تربية الإرادة
«في زمنكم عارضٌ من انحلال الأخلاق؛ بعضُ أسبابه في الواجدين الاسترسال في الشهوات، وبعض أسبابه في المعدمين التشوُّف إليها، وأكبر أسبابه في الجميع الاستعمار وأساليبه في علاج المرض بالموت، وغسل النجيع بالرجيع؛ فعالجوا هذا الداء قبل حلوله في نفوس الصغار بتقوية العزائم والإرادات فيهم، وبتعويدهم الصوم عن الشهوات، وبتحبيب العمل إليهم»[1].
بهذه الفقرة يشخِّص العلامة محمد البشير الإبراهيمي - رحمه الله تعالى - الداء، ويصف للمربين الدواء. وقد كانت هذه الوصية قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، لكننا اليوم وفي ظل الانفجار الرقمي وهيمنة أدوات التواصل وقنوات البث أحوج ما نكون إلى هذه الوصية الإبراهيمية.
التحدي الكبير
يتحدث المشرفون على المحاضن التربوية عن معضلة حقيقية، وإنْ كان التعامل معها يتخذ منحى السرية في الحلول، والستر على المتلبسين بها، تكمن في عكوف شريحة من الطلاب على مطالعة قنوات «اليوتيوب» ومتابعة وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تمثل المقاطع الإباحية والمقاطع الداعية إلى الرذيلة والفحش والخنا جزءاً من مرئيات هذا النشء.
وإذا كانت المحاضن التربوية سابقاً قد نجحت بتوفيق الله تعالى في حماية طلابها من خطر القنوات الفضائية، فإنها اليوم تبدي شيئاً من العجز أمام تلك الوسائط الجديدة، بما تمتلكه هذه الوسائط من قدرات إعلامية مؤثرة ومهارات تواصلية جذابة، وقد تمكنت، ولا شك، من كسر حاجز الرقابة الخارجية.
الحديث اليوم عن خطر هذه الوسائط ليس قليلاً، وتستخدم فيه عدد من تقنيات الإقناع، لكن النتيجة تبدو أقل بكثير مما تطمح إليه المحاضن التربوية.
بعض المربين يفضِّل أنْ يغمض عينيه إزاء هذه المعضلة، لا لتكاسله، فهو مجتهد مثابر في أداء رسالته التربوية، وإنما يفضل ذلك لعجزه عن إيجاد الحلول اللازمة لهذه المعضلة، وربما لعجزه أيضاً عن استيعابها وإدراك أبعادها، وربما لسبب ثالث: ورعه وخوفه من الولوغ في مستنقعٍ طالما كان متجنباً عنه.
فكيف إذا ضممتَ إلى هذه المعضلة قريناتها من الوسائط والمناشط المختلفة التي تطبِّع الرذيلة وتدعو إلى الانحلال!
إنَّ الله تعالى لم يكْتفِ بنهي المسلمين عن الفاحشة، بل نهاهم عن الاقتراب منها، لأن والج الباب لا بدَّ أنْ يدخل؛ إذا لم يعصمه الله، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: ١٥١]، قال الشنقيطي رحمه الله: «فيه سرٌّ عظيم وتعليم كبير؛ لأنه لم يقل: ولا تفعلوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، لم ينهَ عن فعلها فحسب، بل نهى عن قربانها؛ لأنَّ من قرب من الشيء قد يقع فيه، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فبيَّن في هذه الآية أنَّ الإنسان منهي عن أن يقرب الفواحش؛ لأنَّ القرب منها مظنة للوقوع فيها، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه»[2]. وجيل المحاضن اليوم معرَّض لكثير من دواعي الفاحشة والرذيلة، فكيف نجنبه الاقتراب منها ليكون ممتثلاً لأمر الله تعالى، وليكون في عصمة من الوقوع في الفواحش؟
إنَّ محاضن التربية اليوم تعالج هذا التحدي الكبير، وعليها بذل وسعها في معالجته، وسيجعل الله تعالى لها من أمرها يسراً.
قلب صامد لا يتزعزع
في ظل هذه المعطيات يتحتم على المربين أنْ يولوا صناعة القلوب القوية والعزائم المتقدة عنايتهم واهتمامهم، إذ يمثِّل القلب مركز التحكم في السلوك والإجراءات.
والعلامة الإبراهيمي رحمه الله يرى لحلِّ هذه المشكلة ثلاثة خطوط: تقوية العزائم والإرادات، والتعويد على الإمساك عن تعاطي الشهوات، وتحبيب العمل إلى النفوس، وهي مسائل قلبية في الأصل، ومن طبيعتها أنْ تطبع أثراً سلوكياً نافعاً. فهو يرى أنَّ مدار التربية في هذه الحال على صناعة قلبٍ قادرٍ على تجاوز عقبات العاطفة، متمكنٍ من لجمِ خطام الشهوة، مدركٍ لعظيم الأجر المترتب على الصبر عن هذه المفاتن الواقعة عند أقدامه.
ولعله في هذه اللفتة يستدعي قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[3].
وأول ما لفت إليه العلامة الإبراهيمي رحمه الله تعالى هو تقوية العزائم والإرادات، وحقيقة العزم هي استجماع قوى الإرادة على الفعل[4]، أيْ وصول إرادة الفعل إلى منتهاها، فلا تنقضي هذه الإرادة دون أنْ يتحقق الفعل ويقع.
