لم يشكل خسارة نظام الأسد في سوريا والتي كانت تدعمه روسيا بقوة، تأثيرا سلبيا محدودا أو مؤقتا عليها، بل شكل ضربة قاصمة لحضور الروسي في ليبيا وبقية الحلفاء في إفريقيا والتي مدت معهم جسور التعاون في الآونة الأخيرة
في سبتمبر 2015، أطلقت روسيا استراتيجيها الجديد بعودتها إلى الشرق الأوسط بوصفها
وريث الإمبراطورية السوفيتية القديمة وذلك باستجابتها إلى طلب نظام الأسد لدعمه في
وجه المعارضين الذي كادوا أن يصلوا إلى دمشق، وأطلقت عملية عسكرية شديدة القسوة
تجاه المناطق الخارجة عن سلطة الأسد، وسوت عبر الطيران العسكري كثيرا من المدن التي
كانت تحت سيطرت المعارضة بالأرض وأعادتها إلى سيطرة حليفها بشار الأسد.
كان المقابل الذي حصلت عليه روسيا هو قاعدتها العسكرية في طرطوس ــ ميناءها الوحيد
في المياه الدافئة ــ كما استحوذت على قاعدة جوية في حميميم، الأمر الذي مكنها من
فرض قوتها ونفوذها في الشرق الأوسط الأوسع وما بعده.
دفع الوجود الروسي في سرويا إلى تعزيز علاقاتها مع إيران حيث دعمت كل منهما نظام
الأسد، بالقطع لم يكن الملف السوري هو الدافع الوحيد لهذا التقارب. فقد زودت إيران
روسيا بطائرات مسيرة، وكان منهما دعم الآخر في وجه العقوبات الاقتصادية الغربية
التي طالتهما. لقد لعب الغزو الروسي في سوريا دورا مهما في عودتها كقوة عظمى، لها
امتدادات وحضور عسكري واقتصادي في الشرق الأوسط وإفريقيا، وبدأت القوات الروسية عبر
شركة فاغنر _ والتي أعيد هيكلتها مؤخرة بعد مقتل مؤسسها
–
التوغل في ليبيا والعيد من الدول الإفريقية عبر القواعد العسكرية في سوريا.
لذلك فإن سقوط بشار الأسد يشكل انتكاسة كبرى لروسيا. فمع استنزاف مواردها العسكرية
في حربها مع أوكرانيا، لم تتمكن موسكو من تقديم الدعم الذي يحتاج إليه الأسد مع
تقدم المعارضة العسكرية. الشيء الوحيد الذي استطاع فلاديمير بوتن فعله لنظام الأسد
هو منحة حق اللجوء "الإنساني" في روسيا، ومن غير الواضح نوع العلاقة التي قد يتمكن
الكرملين من تطويرها مع المعارضين للحكم الديكتاتوري والذين أصبحوا في السلطة اليوم
والذين كانت القوات الروسية تقاتلهم في السابق.
وإذا خسرت روسيا قاعدتيها العسكريتين في سوريا، فإن هذا من شأنه أن يشكل ضربة قوية
لحضورها العالمي؛ وسوف تبذل موسكو كل ما في وسعها للحفاظ على هذه القواعد. كما يثير
سقوط الأسد تساؤلات حول موثوقية روسيا كحليف وشريك.
هنا قد يسعى بوتين لإقامة علاقات مع الحكام الجدد في دمشق. ولكن حتى يفعل ذلك، فإن
دور روسيا كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط يظل موضع شك.
ما هو على المحك بالنسبة لروسيا على الحقيقة هو قاعدتها الجوية في حميميم وقاعدتها
البحرية في طرطوس، وهما القاعدتان الأساسيتان لتواجدها العسكري في الشرق الأوسط.
وباعتبارها نقطة التزود بالوقود الوحيدة لروسيا في البحر الأبيض المتوسط، فإن طرطوس
مهمة للعمليات العسكرية الروسية في مختلف أنحاء العالم، كما أنها مصدر إزعاج على
الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي.
|
ربما كانت الضربة الكبرى التي تلقاها فلاديمير بوتن، هي عدم قدرة موسكو على
إنقاذ الأسد وهو الأمر الذي يضعف من شأن استراتيجيتها للعودة كقوى عظمى
صاحبة نفوذ دولي قادرة على حماية حلفائها والأنظمة الموالية لها |
كانت القواعد الروسية في سوريا بالغة الأهمية لتزويد فيلق أفريقيا الروسي في مختلف
أنحاء أفريقيا. وفي حين تمتلك روسيا أيضا قواعد في ليبيا لتزويد فيلق أفريقيا، فإن
أنظمتها اللوجستية سوف تكون مقيدة إذا فقدت القواعد السورية. وبعد تخفيف نبرتها،
تتواصل موسكو مع هيئة تحرير الشام للتفاوض على الحفاظ على قدرتها على الوصول إلى
القواعد. وفي حين قد تكون هيئة تحرير الشام حريصة على استمالة الشرعية الدولية فهل
تخاطر بوجود الأصول العسكرية الروسية للانقلاب على حكمها في المستقبل؟
وبغض النظر عما إذا كانت روسيا ستتمكن في نهاية المطاف من الاحتفاظ بالقواعد
السورية أم لا، فإن روسيا أصبحت في موقف محرج: فقد شهدت المجالس العسكرية التي
تدعمها في غرب أفريقيا والأنظمة التي تتعاون معها في وسط أفريقيا وعلى الساحل
الأطلسي للتو مدى عجز روسيا في لحظة الحقيقة.
