وجه آخر للمواجهة الأمريكية الروسية!

وأحد النقاط المهددة للشراكة الأوروبية الأمريكية هي أيضاً صعود اليمين القومي الأوروبي فوفقاً لإحصائية نشرها معهد بيو الأمريكي، هناك الكثير من التململ داخل الأوساط الأوروبية بشأن أهمية وجود حلف "الناتو"، وقد يفسر هذا الأمر صعود اليمين الأوروبي


الرأسمالية التي قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية هي في الحقيقة سياسة إقتصادية تمكنت عبرها من توزيع خارطة نفوذها الاقتصادي والأمني، لذلك ينظر إلى أوروبا على أنها الأكثر تبعية للنفوذ الأمني والإقتصادي الأمريكي، فبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وقع الرئيس الأمريكي هاري ترومان تشريع في عام 1948م يحمل صفة الدعم لأوروبا الخارجة من الحرب بقصد إعادة بنائها عرف باسم "خطة مارشال" والتي بموجبها تم تقديم دعم مالي بقيمة 130 مليار دولار، لكن في نفس التوقيت كانت واشنطن تشكل هوية سياسية جديدة بصفتها القوة العظمى التي استطاعت فرض نفوذها في العالم عقب إنكسار القوى الإستعمارية السابقة، فبدأت بتأسيس مايعرف اليوم بالأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة حلف شمال الأطلسي، والمعروفة باسم "الناتو"، وكلها منظمات دولية ظاهرياً لكنها في حقيقتها أدوات سياسية وأمنية وإقتصادية لحماية المصالح الأمريكية.

استعان ترومان، بوزير الخارجية جورج مارشال، لتشكيل لجنة أمريكية كان غالبية أعضائها من كبار رجال الأعمال في شركات مثل جنرال فودز، وكوكا كولا، وجنرال إلكترك، وجولدمان ساكس، لتفصيل برنامج إقتصادي لمساعدة أوروبا يمكنه أن يقدم استفادة حقيقية للإقتصاد الأمريكي، ونجحت هذه اللجنة في تعزيز أسواق العملات الأوروبية، لضمان قدرة تلك الدول على شراء سلع أمريكية، والجزء الآخر من التدخل كان يتعلق بالمكتسبات الأمنية المتمثلة في تشكيل قوة عسكرية تخدم الأهداف الأمريكية عالمياً لكنها تعتمد في تمويلها على المخاوف الأوروبية من تكرار سيناريو الرايخ الثالث بقيادة ادولف هتلر، لذلك تم بناء عرف بحلف الناتو كأكبر منظومة عسكرية غربية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا كنا نريد قياس الفائدة الأمريكية من الاقتصاد الأوروبي فإن الأرقام توضح الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة وكان على مدى العقود السابقة يحمل هذه الصفة، فقد استوردت الولايات المتحدة بــ592 مليار دولار من السلع والخدمات الأوروبية عام 2016 بينما صدرت 501 مليار دولار وهو رقم يمثل 19% من إجمالي التجارة الأمريكية ويمثل أيضاً 19 % من الإنتاج المحلي الأمريكي.

عقب صعوده لسلم السلطة في البيت الأبيض، بدأ الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بتصعيد نبرته تجاه شركاء الولايات المتحدة التقليديين مثل الاتحاد الأوروبي بل وصف الإتحاد في إحدى خطاباته بــ"العدو"، وطالب أعضاء الاتحاد برفع قيمة الدعم المالي المقدم لتمويل حلف شمال الأطلسي، بنسبة تصل إلى 2,5% من الناتج القومي لتمويل الحلف، لكن الكثير من الدول مثل فرنسا عارضت هذا الطرح وشككت في جدوى وجود الناتو لاسيما عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وقد يكون أيضاً من أسباب تململ الدول الأعضاء في دعم التحالف، عدم تكافؤ الفرص في صناعة القرار داخله، مقارنة بالدعم المقدم، وكذلك عدم توزيع الإنفاق بصورة عادلة على الأعضاء، فعلى سبيل المثال تدفع واشنطن 16% من موازنة "الناتو" بينما تدفع ألمانيا نفس الرقم، لكن هناك فجوة كبيرة بين البلدين من حيث عدد السكان، أما الأمر الآخر فهو يتعلق بما تصفه فرنسا بالخذلان الأمريكي لحلفائها خصوصاً عقب إلغاء استراليا لصفقة غواصات مع فرنسا وستبدالها بإتفاقية "AUKUS" مع الولايات المتحدة وبريطانيا، كذلك فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعدد من قادة الكتلة الأوروبية فسروا الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسوريا والعراق على أنه خذلان لشركاء الولايات المتحدة حول العالم، لذلك خرجت مطالبات فرنسية وألمانية تتحدث عن ضرورة وجود شراكة دفاعية أوروبية بعيداً عن المضلة الأمريكية.

