• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
دلالات الحدث... أبعاد التغييرات... التأثيرات المستقبلية

قرأت إيران عملية الاغتيال باعتبـارها نقطـة تحول، وليست مجرد عملية اغتيال، وأن المواجهة مع إستراتيجية الضغط القصوى التي يعتمدها ترامب تحولت من السياسي والاقتصادي إلى العسكري، وأن حالة الحرب الباردة التي أتاحت لها القيام بهجمات هنا وهناك قد انعطفت إلى حرب س


فتح اغتيال الطيران الأمريكي لقاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني المصنف إرهابياً، أبواب منطقة الشرق الأوسط على تغييرات هامة وربما كبرى. كان الحدث في ذاته تعبيراً عن تغيير بالغ الأهمية في موقف الولايات المتحدة من إيران؛ إذ استخدمت القوة العسكرية لقتل جنرال إيراني لأول مرة. كما جاء الحدث ليغيِّر معادلات الصراع في العراق، وينقل علاقة المنافسة بين الاحتلالين الأمريكي والإيراني إلى خانة الصراع العسكري. وهو أظهر المدى المستهدف أمريكياًً في مواجهة الإستراتيجية الإيرانية لاحتلال دول المنطقة عبر ميليشياتها، كما بالإمكان القول: إن اغتيال سليماني (بما سبقه، وما تلاه) قد أوصل الطرفين الإيراني والأمريكي - خصوصاً الطرف الأول - إلى قناعة بألا حل إلا بالعودة إلى التفاوض المباشر، بدلاً من التفاوض عبر الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية، وألا بديل سوى الحرب.

لقد جاء اغتيال سليماني على خلفية أهداف أمريكية متعددة الاتجاهات لوضع إيران في موقف الدفاع، وهو حدث لملم شتات نتائج التكتيكات التي جرت عملياً منذ إعلان الرئيس الأمريكي انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، ودفع بها نحو إحداث تغييرات تكاد تكون حاسمة.

وفي ذلك يبدو أمراً مبسطاً للغاية، ذلك التقويم الذي يصنف ما جرى باعتباره مجرد حدث أمني جاء إثر ورود معلومات عن تحضيرات لأعمال عدائية ضد الولايات المتحدة، وتحول من بَعدُ إلى حدث كبير.

لماذا اغتالته أمريكا؟

يبدو السؤال الأهم، هو لماذا اتخذت الإدارة الأمريكية قراراً بتصفية سليماني؟ وأسباب التساؤل عميقه للغاية.

 فالولايات المتحـدة التي كانت تغمـض عينيها عن نشاطات سليماني والتي كانت تتعاون معه فعلياً - وإن دون إعلان رسمي - هي من قررت اغتياله، وربما الطائرة التي كانت توفر له الحماية هي نفسها التي أطلقت الصواريخ على موكبه واغتالته. كان سليماني من يقود الميليشيات الإيرانية في العراق (جنباً إلى جنب مع الخبراء الأمريكيين وتحت حماية الطائرات الأمريكية) خلال الحرب على داعش. وهو كان دائم الخروج والدخول إلى العراق والالتقاء بالمسؤولين بكافة أنواعهم. وهو كان الرجل الأول في تشكيل الحكومات العراقية وإدارة الصراعات بين الكتل الشيعية، تحت بصر القوات الأمريكية.

والولايات المتحـدة لم تُقْدِم من قبل على واقعة قتل عسكري إيراني؛ فنحـن أمام أول واقعة قتل لجنرال إيراني على يد القوات المسلحة الأمريكية، وهي واقعة تبدو خارج السياق على أرض العراق تحديداً؛ إذ التعـاون بين إيران والولايات المتحدة وصل حدَّ التعاون الإستراتيجي (عسكرياً ومعلوماتياً) خلال غزو العراق واحتلاله، وقبلها على أفغانستان، وخلال مواجهة المقاومة العراقية، وقد وصل تنسيق العلاقات والتعاون حدَّ توفير القوات الأمريكية الحماية لزيارة رؤساء إيران للعراق، بما حملت من دلالات حول الرضا الأمريكي عن تنامي قوة النفوذ والدور الإيراني في العراق المحتل أمريكياً.

