من المسائل المتفق عليها قديماً وحديثاً : إعذار
المجتهد المخالف ؛ فما زال العلماء يخالف بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد ، ولا
يمنعهم ذلك من التواد والتحاب ؛ وأقوال الأئمة في ذلك كثيرة جداً ، منها : قال يحيى
بن سعيد الأنصاري وهو من أجلاَّء التابعين : « ما برح المستفتون يُستفتَوْن ،
فيُحل هذا ، ويُحرِّم هذا ، فلا يرى المحرِّم أنَّ المحلِّل هلك لتحليله ، ولا يرى
المحلِّل أن المحرِّم هلك لتحريمه » [1] .
وقال سفيان الثوري : « إذا رأيت الرجل يعمل العمل
الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه » [2] .
وقال ابن قدامة المقدسي : « لا ينبغي لأحد أن ينكر
على غيره العمل بمذهبه ؛فإنه لا إنكار على المجتهدات » [3] .
وقال ابن تيمية : « التفرق والاختلاف المخالف
للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه ، ويحب بعضاً ويواليه على
غير ذات الله ، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز ، وببعضهم
إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح ، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم
خلف بعض ، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله ، والاجتماع والائتلاف
من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله » [4] .
وهذه المسألة على الرغم من وضوحها وجلائها واتفاق
الناس عليها إلا أن في تطبيقها عند بعض الناس خللاً ظاهراً ؛ فخلافٌ يسير في مسألة
فقهية اجتهادية يسوغ فيها الخلاف يؤدي إلى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية . نسأل
الله السلامة .
ومن المسائل الفقهية التي يتجدد حولها الجدل في
البلاد الغربية خاصة في مثل هذه الأيام ، مسألة : ( إثبات دخول شهر رمضان وخروجه ) ؛ فمنهم من يرى
وجوب الاعتماد على الرؤية ، ومنهم من يرى الاعتماد على الحساب . والقائلون بالقول
الأول يختلفون فيما بينهم على أقوال : فمنهم من يرى اعتماد رؤية مكة ، ومنهم من
يرى اعتماد رؤية أقرب بلد إسلامي ، ومنهم من يرى اعتماد رؤية أي بلد إسلامي ...
ومثل هذا الخلاف أدى في العام المنصرم في بعض
المدن الأوروبية مثلاً إلى جدل عريض ، ثم تطور إلى قيل وقال ، ثم وصل الحال إلى
تراشق بالتهم عند بعضهم ، وراح بعض أتباع كل فريق يستدعي خلافات أخرى ، ويستثير
كوامن من الاختلافات القديمة .. ! ! ووقع بعضهم فيما أشار إليه العلاَّمة القاسمي
بقوله : « غريبٌ أمر المتعسفين ، والغلاة الجافين ، تراهم سراعاً إلى التكفير
والتضليل، والتفسيق والتبديع ، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا ما دعا
إليه الحسد ، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم » [5] .
فالقائلون بالقول الأول : يرون إخوانهم قد ردوا
النص الشرعي ، وساروا على منهاج أهل الأهواء من العقلانيين الذين لا يعظمون النصوص
ولا يرعون حرمتها ، وربما عظم بعضهم هذا الخلاف ، وزعم أنه ليس خلافاً فقهياً ، بل
هو خلاف منهجي ، وما الخلاف في هذه المسألة إلا أثر من آثاره ! !
والقائلون بالقول الثاني : يرون إخوانهم قد جمدوا
في فهم دلالة النص ، فمقصود الشارع أن يتثبت الناس من دخول الشهر ، فإذا استطاعوا
معرفة دخوله بأي طريقة علمية صحيحة فثمَّ مقصود الشارع . والحساب الذي ردَّه
المتقدمون من أهل العلم كابن تيمية وغيره هو الحساب الظني الذي يكثر فيه خطأ
الحسابيين واختلافهم فيما بينهم ، أما الحساب في هذا العصر فقد تغيرت آلياته
وتطورت أدواته ، وأصبحت نسبة الخطأ فيه قليلة جداً ، والشرع لا يأتي بما يخالف
العقل .