وأحد النقاط المهددة للشراكة الأوروبية الأمريكية هي أيضاً صعود اليمين القومي الأوروبي فوفقاً لإحصائية نشرها معهد بيو الأمريكي، هناك الكثير من التململ داخل الأوساط الأوروبية بشأن أهمية وجود حلف "الناتو"، وقد يفسر هذا الأمر صعود اليمين الأوروبي الذي يمثله أشخاص مثل رئيس وزراء المجر، فيكثور أوربان، الذي رفض تقديم دعم عسكري لأوكرانيا في الفترة الحالية، وكذلك الأمر بالنسبة لصربيا التي فضلت الرهان على موقفها من روسيا بدلاً من الإصطفاف إلى الجانب الأمريكي، وكذلك إيرك أزمور ومارلين لوبان أبرز مرشحي اليمين الفرنسي الوقوف إلى جانب أوكرانيا في هذه المواجهة، وهذا الأمر يقودنا إلى التعرف على وجود خطاب لا نستبعد أن يؤثر فيه عدة عوامل أولها العداء الديني المعهود بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستنت وكذلك الخطابات القومية التي يتستر بها اليمين الفرنسي والأوروبي، وهذا الأمر لاشك أنه يقود إلى إضعاف التأثير الأمريكي في أوروبا.

النقطة الحاسمة وهي جزء من إرث خطة مارشال الأمريكية مرتبط بوجود بدائل اقتصادية أكثر تنافسية بالنسبة للاقتصاد الأوروبي مثل الصين التي تعتبر أوكرانيا أحد بوابات توغل مشروع طريق الحرير في أوروبا، بالإضافة إلى الشراكات الأوروبية الروسية التي يمكن قياسها بالأرقام، ففي عام 2020 صنفت روسيا خامس شريك للاتحاد الأوروبي، بينما يعد الاتحاد أكبر شريك لروسيا فقد استحوذ على 37% من إجمالي تجارة البضائع الروسية، وتصدر روسيا  إلى الاتحاد الأوروبي 26% من واردات النفط، بينما تصدر 40% من واردات الغاز، وقدر حجم التجارة بين الجانبين لعام 2020 ب174 مليار يورو، لذلك منذ بداية الحرب في أوكرانيا ظهر تباين واضح في الآراء لقادة الإتحاد الأوروبي بشأن العلاقات مع روسيا، فقد كانت آخر الخطوات الأمريكية للتخلص من النفوذ الاقتصادي الروسي في أوروبا الضغط على ألمانيا لوقف مشروع "نورد ستريم2" لتوريد الغاز عبر المياه الإقليمية الألمانية، ونجحت في هذه الخطوة خلال الحرب الأخيرة، وانعكس الضغط الأمريكي بصورة سلبية على أسعار الغاز  حيث ارتفعت في السوق الأوروبي بصورة مخيفة وبلغت نسبة التضخم أكثر من 5% بينما تحاول واشنطن الضغط بإتجاه توسيع رقعة الحرب بهدف واضح هو إعادة إظهار روسيا كعدو مخيف للاتحاد الأوروبي يستلزم وجود الحماية الأمريكية .

 

أعلى