والولايات المتحـدة التي قتلت سليماني، هي ذاتها (الإدارة نفسها) التي وقفت بلا حَراك أو رد فعل إزاء أعمال عسكرية إيرانية عبر ميليشياتها ضد مواقع القوات الأمريكية في العراق والسفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء؛ إذ جرت 11 واقعة قصف دون ردٍّ أمريكي. وهي ذاتها التي لم تتحرك ضد إيران بعدما قامت بتفخيخ سفنٍ في بحر العرب والهجوم على بعض مواقع شركة أرامكو.

ما الذي تغيَّر؟

وماذا استهدفت عملية الاغتيال؟

وماذا عن المستقبل؟

ما وراء قتل سليماني أمريكياً؟

تبدو القصة التي روجت لها الدوائر الأمريكية عن تخطيط سليماني لأعمال إرهابية، مبسطة للغاية، وفي الأغلب قيل هذا الكلام للترويج الإعلامي وربما لإخفاء الأهداف الحقيقية.

وفي البحث عن أسباب اغتيال سليماني، كما أظهرتها مناورات الطرفين خلال الأزمة، يمكن تصور ما يلي:

أولاً: اتخذت الولايات المتحدة قرار الاغتيال لإحداث تآكل في قوة الردع الإيرانية في الإقليم عبر إدخالها في أزمة عنيفة تُخيِّرها فيها بين الحرب أو الظهور بمظهر الضعيف المحاصرة خياراته في الرد أو المناورة. وذاك هو مغزى التهديد الذي أطلقه الرئيس ترامب في (ذروة) الأزمة، بقصف نحو 52 هدفاً داخل إيران (وعدد 52 هو عدد رهائن السفارة الأمريكية التي اقتُحمَت في طهران)، وإصراره على أنها تشمل أهدافاً ثقافية؛ إذ قصف مثل تلك الأهـداف ذو تأثير نفسي حاسم على نفسية اتباع النظام والجمهور الإيراني عموماً.

ثانياً: قررت الولايات المتحدة مواجهة الميليشيات الإيرانية والدخول في مواجهة معها وتصفيتها أو تقسيمها أو تطويع إرادتها، عبر قتل القائد والمنظم والمخطط لها. ومَن يراجع المواقف الأمريكية من تلك الميليشيات في فترة ما قبل الاغتيال، يجد تصاعداً في المواقف منها، بوضعها على لوائح الإرهاب وإطلاق الدعايات والمعلومات حول قادتها، ومواجهتها عسكرياً كما حدث عدة مرات؛ إذ جرى قصف لمقراتها ومخازنها من قِبَل الطيران الإسرائيلي ومن بَعدُ بالطيران الأمريكي في العراق وفي سوريا. وفي ذلك يبدو قتل سليماني تحولاً هامّاً في موقف الولايات المتحـدة من تلك الميليشيات. لقد رفعت الولايات المتحدة تغطيتها عن الميليشيات عبر وضعها على لوائح الإرهاب وفتحت المجال لإسرائيل لقصفها، وحدث التحول الكبير بقتل سليماني القائد الفعلي لها. أرادت الولايات المتحدة إحداث صدمة وترويع لتلك الميليشيات.

ثالثاً: واستهدفت الولايات المتحدة إحداث تغيير في قيادة ما يتبقى من الميليشيات؛ إذ هي لا تصنف جميع الميليشيات باعتبارها إرهابية أو إيرانية، وهنا جاء مقتل سليماني وأبو مهدي المهندس وهو مؤسس كتاب حزب الله العراق، بينما استقبلت منذ نحو شهر رئيس الحشد فالح الفياض الذي أمضى وقتاً طويلاً هناك، بعدما دخل في خلافات مع أبي مهدي المهندس.

رابعاً: واستهدفت الولايات المتحدة إحداث تغيير لمصلحة الإصلاحيين داخل مؤسسة الحكم في إيران. فسليماني أصبح الرجل الثاني في مؤسسة الحكم، والمقرَّب الأول من خامنئي، وقد سبق أن وصل الصراع بينه وبين شخصية مثل جواد ظريف وزير الخارجية إلى أن استقال ظريف تحت عنوان تدخُّل سليماني في عمله، ومشاركته في لقاء بين المرشد الإيراني وبشار الأسد، دون حضور ظريف.

خامساً: ليس بعيداً القول بأن الرئيـس الأمريكي استهدف بقرار اغتيال سليماني تغيير الأجواء في واشنطن لمصلحته الانتخابية، بعدما سارع الديمقراطيون في جهودهم لمحاكمته. ومن يراجع كلمات وسلوك الرئيس الأمريكي طوال تلك الأزمة يجد الرجل يتحدث وكأنه يوجه كلماته للناخبين، سواء بإظهار نفسه في موقع البطل المخلِّص للبلاد من بلاء أحدثه الديمقراطيون، أو بطلبه وقف المحاكمة بسبب تلك الأزمة.

