التوحيد: القيمة الحضارية للوجود الإنساني
تعتبر قيمة التوحيد من أجلِّ القيم وأعظمها التي منَّ الله تعالى بها على عباده، ليُنقذهم من هوى أنفسهم ومن ضلالات الشرك والوثنية، لأنه - تعالى - خالقهم ومنشئهم {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: ٧]. وقيمة الإنسان في الوجود متربطة بمدى وضوح معنى التوحيد على الحقيقة، فيعيشها في القول والعمل والسلوك.
تتمظهر أزمة الإنسان اليوم في عدم وضوح دلالات التوحيد على المستوى الروحي والمادي، وإذا ما تجلَّت معانيها في نفسه فلا يحزن على شيء فاته من أمر الدنيا، أو يشعر بالحيرة بما ستؤول به الأيام، لأنه يعلم أنه «من يكن مع الله يكن معه»، ويعلم أيضاً أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
إننا نحتاج إلى أن نحيا بقيمة التوحيد واقعاً، لترسيخ قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦]، ولا نعيش انفصاماً وانفصالاً بين العبادات والمعاملات؛ فقد أمرنا سبحانه بأن يجري في قلوبنا اليقين الذي لا يخالطه الشك في كونه المتفرد بالعبادة، وأنه - تعالى - الربُّ المربوب، والإله المعبود على الحقيقة لا على الصورة، وأن كل ما عداه من المخلوقات هالك إلا وجهـه، وأنهـم لا يتفاضلون في ما بينهم إلا بخُلُق التقوى. و «من هنا يجد الإنسان نفسه مساوياً في وضعيته أمام هذا الخالق الذي ينظر إلى مخلوقاته كلِها نظرة تساوٍ وتوازن لا محل فيها للطبقية ولا للمادة ولا للَّون ولا للجنس؛ إذ الخلائق كلها أمام الله واحدة، هذه النظرة تجعل الإنسان متحرراً في تفكيره واتجاهه»[1].
لقد اهتم القرآن الكريم بتصحيح الفكر انطلاقاً من الوحي والكون، ليحرر الإنسان من سلطة الفكر الخرافي اللاهوتي، ومن شرك التصورات البشرية، ليضمن له كرامته وتقويمه. «فعقيدة التوحيد في حقيقتها خلاص للإنسان من ألوهيات البشر، ومساواة بين بني البشر، وإلغاء للتمييز بكل أنواعه، واسترداد لإنسانية الإنسان وكرامته، وفكٌّ لقيود الإرهاب التي كانت تمارَس بِاسْم الدين، أو من قبل الكهنة والمتحدثين بِاسْم الله، فالجميع في قيم القرآن الكريم يتصلون ويتواصلون مباشرة مع الله، دون وساطة»[2].
إن وضوح قيمة التوحيد تصنع كيان الإنسان وجوهره، فتربطه بالله مراقبة ومشاهدة، فيعيشها وجوداً، فيُحبُّ من أجلها ويبغض، ويناصر ويعادي من أجلها، غايته أن يعيش مؤمناً حقّاً، وأن يعبد الله تعالى عبادة صحيحة لا عبثية ولا موسمية، إننا نريد توحيداً معرفيّاً وليس ثقافياً، نريده توحيداً سلوكيّاً وعمليّاً وليس توحيداً قولياً، لنرقى به إلى مستوى الإنسان المستخلف في الأرض بالمنهج القرآني الذي يستوعب حياة الإنسان دقِّها وجلِّها.
إن ترسيخَ قيمةِ التوحيد في النفس على الحقيقة يولِّد طاقة باطنية لا مثيل لها، يشعر من خلالها العبد المؤمن بالاستقرار والتحرر من الذاتية وهوى النفس وعبوديتها، ومن الخضوع المهيمن للآخرين «الإنسان للإنسان» كما هو الحال في الفلسفة المادية التي (شيَّأت) الإنسان، وجعلته يفقد استقراره الروحي والمادي. ولو استقام أمر الإنسان على عقيدة التوحيد لاستقام له أمر الدين والدنيا، وكلما اتضحت معالم عقيدة التوحيد واستقرت مفاهيمها في القلب تحرر الإنسان من أَسْر هواه ومن الطبيعة، ويُصبح عبداً محكوماً بقيم القرآن العادلة، لا فضل لواحد على الآخر إلا بما زاد عليه من فضائل الأخلاق والقيـم الخالدة. و «يكفي أن يتحدث رب العالمين عن نفسه، فيمحو الباطل في سياق العظمة والجلال، هو لهما أهل، وبهما جدير؛ يقول تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56][3].