وأحسب أن حسم الخلاف بين الفريقين متعسر جداً إن
لم يكن متعذراً ؛ فمن جاء بفتوى من أحد العلماء رُدَّ عليه بفتوى أخرى مخالفة لها
من عالم آخر ، وكل عالم لدى صاحبه أوْلى بالاتباع من الآخر .
إذن ما الحل في ظل غياب الولاية الإسلامية التي
تجمع الناس على رأي واحد ؟ ! أرى أن أمامنا خيارين :
* الخيار الأول : أن يأخذ كل مركز بما يرى
أنه الأرجح ، وعلى الأئمة ومديري المراكز الإسلامية والمساجد أن يتقوا الله تعالى
في الترجيح ، ويبذلوا الجهد في الوصول إلى الحق الذي تبرأ به الذمَّة ، ويستشعروا
عظم الأمانة المناطة في أعناقهم .
ثم ينبغي لكل مركز ومسجد أن يقدر رأي الآخرين
الذين خالفوه ، ويلتمس لهم العذر ، ويذبَّ عنهم ، ولا يسمح بالجدل والمراء .
وهذا الرأي وإن كانت نتيجته تفريق الناس في
المدينة الواحدة ، إلا أن فيه قطعاً لمادة الخلاف والتنازع ، وسداً لأبواب الغيبة
والنميمة ، قال ابن تيمية : « .. وإن رجح بعض الناس بعضها [يعني : بعض الاجتهادات]
ولو كان أحدهما أفضل ؛ لم يجز أن يظلم من يختار المفضول ولا يذم ولا يعاب بإجماع
المسلمين ، بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين ، ولا يجوز التفرق بذلك
بين الأمة » [6] .
* الخيار الثاني وهو الأوْلى والأرجح : أن يجتمع أهل الرأي من
الأئمة ومديري المساجد والمراكز ويتدارسوا المسألة ، ثم يخرجوا باتفاق موحَّد ؛
ويتطلب هذا حرصاً من الجميع على ضرورة التآلف والاتفاق ، والالتزام بقول النبي صلى
الله عليه وسلم : « تطاوعا ولا تختلفا » [7] . فليس المقصود أن ينتصر
المرء لرأيه ، بل المقصود هو تحقيق المصلحة الشرعية ؛ فمفسدة التدابر والتنابذ
والتقاطع أعظم أثراً وأشد خطراً من الأخذ بأحد القولين ؛ لأن غاية ما في أحدهما
أنه اجتهاد مرجوح يثاب عليه صاحبه بأجر واحد ، وأما الاختلاف فكما أنه يزيد من
الشرخ المستشري في جسد العمل الإسلامي ، ومدعاة لسخرية غير المسلمين من المسلمين ؛
فهو مخالف لمقصود الشارع الذي أمر بالتعاون على البر والتقوى ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
البَيِّنَاتُ } (آل عمران : 105 ) .
أنا لا أدعو إلى المثالية في إنهاء الخلاف برمته ؛
فهذا أمر غير واقعي على الإطلاق ، ولو سلم منه أحد لسلم منه أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم ، ولكن الذي نهى عنه علماء السلف والخلف : هو أن يتحول الخلاف إلى صراع
وتصادم وشقاق . قال الإمام الشاطبي نقلاً عن بعض المفسرين : « فكل مسألة حدثت في
الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة
علمنا أنها من مسائل الإسلام ، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز
والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بتفسير الآية ، وهي قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً } ( الأنعام : 159 ) .... فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله
تعالى : {
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } ( آل عمران : 103 ) ، فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدثٍ أحدثوه من اتباع الهوى
. هذا ما قالوه ، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم
والتعاطف ؛ فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين » [8] .
وها هنا مسألة جديرة بالاهتمام : فإذا آمنا بأن مسألة (
إثبات دخول الشهر وخروجه ) مسألة خلافية يسع فيها الاجتهاد ، فهل يصح للإنسان أن
يترك الرأي الراجح الذي يراه ، ويأخذ بالرأي المرجوح ، من أجل توحيد الكلمة وتأليف
القلوب وتجميع الصفوف ودرء النزاع والتدابر ؟ ! أم أن ذلك من التفريط والتمييع
والتساهل والاجتماع على أرض هشة ؟ !