إيران ومحاولة إعادة ترميم قوة الردع

تبدو ردود الفعل الإيرانية على إدراك لهذا المغزى من التغيرات تحديداً. ولذلك ركزت جهـودها على الأبعاد الإستراتيجية، مثل استعادة قوة الردع التي اهترأت بعد الاغتيال والتأكيد على استمرار دعمها لميليشياتها والتحرك المشترك (المعتاد) بينهما في مواجهة الحدث، كما عملت إيران على تثبيت قدرتها على تهديد الآخرين وعلى كسب أوراق ضغط في الملف النووي، فضلاً عن ترميم أوضاع النظام في الداخل.

قرأت إيران عملية الاغتيال باعتبـارها نقطـة تحول، وليست مجرد عملية اغتيال، وأن المواجهة مع إستراتيجية الضغط القصوى التي يعتمدها ترامب تحولت من السياسي والاقتصادي إلى العسكري، وأن حالة الحرب الباردة التي أتاحت لها القيام بهجمات هنا وهناك قد انعطفت إلى حرب ساخنة، محورها الرئيس إنهاء الوجود والدور والنفوذ والاحتلال الإيراني في الإقليم، وتضييق خيارات إيران في الحركة الفاعلة.

حاولت إيران استثمار الحادث لإعادة حشد مواطنيها خلف النظام السياسي الإيراني الذي كان يعيش قبل الاغتيال حالة ارتباك بسبب المظاهرات الشعبية العنيفة التي شهدتها المدن الإيرانية على موجات خلال الفترة الماضية. لقد جرت متاجرة واضحة بدم سليماني أو اعتمدت ما يسمى بسياسة أو دبلوماسية الجنائز، وهو ما تبدَّى للمتابعين في إطالة مراسم الجنازة والدوران بالجثمان في عدة مدن إيرانية وعلى مدار عدة أيام، وفي شمول مراسم التشييع المطولة جثمان أبي مهدي المهندس إلى جوار جثمان سليماني في داخل إيران.

واستثمرت إيران الحادث لتحصين وضعها التفاوضي على صعيد البرنامج النووي، لتثبت استمرار إستراتيجياتها على ما هي عليه رغم التحول في خطة المواجهة الأمريكية. أعلنت إيران أول ما أعلنت من ردود فعل على اغتيال سليماني عن عدم الالتزام بمخزون اليورانيوم أو بنسبة التخصيب.

وعملت إيران على التحول من خطة الدفاع (السياسي والإعلامي والدبلوماسي والاقتصادي) التي فُرِضَت عليها في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرض حظر على تصدير بترولها، إلى خطة التهديد بالهجوم العسكري، لكن مع حذر شديد من الانزلاق نحو للحرب.

روجت إيران لعمليات استهداف للقوات الأمريكية، وأعلنت عن حملة إستراتيجية لإخراجها من المنطقة. وهي من بَعْدُ أعلنت عن إطلاق الصواريخ من الأرض الإيرانية على قاعدة عين الأسد العراقية حيث توجد القوات الأمريكية، كما أبرزت دعمها لِـمَا صدر من قرار عن أحزابها وميليشياتها في البرلمان العراقي بخروج القوات الأمريكية.

وفي ذلك حاولت إيران التمسك بخطتها في إطالة زمن الأزمة دون الوصول بها إلى تماسٍ مباشر حرباً أو تفاوضاً في انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية.

وبالإجمال، رفعت إيران سقف تهديداتها وعملت على توسيع مجال مناوراتها بطرح قصة طرد القوات الأمريكية، لكنها تصرفت عملياً بحذر بالغ.

ماذا تغيَّر فعلياً؟

خلَّفت الأزمة تغييرات هامة للغاية، بعضها تحقق فوراً وبعضها يحتاج إلى وقت لظهـور آثاره، ولا يقلل من أهمية تلك التغييـرات، إلا حدوث حرب أو وقوع قصف أمريكي على الأراضي الإيرانية؛ إذ وقوع أعمال عسكرية واسعة بين الولايات المتحـدة وإيران يمثـل انقلاباً شاملاً في الأوضاع بل في التوازنات الإقليمية والدولية بحكم أهمية إيران لكل من روسيا والصين.

