتطهير الأماكن المقدسة من دنس وأقذار الصليبيين، وإعادتها إلى
سابق عهدها قبل عدوانهم عليها، ونالت منطقة الحرم القدسي الشريف اهتمامًا خاصًا
منه، فقد كان الصليبيون قد أقاموا كنيسة وقاعة للطعام ومساكن لفرسان المعبد
ومستودعا لأسلحتهم، واسطبلا لخيولهم، في المسجد الأقصى، فأزيلت كل هذه المباني
والمساكن ونظف المسجد وساحاته من الأقذار والمخلفات، كما أمر صلاح الدين، بإزالة
الصور والرسوم من قبة الصخرة، وإزالة الصليب المزروع فوقها، وعين أمامًا للأقصى
وأقيمت فيه صلاح الجمعة في 4 شعبان، بحضوره وخطب فيها القاضي محيي الدين بن الزكي،
خطبة بليغة طويلة مؤثرة خالدة.