إن عقيدة التوحيد على الحقيقة توازن بين باطن الإنسان وظاهره، وتعصمه من الزيغ والانحراف، ومن البدع والضلالات، فيقوم بالمسؤولية المنوطة في كونه «خليفة في الأرض»، ومنها تنطلق كل الطاقات النفسية، فيدفع هموم الحياة وأحزانها، وينطلق فاعلاً متفاعلاً مع ما يجده من متاعب الدنيا، ويُغالب قدراً بقدر، فتتولد عنده روحُ الإقدام في تحقيق خطاب ربِّه {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 162].
تستدعي عقيدة التوحيد التسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع ولرسوله بالطاعة والتحكيم والاتباع، فيقوم كل فرد داخل المجتمع بما يلزمه من الواجبات ويسهم بشكل فعال في نهضة الأمة وحضارتها، ولا يقف متفرجاً على ما تعيشه الأمة من تقهقر على كل المستويات الحياتية، دون أن ينظر إلى الأسباب التي ساهمت بشكل كبير بالسقوط الحضاري؛ سقوط في الانهزامية.
لقد ابتلي الرسل والأنبياء والصحابة والدعاة والمصلحون، وصبروا على الدين، فكتب الله لهم النصر والتمكين في الأرض، يقول الله تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 15] ، ولقد تكفل الله تعالى بنصر عباده المؤمنين، كلما حققوا شروط النصر. ولقد أهلك الله تعالى أمماً وحضارات لَـمَّا خالفوا سنن الله الشرعية وسننه الكونية، يقول الله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلَّا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
ولقد أدى هوى النفس وحب الدنيا وزخرفها بالكثير من الناس إلى خلل في العقيدة فانحرف عن المنهج القرآني وهدايته، وسقط بعض علماء الدين في فتنة الجاه والمناصب، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و«تحول الإسلام في حس الناس إلى ممارسة فردية بعد ضمور الممارسة الجماعية لهذا الدين، والتركيز التدريجي على الشعائر التعبدية على أنها هي الدين»[4].
إننا نعيش أزمة حقيقية بكل المقاييس على مستوى عقيدة التوحيد؛ إذ أصاب قلوبَنا الوهن، واستبدلنا بقيم الدين قيمَ الحضارة الغربية التي تداعت علينا وجندت جنودها من الداخل والخارج لطمس هويتنا الإسلامية، وأصحبت لا إله إلا الله، والله أكبر، فارغة من مضمونها، نقولها ولا نقِي بها العلل الباطنة في نفوسنا، نقولها تعليقاً وليس تحقيقاً، إننا نقيم ديناً مغشوشاً ومغلوطاً، ديناً لا علاقة له بمقاصد الدين وغاياته، فنحتاج إلى تصحيح مفهوم الدين بفعل الأوامر واجتناب النواهي؛ فالدين قيام بالأركـان، وتصديق بقواعد الإيمان، ومراتب الإحسان.
إن الارتقاء الحقيقي في الدين والدنيا لا يحصل إلا بتحقيق العبودية لله تعالى، فالدين له عُمْلَة واحدة ووجه واحد، يظهر أثره في السلوك وفي القول والفعل، في البيع والشراء، في الغضب والرضا، يظهر في الرخاء والشدة، يظهر في المنشط والمكره، يظهر أثره في حياة الناس كلها.
إن القرآن الكريم والسنة النبوية كفيلان بترسيخ عقيدة التوحيد في النفوس، والجهل بهما يؤدي إلى فساد العقيدة، فتفسد القيم الإنسانية وتنتشر محلها الأخلاق الفاسدة، ويُستبدَل بالأمن الفوضى وبالعدل الظلم، وليس ثمة معاييرُ تنظم حياة الناس، فيسود نظام حق القوة مكان قوة الحق.
