• - الموافق2024/12/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من سنن الله تعالى في خلقه ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾

ومن السنن المذكورة في القرآن، المتكرر وقوعها في تاريخ البشر سنة الاستبدال، وهي من دلائل قوة الله تعالى وضعف البشر، ومن دلائل قدرته سبحانه على خلقه، وهو سبحانه خلق البشر وليس محتاجا إليهم،


الحمد لله العلي الأعلى ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [الأعلى: 2 - 5]، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى هاديا ومعلما، ومبشرا ومنذرا، ففتح به قلوبا غلفا، وأعينا عميا، وآذانا صما، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه، واحمدوه إذ هداكم، واشكروه على ما أعطاكم ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة: 198].

أيها الناس: سنن الله تعالى في عباده ثابتة لا تتبدل، وواقعة لا تتحول ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43]. وفهم سنن الله تعالى في البشر يعين العبد على موافقتها، ويقيه شر مخالفتها، ويتلمس أسبابها، فينجو في دنياه من بلاء مؤكد، وينجو في آخرته من عذاب محقق.

ومن السنن المذكورة في القرآن، المتكرر وقوعها في تاريخ البشر سنة الاستبدال، وهي من دلائل قوة الله تعالى وضعف البشر، ومن دلائل قدرته سبحانه على خلقه، وهو سبحانه خلق البشر وليس محتاجا إليهم، وكلفهم بحمل دينه ووعدهم بالجزاء عليه في الآخرة، وهو قادر على استبدال غيرهم بهم، والآيات الواردة في ذلك كثيرة ومنوعة:

 فمنها آيات يُذكر فيها قدرة الله تعالى على استبدال قوم بآخرين، وأن ذلك ليس بممتنع عليه؛ كما في قول الله تعالى ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ [النساء: 133]، وقوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم: 19- 20]، وقوله تعالى ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾ [الإنسان: 28].

وآيات أخرى يُذكر فيها غنى الله تعالى عن خلقه وفقرهم إليه، مع ذكر قدرته سبحانه على استبدال قوم بآخرين؛ كما في قوله تعالى ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الأنعام: 133]، وقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [فاطر: 15 - 17]، وقوله تعالى ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الواقعة: 60- 61].

ولسنة الاستبدال سبب ذكره الله تعالى في القرآن الكريم؛ ليعرفه المؤمنون، ويتذكرونه في قراءتهم للقرآن، فلا يأتونه لئلا تحق عليهم سنة الاستبدال، وهذا السبب هو ترك الدين كله، أو ترك نصرته والذود عنه؛ ففي استبدال من تركوا الدين كله قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ [المائدة: 54]، فإذا ارتد قوم عن إيمانهم فإنهم يضرون أنفسهم في الدنيا باستبدال غيرهم بهم، يحملون دين الله تعالى وينصرونه. وفي الآخرة بالخلد في العذاب المهين ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7]، وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه قادر على استبدال قوم بآخرين خير منهم في قوله تعالى ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ [المعارج: 40- 41].

ونصرة دين الله تعالى تكون باللسان والمال والسنان؛ فنصرته باللسان بتعليم العلم ونشره، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونصرته بالمال تكون بالإنفاق على الجهاد الشرعي، والإنفاق على الدعوة إلى الله تعالى، والإنفاق في كافة سبل الخير. ونصرته بالسنان تكون بالجهاد الشرعي الذي غايته إعلاء كلمة الله تعالى، ونصرة دينه. وفي مضي سنة الاستبدال على من تركوا نصرة الإسلام قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [التوبة:38-39]، وقوله تعالى ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38].

وسنة الاستبدال قد تكون بهلاك عام يصيب المستبدَلين كما أهلك الله تعالى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وجنده. قال الله تعالى في تمكين بني إسرائيل ووراثتهم للأرض بعد إهلاك فرعون وجنده ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137]، وهو وعد من الله تعالى لهم؛ كما قال سبحانه ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: 6]. وقد تكون سنة الاستبدال بنقل الفضيلة من أمة إلى أخرى؛ كما أن الله تعالى فضل بني إسرائيل على سائر الأمم التي قبلهم والتي عاصرتهم؛ كما في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الجاثية: 16]، وامتن سبحانه وتعالى عليهم بهذا التفضيل في قوله عز وجل ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 47].

ولما بعث عيسى عليه السلام كفر به قوم وآمن به قوم؛ فحق الاستبدال على من كفروا به، والتمكين لمن آمنوا به ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: 14]، فظهر النصارى على اليهود قرونا طويلة، وسلطوا عليهم فعذبوهم وأذلوهم، فجرت في اليهود سنة الاستبدال التي قدرها الله تعالى في عباده.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية

  الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131- 132].

أيها المسلمون: لما حرَّف النصارى كتبهم، وتركوا دين المسيح عليه السلام؛ حقت عليهم سنة الاستبدال، فبعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالإسلام؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فآمن به قوم من العرب ومن الفرس ومن اليهود ومن النصارى، فاستحقوا الخيرية والتفضيل والتمكين، وكفر به كثير من العرب وأكثر الفرس واليهود والنصارى فحقت عليهم سنة الاستبدال، وانتقلت الخيرية إلى من دان بالإسلام كما خاطبهم الله تعالى بقوله ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110].

ولأن الله تعالى قد ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقضى ببقاء الإسلام إلى آخر الزمان، ورفع العذاب العام؛ فإن سنة الاستبدال تحولت من استبدال أمة بالإهلاك العام إلى نقل التفضيل والنصر والتمكين من قوم إلى آخرين، فمن ترك الإسلام أو ترك نصرته أبدل الله تعالى به غيره ممكن يحمل راية الإسلام وينشره ويدافع عنه، وتسري هذه السنة الربانية على الدول والطوائف والأفراد، وهي سنة ماضية في هذه الأمة إلى يوم القيامة؛ ولذا حمل لواء الإسلام على مر تاريخ المسلمين أجناس شتى، ودول عدة من العرب والفرس والكرد والترك وغيرهم. كلما ضعف قوم عن نصرة الدين استبدل الله تعالى بهم غيرهم ممن ينشره وينصره.

بل إن سنة الاستبدال تطول الناس في أي تمكين لهم لم يقوموا بواجبه، أفرادا كانوا أم جماعات أم دولا، كما روي في الحديث: «إِنَّ للهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ العِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا يَبْذُلُونَهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلى غَيْرِهِمْ» رواه الطبراني. وقال الفضيل بن عياض: «أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ عَلَيْكُمْ؟ فَاحْذَرُوا أَنْ تَمَلُّوا النِّعَمَ فَتَصِيرَ نِقَمًا» رواه البيهقي.

إن من علم سنة الله تعالى في الاستبدال تجنب أسبابه؛ لئلا تتحول نعمه إلى نقم، وعافيته إلى بلاء، وعزه إلى ذل. وأخذ بأسباب حفظ النعم، ودفع النقم، والتمكين في الأرض باستقامته على أمر الله تعالى، ونصرته لدينه القويم ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 40- 41].

وصلوا وسلموا على نبيكم...

أعلى