{وجاء من أقصا المدينة.. } المعنى والدلالة
لا شك في أن القرآن الكريم كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء. وقد كان معجزة النبي صلى الله عليه وسلم ، تحدى به العرب - مع أنهم كانوا أهل بيان وفصاحة وبلاغة - أن يأتوا بمثله أو بعضه؛ فلم يستطيعوا.
ومعلوم أن التقديم والتأخير سمة بارزة في كلام العرب، وهو بابٌ - كما يقول الإمام عبد القاهر الجُرْجَانِيُّ (المتوفى: 471هـ) - كثيرُ الفوائد، جَمُّ المحاسن، واسعُ التصرُّف، بعيدُ الغاية، ما يَزالُ يَفْتَرُّ[1] لك عن بديعةٍ، ويُفْضي بكَ إِلى لَطيفة، وما تَزال تَرى شِعراً يروقُك مسْمَعُه، ويَلْطُف لديك موقعُه، ثم تنظرُ فتجدُ سببَ أَنْ راقكَ ولطُفَ عندك، أن قُدِّم فيه شيءٌ، وحُوِّل اللفظُ عن مكانٍ إلى مكان[2].
ويُعَدُّ أسلوب التقديم والتأخير مظهراً من مظاهر إعجاز القرآن الكريم؛ فقد بلغ الذروة في هذا الفن؛ إذ إنه يتميز بالدقة في اختيار الكلمة وموضعها، فإذا قَدَّم كلمة على أخرى فلِفَـائدة لغوية وبلاغية وتربوية تليق بالسياق.
وفي السطور التالية قطرة نغرفها من بحر لا ينتهي عطاؤه ولا يبلغ مداه. تتعلق بجزء من آية كريمة ذكرها الله سبحانه في سورة (يس)، وهي سورة مكية، تهدف إلى إثبات الرسالة والبعث ودلائلهما، وتُبَيِّن أن العناد مانع من الهداية إلى الحق.
ذكر الله فيها قصة أهل القرية حين أرسل إليهم رُسُلاً ليدعوهم إلى توحيده وعبادته، فكذَّب أهل القرية الرسل وأرادوا أن يبطشوا بهم، وبلغ ذلك رجلاً مؤمناً موحِّداً كان يسكن أطراف المدينة، فجاء يسرع في مشيته حرصاً على نصيحة قومه وحمايةً للرسل، فأمر قومه ونهاهم وصارحهم بإيمانه وتوحيده، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فأدخله الله الجنة... والموضع الذي نحن بصدده هو قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْـمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْـمُرْسَلِينَ} [يس: 20].
وهذه الآية متشابهة مع آية أخرى في سورة القصص، وهي قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْـمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إنَّ الْـمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20].
وبالتأمل في الآيتين نجد أن (أقصى المدينة) في آية سورة القصص جاءت على الأصل في تقديم الفاعل على الجار والمجرور، وهذا هو الوضع الطبيعي من حيث الصناعة النحوية، أما في آية سورة (يس) فجاءت متقدمة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما وجه هذا التقديم؟ وما دلالاته؟
هذا ما سأحاول الإجابة عنه في النقاط التالية، سائلاً الله أن يغفر لي خطَئي وعَمْدي، وهَزْلي وجِدِّي، وكلُّ ذلك عندي:
الدلالة الأولى: أن الإيمان قد يَسْبق إليه الضعفاء بخلاف أهل السيادة والترف:
أشار إلى ذلك الطاهر بن عاشور (المتوفى: 1393هـ) في قوله: وفائدة ذِكْر أنه جاء من أقصى المدينة: الإشارة إلى أن الإيمـان بالله ظهر في أهل رَبَض المدينة[3] قبل ظهوره في قلب المدينة؛ لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وأحبار اليهود، وهم أبعد عن الإنصاف والنظر في صحة ما يدعوهم إليه الرسل، وعامة سكانها تبع لعظمائها لتعلقهم بهم وخشيتهم بأسهم، بخلاف سكان أطراف المدينة؛ فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراثٍ بالآخرين؛ لأن سكان الأطراف غالبهم عَمَلَة أنفسهم لقربهم من البدو.
وبهذا يظهر وجه تقديم {أَقْصَا الْـمَدِينَةِ} على {رَجُلٌ}للاهتمام بالثناء على أهل أقصى المدينة.
وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط، وأن الإيمان يسبق إليه الضعفاء؛ لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترف وعظمة؛ إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة، قال أبو تمام:
كَانَتْ هِيَ الوَسَطَ المَحْمِيَّ فاتصلت
بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
وأما آية القصص: فجاء النظم على الترتيب الأصلي؛ إذ لا داعي إلى التقديم؛ إذ كان ذلك الرجل ناصحاً، ولم يكن داعياً للإيمان[4].
الدلالة الثانية: دفع تهمة التواطؤ:
حيث آمن بالرسل رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنهم تواطؤوا معه على ما أراد[5].
قال بدر الدين ابن جماعة (المتوفى: 733هـ): جاء الرجل ناصحاً لهم في مخالفة دينهم، فمجيئه من البعد أنسب لدفع التهمة والتواطؤ عنه، فقدم ذكر البعد لذلك.
أما في آية القصص: فلم يكن نصحه لترك أمر يشق تركه كالدين، بل لمجرد نصيحة، فجاء على الأصل في تقديم الفاعل على المفعول[6].
وقال في موضع آخر: إن {رَجُلٌ} هنا: قصد نصح موسى عليه السلام وحده لِـمَا وجده، والرجل في (يس): قصد من أقصى القرية نصح الرسل ونصح قومه، فكان أشد وأسرع داعية، فلذلك قدم من {أَقْصَا الْـمَدِينَةِ} لأنه ظاهر صريح في قصده ذلك[7].
الدلالة الثالثة: الثناء على الرسل بأن دعوتهم بلغت أقصى المدينة:
بَيَّنَ الرسل أنَّ مهمتهم هي البلاغ المبين، فقالوا: {وَمَا عَلَيْنَا إلَّا الْبَلاغُ الْـمُبِين} [يس: 17] أي البلاغ الواضح الذي يَعمُّ الجميع؛ فمجيء الرجل من أقصى المدينة يفيد بأن الرسل قاموا بهذا الواجب على أكمل وجه، وبلَّغوا الدعوة ونشروها حتى بلغت الجميع، ووصلت إلى أقصى نقطة في المدينة على الرغم من اتساعها.
الدلالة الرابعة: الثناء على الرجل وأنه ممن يُقتدى بهم في المبادرة إلى النصح:
ينقل الحافظ ابن رجب الحنبلي (المتوفى: 795هـ) عن بعض مشايخه قوله: إن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ في المدح من تقديم ذكره على وصفه، فإن الناس يقولون: الرئيس الأجَلُّ فلان، فَنَظَرتُ فإذا الذي زِيدَ في مدحه وهو صاحب (يس) أَمَرَ بالمعروف وأعان الرسل وصَبَر على القتل، والآخر إنما حذَّرَ موسى من القتل، فَسَلِمَ موسى بقبوله مشورته.
فالأول هو الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والثاني هو ناصح الآمر بالمعروف. فاستحق الأول الزيادة.
ثم تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبُعد الطريق[8].
ووصْفُ الرجل بالسعي يفيد أنه جاء مسرعاً من مكان بعيد لـمَّا بلغه أن أهل البلد عزموا على قتل الرسل أو تعذيبهم، فأراد أن ينصحهم خشية عليهم وعلى الرسل، وهذا ثناء على هذا الرجل يفيد أنه ممن يُقتدى به في الإسراع إلى تغيير المنكر[9].
ويدل أيضاً على أنه كان يأخذ أمر الدعوة إلى الله بجِدٍّ واجتهاد؛ فالله عز وجل يخلق رجالاً يعشقون الحقيقة، ويضحُّون من أجلها ويعانون في سبيلها، وقد صدق القائل:
إن الذي خلَق الحقيقةَ عَلقماً
لم يُخلِ مِن أهلِ الحقيقةِ جِيلا
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي (المتوفى: 597هـ) أن الرجال في هذا المقام (أي في محبة الله وذكره) على أربعة أقسام:
القسم الأول: رجل قد استولى على قلبه عظمة الله ومحبته، فاشتغل بذكره عن ذكر من سواه، ولم تلهه الأكوان عن الاستئناس بذكره، فهذا هو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37].
والثاني: رجل عاهد الله تعالى بصدق الإجابة، وتحقق العبودية، وإخلاص الـــورع، والقيام بالوفاء، فهو الذي وصفـــه الله تعالـــى بقولــه: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].