إن عقيدة التوحيد منهجُ حياة وغايةُ الوجود، وطريقُ الفلاح، إنها «كلمة أعادت في لحظةٍ من عمر الزمان رسمَ الخريطة البشرية على هذا الكوكب؛ فلم تعرف الدنيا على طول امتدادها وكثرةِ ما غشاها من نوازل تحولاً مفاجئاً؛ يُزيل حضارات ويديل ممالك، ويقيم على أنقاضها بناءً حضارياً إنسانياً غايةً في العظمة والشموخ كهذا التحول العبقريِّ الفريد؛ الذي وقع بكلمة «لا إله إلا الله»[5]. هذه الكلمة تلازم الإنسان في كل وقت وحين، فتصبح كل أعماله عبادة وطاعة لله تعالى، «فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب، ولازمه، ودليله، ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير في ما في القلب؛ فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه»[6]، لأنه يوجد تلازم بين القلب والجوارح كما يوجد تلازم بين الإيمان والعمل الصالح، فلا ينفع إيمان بلا عمل، كما لا ينفع عمل بلا إيمان، وكذلك لا يكفي قول بلا فعل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢ - ٣].
إن عقيدة التوحيد كل لا يتجزأ، ليس لها أعلى وأدنى، كقضية الإيمان ومراتبه، فهي على درجة واحدة، وبيَّن القرآن الكريم معالمها، وأنها منهج حياة الوجود الإنساني وواقع مختبري صالحة لكل زمان ومكان، و «القرآن الكريم رسالة كليَّة المضامين، لمن فقه مقاصده التشريعية والكونية، أسَّسَ توجيهاته على مصالح الإنسان في ظل عقيدة التوحيد في تطبيقاتها في الواقع، والأخذ بفقه الأولويات. إن القرآن الكريم مشروع حضاري يبني الفرد الصالح والمصلح، ويكون مجتمعاً متماسكاً، لإقامة الدولة والأمة على مبدأ العدل والمساواة، كما أنه مشروع يحفظ للإنسان أمنه وحقوقه، مهما كان تصوره ومنهجه في الحياة.
فالقرآن الكريم رسالة حضارية متميزة، إنها رسالة جامعة تبدأ بتزكية الفرد، مروراً بإسعاد الأسرة، وإصلاح المجتمع، وبناء الأمة وإقامة الدولة، وانتهاء بسلام العالم وخيره، حتى يتحقق قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]»[7].
يسلك القرآن الكريم منهجاً قويماً في تثبيت عقدية التوحيد، فيجد «الإنسان نفسه مساوياً في وضعيته أمام هذا الخالق الذي ينظر إلى مخلوقاته كلها نظرة تساوٍ وتوازن لا محل فيها للطبقية ولا للمـادة ولا للَّون ولا للجنـس؛ إذ الخلائقُ كلُّهـا أمام الله واحـدة، هذه النظرة تجعل الإنسان متحرراً في تفكيره واتجاهه»[8]. إن عقدية التوحيد تكتسي صبغةَ تنـزيل القواعد الشرعية في واقع الإنسان وقدرتها على التصحيح، فتهدف إلى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وهدايتهم إلى صراطه المستقيم، وتبطل الطاغوت وكلَّ معبود باطل وكل داعٍ إلى ضلالته. فتصل الروحَ بخالقها وتُغذِّيها بالقيم الفاضلة، أما عبادة الآلهة فتجعل الإنسان يعيش النكد والشقاء وفساداً في المنهج وانحراف في التصور، ومن «هنا تأتي أصالتُها وعمقها وامتدادها وبقاؤها: فهي أصالة ترجع إلى طبيعة الإنسان الأولى، وعمقٌ يرجع إلى أقدم حضاراته، وامتدادٌ يسير إلى مراحل تاريخه، وبقاءٌ ما بقي في الوجود.
[1] منهج الإسلام في إصلاح المجتمع، عبد القادر رفهي العلوي، ص: 47، تقديم محمد سعيد عبد ربه، الطبعة الأولى، 1979م.
[2] حقيقة الخلق ونظرية التطور، ص:73.
[3] المحاور الخمسة للقرآن الكريم للشيخ محمد الغزالي، ص 23.
[4] قطب، محمد «واقعنا المعاصر»، مؤسسة المدينة للصحافة، جدة، ط، الثانية 1988م، ص: 162 (بتصرف).
[5] التوحيد قيمة حضارية، للدكتور عطية عدلان، Facebook Twitter LinkedIn، 2 مارس 2018م.
[6] كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية، ص: 45.
[7] حاجة البشرية إلى الرسالة الحضارية لأمتنا، ص: 70.
[8] منهج الإسلام في إصلاح المجتمع، عبد القادر رفهي العلوي، ص: 47، تقديم محمد سعيد عبد ربه، الطبعة الأولى، 1979م.