والحق الذي لاريب فيه أنَّ مصلحة الاجتماع
والائتلاف أوْلى ، وترك الرأي الراجح تحقيقاً لهذه المصلحة ممَّا دلَّ عليه الشرع
المطهر ، وإذا تعارضت المصالح ، فتحصيل المصلحة الأعلى مقدم على المصلحة الأدنى ،
كما هو مقرر في علم الأصول ، قال ابن تيمية : « .. ولا يجوز أن تجعل المستحبات
بمنزلة الواجبات يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله
، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها ، بل الواجبات كذلك .
ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض
هذه المستحبات ، فلو تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً ، وذلك أفضل إذا
كان مصلحة ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب ، وقد أخرج البخاري ومسلم في
صحيحيهما : عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : « لولا أن قومك
حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ، ولجعلت لها باباً يدخل الناس
منه وباباً يخرجون منه » [9] .
وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام
قد يترك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها ، ولهذا نص الإمام
أحمد على أنه يُجهَر بالبسملة عند المعارض الراجح ، فقال : يجهر بها إذا كان
بالمدينة .
قال القاضي : « لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون ، فيجهر
بها للتأليف وليعلمهم أنه يقرأ بها ، وأن قراءتها سنة ، كما جهر ابن عباس بقراءة
الفاتحة في صلاة الجنازة » [10] .
إذن فالمسألة تحتاج إلى فقه رشيد يتسع فيه الصدر ،
ويسمو فيه المرء عن أهوائه ؛ فليس الفقيه هو الذي يتعصب لرأيه ، أو يشدّد على
الناس ، وقديماً قال الثوري : « إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما التشديد
فيحسنه كل أحد » [11] .
وكأني بقائل قد يقول : إننا معاشر أهل الحق إذا
تنازلنا عن رأينا في مسألة فقهية اجتهادية من أجل اجتماع الصف ؛ قادنا ذلك إلى
التنازل في مسائل منهجية وعقيدية أخرى فيكثر الخلط ، وتتميع الصفوف .. !
وهذا تحفُّظ مردود ؛ لأنَّ التنازل في مسائل
منهجية وعقيدية انحراف غير سائغ ، وهو مخالف للسبيل الشرعي الذي سلكه سلفنا الصالح
، ولكن الذي ندعو إليه هو التحاور والتطاوع في مسائل اجتهادية يسع فيها الخلاف
تحقيقاً لمصلحة أعظم نفعاً بإذن الله ، ومراعاة لقاعدة تعد من أعظم قواعد الإسلام
وأصوله ، وهي : الاعتصام بحبل الله تعالى ، وترك التفرق والاختلاف المذموم ، وها
هو ذا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يترك رأيه بقصر الصلاة في الحج ويأخذ بفعل
عثمان بن عفان رضي الله عنه لمَّا رأى الإتمام ؛ فلمَّا سئل عن ذلك قال : « الخلاف
شر » [12] ، وفي رواية : « إني أكره الخلاف » [13] . فهذا خلاف في مسألة
متعلقة بركن مقدَّم على الصوم ، وقعت في ذاته لا في زمانه ، ومع ذلك فقد تطاوع
الصحابة رضي الله عنهم ولم يختلفوا ؛ فللّه دَرُّهُمْ ! وما أحوجنا للاهتداء
بهديهم .
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق ، وأعذهم من
نزغات الأهواء .
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/903) .
(2) الفقيه والمتفقه (2/69) .
(3) الآداب الشرعية ، لابن مفلح الحنبلي (1/186)
.
(4) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة
والجماعة ، لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/116) .
(5) الجرح والتعديل ، للقاسمي (ص 37) .
(6) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة
والجماعة ، لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/124) .
(7) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الجهاد
والسير رقم (1733) .
(8) الموافقات (4/186 187) .
(9) أخرجه البخاري ، رقم (26 ، 1583 ، 1584
وغيرها) ، ومسلم (2/968 973) .
(10) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة
والجماعة لابن تيمية ، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/124 125) .
(11) جامع بيان العلم وفضله (10/784) .
(12) أخرجه : أبو داود ، رقم (1960) .
(13) أخرجه : البيهقي (3/144) والحديث أصله في
صحيح البخاري ، رقم (1084 ، 1657) .