وتؤدي هذه الخسائر في المصداقية إلى تفاقم الخسائر التكتيكية التي تكبدتها قوات
فيلق أفريقيا على يد الجماعات المسلحة في مالي خلال الصيف. ولا تستطيع المجالس
العسكرية في غرب أفريقيا، التي تعتمد على خدمات الحرس البريتوري التابعة لقوات فيلق
أفريقيا، أن تتخلى عن تحالفاتها مع روسيا. ولكن البريق بدأ يخفت.
تؤثر الوجود الروسي في ليبيا
ولكن شك أن سقوط بشار الأسد وفقدان قاعد طرطوس على البحر المتوسط سيؤثر على الحضور
الروسي في ليبيا فقد أدّت موسكو في البداية دورًا مهمًّا في تشجيع وصول حفتر إلى
السلطة بدءًا من أوائل العام 2014، عبر مساندة حملته العسكرية في شرق ليبيا، وتوفير
الفنيين والمستشارين وتقديم الدعم الاستخباراتي والدعائي، وطباعة الأوراق النقدية
لحكومته غير المُعترَف بها - حتى في ظلّ انخراطها مع قوى أخرى في ليبيا.
ومع هجوم حفتر على حكومة طرابلس في العام 2019، زادت روسيا من حضورها في ليبيا من
خلال نشر آلاف المرتزقة من مجموعة فاغنر (التي أُعيدت هيكلتها منذ ذلك الحين)،
وأفراد عسكريين نظاميين، وطائرات، وأنظمة دفاع جوي. وفيما فشلت قوات حفتر في
السيطرة على السلطة في العاصمة بسبب التدخّل العسكري التركي، تكيّفت موسكو بسرعة مع
الوضع، واحتفظت بالكثير من عناصرها وأسلحتها في قواعد جوية رئيسة بالقرب من منشآت
النفط. وفي السنوات الأخيرة، إلى جانب دعم موسكو المستمر لحفتر، استخدمت روسيا
ليبيا كقاعدة حيوية لإرسال مقاتلين وإمدادات عسكرية إلى دول منطقة الساحل الأفريقي
وغيرها.
قد يهدّد سقوط الأسد، أو يعقّد على أقلّ تقدير، طريق الإمداد هذا إلى أفريقيا، وإلى
شرق ليبيا، وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لحفتر. يُعزى ذلك إلى أن معظم الإمدادات مرّت
عبر سوريا، وخصوصًا عبر قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية. ولا
شك أن روسيا اتخذت خطوات للتوصّل إلى اتفاق مع القيادة الجديدة في سوريا أو عبر
الوسيط التركي بشأن الاحتفاظ بهاتَين القاعدتَين العسكريتَين الحيويتَين، إلّا أن
حصيلة هذه المفاوضات غير مؤكّدة.
فمن دون السلطة المركزية لنظام الأسد الاستبدادي، قد يكون الحفاظ على قاعدتَي طرطوس
وحميميم أكثر تكلفة وأشدّ تعقيدًا لموسكو، ولا سيما في ظلّ وجود معارضة محلية أو
بنى لوجستية هشّة، وكلّ هذا من شأنه أن يؤثّر على حفتر.
في وجه حالة اللايقين هذه، قد تُقرّر روسيا ممارسة ضغوط على حفتر من أجل تأمين وصول
بحري أكثر ديمومة إلى ميناء طبرق، الذي يشكّل مركزًا يتدفّق عبره الأفراد والمعدّات
الروسية إلى أفريقيا. لكن هذه الخطوة قد تلقى معارضةً أكبر من جانب حلف شمال
الأطلسي والولايات المتحدة، ما يفاقم المعضلة التي يواجهها حفتر في تحقيق توازنٍ
بين مطالب داعميه كافة.
بدلًا من ذلك، يمكن لروسيا توجيه شحناتها الجوية إلى القواعد الليبية الخاضعة
لسيطرتها. لكن هذا الخيار مكلفٌ أيضًا، والأهم أنه يتطلب إذنًا من تركيا لاستخدام
مجالها الجوي. ونظرًا إلى التوتّرات بين البلدَين حول عددٍ من القضايا، وخصوصًا
التفاهم القائم بينهما في ليبيا، غالب الظن أن تضع أنقرة شروطًا مقابل بادرة حسن
النية هذه.
لكن
ربما كانت الضربة الكبرى التي تلقاها فلاديمير بوتن، هي عدم قدرة موسكو على إنقاذ
الأسد وهو الأمر الذي يضعف من شأن استراتيجيتها للعودة كقوى عظمى صاحبة نفوذ دولي
قادرة على حماية حلفائها والأنظمة الموالية لها،
وهو ما سيجعل كثير من الحكام الأفارقة والأنظمة التي تتلقى الدعم من روسيا تعيد
النظر في هكذا تحالف.
يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة ستستغل هذا الضعف لإعادة تموضعها في إفريقيا
ومحاولة قطع الطريق على الحضور الروسي واستغلال الثغرات التي يخلفها على قدرة موسكو
على إرسال الدعم الكافي لحلفائها في إفريقيا.