وما تحقق حتى الآن هو أننا أمام تأكيد لإمكانية الانتقال من الصراع القائم على الحصار الاقتصادي والسياسي الأمريكي ضد إيران ونفوذها وميليشياتها في المنطقة، إلى صراع عسكري أو تبادل الضربات مع اندلاع حرب.

ولقد تحددت ملامح القدرة الإستراتيجية للطرفين  كليهما من خلال تجربة عملية خلال هذه الأزمة.

وأصبح العراق ساحة المواجهة الرئيسية؛ إذ اختارت الولايات المتحدة قصف طائراتها لسليماني وقتله على الأراضي العراقية دون السورية واللبنانية التي شملتها رحلة سليماني، بينما جاء الرد الإيراني العسكري من داخل الأراضي الإيرانية على قاعدة للقوات الأمريكية في أرض العراق أيضاً.

وإذا كان العراق أصبح نقطة الصراع العسكري المتفجر على هذا النحو، فيمكن القول بأن موازنة دقيقة جرت دون تغيير حاسم لمصلحة أيٍّ من الطرفين خلال الأزمة. لقد أصدر النواب الموالون لإيران وميليشياتها قراراً بإنهاء وجود القوات الأمريكية، فانطلق جدل واسع في داخل العراق للتشكيك في إلزاميته؛ إذ القرار ليس قانوناً، والبـرلمانات تصدر قوانينَ لا قرارات، كما أن النواب الأكراد والسنة لم يحضروا الجلسة، وهو ما يجعل القرار خارج قاعدة التوافق المعمول بها. كما أن اللغه التي تحدث بها رئيس الوزراء العراقي (وهو رئيس حكومة تصريف أعمال) عن إنفاذ القرار، جاءت بلغة ترضية لإيران وميليشياتها بالقدر نفسه الذي أبرزت فيه الحرص على بقاء القوات الأمريكية. لقد تحدث عادل عبد المهدي عن خروج القوات الأجنبية، لكنه تحدث أيضاً عن بقاء أعمال التـدريب، بما أن القوات الأمريكية موجودة الآن تحت عنوان التدريب.

وفي ملخص ما جرى في العراق، فقد حصلت إيران على قرار من ميليشياتها أظهر الانشقاق حول دورها هي؛ إذ الآخرون في العراق أشاروا إلى أن الانسحاب الأمريكي هو لمصلحة إيران، بينمـا قدمت القوات الأمريكية ورقة غير موقَّعة على سحب قواتها دون قرار بسحب تلك القـوات. وهنا يبقى العامل الفاعل هو حَراك الميليشيات ودورها الذي تتحدث عنه في مواجهة القوات الأمريكية حال عدم انسحابها.

والأعين معلقة الآن على من سيتولى قيادة الحشد بديلاً لأبي مهدي المهندس.

وما تغير فعلياً، هو أن قواعد إدارة الصراع أو ما يسمى بقواعد اللعبة قد تغيرت، فإذ قصفت الولايات المتحدة لتقتل أهم قيادة عسكرية إيرانية في حركتها في الإقليم، فقد جاء الرد الإيراني حريصاً على عدم إصابة أي جندي أمريكي، وتلك معادلة مختلفة عما كان قائماً قبل العملية.

التداعيات المستقبلية

لا يبدو أن ثمة تداعيات حربية خطرة مقبلة. ولا يمكن القول بأن ما جرى سيدفع إلى حرب مباشرة بين الولايات المتحـدة وإيران؛ إذ جاء ملخص ما جرى تأكيداً على رفض الطرفين الدخول في حرب مباشرة. وإذا كان صحيحاً أن الرد الإيراني لم ينته بعد، وأن وكلاءها وميليشياتها في الإقليم ستقوم في الأغلب بأعمال هنا أو هناك، فمثل هذا الرد سيجري على مدى وقت مطول، وسيكون عبر أعمال كرٍّ وفرٍّ، وبعض منه سينفَّذ دون إعلان المسؤولية. وإذا كان ثمة ما هو خطر في مثل تلك الردود، فهو لا يتعلق حقيقة بالقوات الأمريكية بقدر ما يتعلق بالدول العربية الخليجية، تفادياً لقصف أمريكي.

ويمكن القول بأن التغيير الحادث في قيادة فيلق القدس قد يأتي بتغييرات خططية أيضاً، وفي ذلك قد ينتج غياب قاسم سليماني تغييراً في سياسات إيران في الإقليم.