والثالث: رجل يتكلم لله وفي الله وبالله ومن أجل الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر... وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْـمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20].
والرابع: رجل يتكلم سِرُّه عن نفسه وعن المَلَكين الموكلين، ولا يطلع على سِرِّه إلا مولاه، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، فهذا هو في ظاهره كالخَلِيِّ، وفي باطنه كالشَجِيِّ[10].
الدلالة الخامسة: مناسبة السياق:
ولأن السياق مهم في بيان معاني الآيات، فقد اعتمد عليه الإمام بدر الدين الزركشي (المتوفى: 794هـ) في توجيه التقديم والتأخير هنا، حيث قال: قدم المجرور على المرفوع، لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل، وإصرارهم على تكذيبهم، فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة، تلك القرية، ويبقى مخيلاً في فكره: أكانت كلها كذلك، أم كان فيها من على خلاف ذلك، بخلاف ما في سورة القصص[11].
الدلالة السادسة: أن الله يهدي البعيد في المكان والنَّسَب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إن شاء.
أشار إلى هذه الدلالة الإمام البِقَاعِيُّ (المتوفى: 885هـ) فقال: ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله، فلا هادي لمن أضل ولا مُضِلَّ لمن هدى، فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إن شاء، وكان بُعد الدار ملزوماً في الغالب لبُعد النسب، قدم مكان المجيء على فاعله بياناً لأن الدعاء (الدعوة) نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى، فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا} أي أبعد؛ بخلاف ما مَرَّ في سورة القصص؛ ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية كما تقدم. وقال: {الْـمَدِينَةِ}؛ لأنها أدل على الكبر المستلزم لبُعد الأطراف[12].
كما ذكر هذا الوجه ابن الزبير الغرناطي (المتوفى: 708هـ)، وأضاف:
وحاصل الإخبار من هذه الآيات مثال لحال كفار قريش من أهل مكة، وحال الأنصار من أهل المدينة، حين جاء هؤلاء وآمنوا به صلى الله عليه وسلم مع بُعد دارهم، وعاند عُتاة قريش فكفروا مع الالتحام في النسب واتحاد الدار.
ويوضح هذا أن السورة مكية، وإنما افتتحت بذكر قريش... فمجيئه من أقصى المدينة مثال لمن بَعُد فلم يضره بُعْده.
وذِكْره المجادلين للرسل من أصحاب القرية مثال لمن قَرُب وطالت مباشرته وشاهد الآيات فلم ينفعه قُرْبه، فلما قَصَد في آية (يس) بيان ذلك قَـدَّم المجـرور على الفاعل، فهو من قبيل ما قُدِّم للاعتبار والاهتمام.
أما آية القصص فلم يقصد فيها شيء من هذا، فجاءت على ما يجب من تقديم الفاعل، ووضح أن كلاً من الموضوعين لا يناسبه ولا يلائمه غير الوارد فيه، والله أعلم بما أراد[13].
هذا ما تيسر لي جمعه وهو غيض من فيض، ومن تأمَّل ربما وقف على أكثر، فالقرآن لا تنقضي عجائبه.
[1] أي: يكشف ويُظهر، يقال: افْتَرَّ البرقُ: تلأَلأْ، وافترَّ الشَّخصُ: ابتسم وبَدَت أسنانه. معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1688).
[2] دلائل الإعجاز (1/ 106).
[3] الرَّبَضُ: الناحية من الشيء، ما حول المدينة.
[4] التحرير والتنوير (22/ 366).
[5] تفسير الرازي المسمى (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير) (26/ 263).
[6] كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 304).
[7] كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 284).
[8] ذيل طبقات الحنابلة (2/ 149).
[9] التحرير والتنوير (22/ 366).
[10] بحر الدموع (ص:62)، والخَليُّ: الخالي من الهَمِّ، وهو خلاف الشَّجِيِّ. ومن الأمثال العربية المشهورة: «ويل للشجِيِّ من الخَلِيِّ». يقال لمن يعيش بين قومٍ لا همَّ لهم إلا معاشُهم وقوتُهم، ولا يتطلَّعون لمعالي الأمور، فهو يدعوهم إليها؛ لكنه يخاطب أمواتاً؛ فلا يُسمَع نداؤه.
[11] البرهان في علوم القرآن (3/ 284).
[12] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (16/ 109).
[13] بتصرف من: ملاك التأويل (2/ 383).