وإذا تحول العراق إلى ساحة صراع رئيسية بين الولايات المتحـدة وإيران؛ فالمتوقع أن تجري بعض من العمليات (الباهتة) في العراق من قبل الميليشيات الإيرانية في العراق. وتلك الميليشيات في وضع انكسار وفي حالة دفاع عن نفسها الآن على نحو لم تشهده منذ تأسيسها؛ فمن جانب هي - بلا شك - في وضع الخطر بعد مقتل نائب رئيس الحشد، وكل من سيُعيَّن مكـانه قد يصبح مستهدَفاً، وهي في وضع حرج جراء مواقف نشطاء انتفاضة تشرين منها (وهم من المناطق التي مثلت حاضنتها السكانية)؛ إذ تطبيق شعار (إيران برة برة) الذي رفعه هؤلاء المنتفضون يستهدف تلك الميليشيات وأحزابها، والأمر نفسه هو المفهوم من رفض هؤلاء المنتفضين تولي أيٍّ من أفراد أو قادة الميليشيات وأحزابها الحكم في العراق.

وإذا فتح ملف الوجود الأمريكي في العراق (على أرضية خروج القوات الأجنبية) فقد فتح ملف الوجود الإيراني على نحو أعمق. لقد رفض المشاركون في العملية السياسية من الأكراد والسنة مغادرة القوات الأمريكية حتى لا تنفرد إيران بالعراق. وهو ما ردت عليه إيران من خلال اختيار موقعين في العراق للقصف الإيراني أحدهما قاعدة عين الأسد في الأنبار السنية، والقاعدة الأخرى في أربيل بكردستان العراق. وذاك مؤشر على القادم في مواجهة النفوذ الإيراني.

والأغلب أن العراق سيشهد تصاعداً خطراً في مأزق الحكم أو في العملية السياسية جراء الصراع المتفاقم بين طرفي الاحتلال (أمريكا وإيران)؛ ولكلٍّ منهما من يرتبط به داخل أروقة الحكم جميعها.

وبما أن لإيران وجـوداً في سوريا كما للولايات المتحدة، وباعتبار أن سوريا ولبنان على حدود دولة الكيان الصهيوني، فستشهد الأوضاع في هذا المحور تزايداً في الفاعلين في هذا الصراع سواء على الحدود العراقية السورية أو الحدود السورية الإسرائيلية. ومن يراجع ما حدث قبل اغتيال سليماني فسيجد أن القصف الأمريكي لكتائب حزب الله العراقي، لم يجرِ فقط على الأرض العراقية بل جرى كذلك على الأرض السورية، كما أن سليماني لم يكن صاحب دور في دعم وتشكيل وقيادة الميليشيات العراقية فقط، بل كان هو من يقود دور كل الميليشيات الموالية لإيران على الأرضَين السورية واللبنانية أيضاً.

والأهم على صعيد المواقف الكلية، أن الأحداث ستدفع الطرفين نحو التفاوض؛ خاصة إن عاد ترامب للبيت الأبيض في دورة جديدة. لقد أثبتت الأحداث أنه لا نية لا لإدارة ترامب ولا لإيران للذهاب إلى الحرب، وبدا أن ما جرى كان تفاوضاً تحت رسائل حربية. والآن لم يعد هناك سبيل إلا الذهاب إلى المفاوضات. وفي ذلك قد نشهد وضعاً شبيهاً بما حدث في عام 1988م من القرن الماضي؛ إذ فتح إسقاط القوات الأمريكية لطائرة مدنية بالخطأ (راح ضحيتها 290 راكباً) الطريق لقبول الخميني وقف إطلاق النار خلال الحرب العراقية الإيرانية، وقال مقولته الأشهر وقتها: «أتجرع السم»، وربما ليست مصادفة بحتة الآن سقوط طائرة مدنية أوكرانية. لكن ذلك يتطلب وصول الإيرانيين إلى قناعة بأن قتل سليماني هو عنوان تغيير في الإستراتيجية الأمريكية.

إيران أعدت نفسها لإعادة التفاوض تحت الضغط، والولايات المتحدة تضغط لأجل التفاوض.

إلا أن احتمال وقوع الحرب أو تبادل الضربات العسكرية ما يزال قائماً، بل إن الأوضاع الآن باتت على المحك: إما التفاوض حول البرنامجين النووي والصاروخي وحول النفوذ الإيراني في الإقليم، وإما الذهاب للحرب.

 


أعلى