والإرادة على هذا الوجه من القوة والإصرار لا تكون من الإنسان إلا إذا تربى قلبه عليها، وتعوَّد على ملابستها، حتى يصبح قلبه متصفاً بقوة الإرادة وبقوة العزيمة، ويظهر هذا من سلوك هذا الإنسان، إذ يتصف بالإقدام والعفة والاستقامة والثبات والمروءة ونحوها، كما يظهر أيضاً من مواقفه، كرباطة الجأش والصبر والتجلد وسداد الرأي ونحوها. وهي صفاتٌ - كما ترى - غاية في النُبل والخلق الرفيع، وقد حكى القرآن الكريم قصة شاب بلغت العزيمة والإرادة في قلبه الغايةَ في قوَّتها، فكان في مختلف المواقف الشديدة رابط الجأش ثابت الحال متزن المزاج، إنه يوسف عليه السلام، وقد علمنا من أخباره الدالة على ذلك، والتي كان من أشدها أنْ تراوده امرأة ذات منصب وسلطة وجمال وغنج، في وقتٍ كان هو فيه أحوج ما يكون إلى امرأة تكون بقربه، لكنه تعفف وقال: معاذ الله! ثم هرب مسرعاً. لقد دعته نفسه إلى مواقعتها، ونادته غرائزه: أنْ أقبِل، هذه فرصتك التي لا تقدر بثمن، حيث الفتنة والباب المغلق، لكنَّ قوة قلبه كانت هي الحاكمة، وكانت سلطتها على سلوكه تفوق سلطة الهوى والمزاج والغريزة.
أما من ضعفت إرادته وفترت عزيمته فهو متردد الحال، لا يثبت على استقامة، سريع التقلب، مزاجه حاكم على سلوكه، تخطفُ بصرَه الألوان والأضواء والأشكال، وتتجاذبه الأهواء والأفكار والأطروحات، ويستخفه الذين لا يوقنون، وتلتف حول جسده حبائل الشهوات.
تالله لقد أصبحت تقوية العزائم والإرادات اليوم من واجبات التربية المتحتمة، فالشباب المسلم يتعرض اليوم إلى سيل من شهوات النساء، وسيل من شهوات المال، وسيل من شهوات المكانة والمنصب.. اليوم تباع المبادئ في مزاد الرذيلة، وتُدفن القيم في مقبرة التفاهة والخفة، فهل تقوم محاضن التربية اليوم على إعادة تأهيل القلوب وترميم النفوس وصناعة الإرادات والعزائم، لتستطيع تخريج أَلْفَ يوسف، أو ألف ألف يوسف؟!
طريق العزيمة
قد يتساءل البعض عن السبيل إلى صناعة هذا النمط من القلوب والنفوس التي تتحمل المشاق في طاعة الله تعالى، وتتشبث بالصبر عن مساخطه ومناهيه! ولا شكَّ أنَّ ذلك مما تعقد له حلقات النقاش والمدارسة؛ إذ باتت أهميته وضرورته من الوضوح بمكان.
وسأذكر شيئاً يسيراً من هذه الطرق:
• تكوين الصورة الإيجابية عند الشاب عن نفسه، بحيث نجعله ينظر إلى ذاته نظرة تقدير واحترام، لأنَّ هذه النظرة الإيجابية نحو ذاته ستعينه كثيراً على التذمم والمروءة، وستسلك به طريق الثبات والرسوخ بإذن الله.
وهذه النظرة الإيجابية نحو الذات يصنعها المربي بقبوله للشاب، أعني إظهار القبول والتفهم لشخصه ولعمله ولسلوكه، وإظهار القبول لاختياراته ولقراراته ولإيراداته ولأفكاره، وتعزيز نجاحاته مهما صغرت، ومعالجة أخطائه برفق ولين مهما عظمت، والتواصل معه بلغة دافئة حميمية، تجرؤه على طرح أفكاره لديه دون خوف من اللوم والعقاب، ألم ترَ أنَّ يوسف ذلك الطفل الصغير كان يقص على أبيه رؤيا الشمس والقمر والكواكب، وأنَّ أباه يبادله الحديث، ويوجهه التوجيه العطوف.
كما تصنعها تلك البرامج والمشروعات التي تبعث في النفوس الهمة العالية والطموح الراقي، والتي ينخرط فيها الشباب فتتكون لديهم هذه الهمم وهذا الطموح، فيجدون ذواتهم التي تاهت في دروب الغواية، ويتعرفون على مواطن القوة والنبل والخير فيها. إنَّ تحويل محاضننا التربوية إلى بيئات عمل حقيقية ذات إنتاج ملموس سيصنع شباباً رائعين، يحبون العمل ويقدرون قيمته، وينظرون إلى أنفسهم نظرة رجولة وإيجاب، وسيتلاشى من نفوسهم التشوف إلى التلطخ بالقاذورات.
إننا بهذه الطريقة سنعيد إلى الشبابِ الثقةَ بأنفسهم، وسنفتح لهم أبواباً من الخير والنفع والصلاح، وسنبني لدى نفوسهم إرادة صلبة وعزيمة لا تفتر.
• التذكير الدائم بأمرين: قدر الله تعالى والحساب يوم القيامة، فإنَّ حضورهما الدائم في قلب الإنسان سيولِّد رقابة ذاتية على النفس وخشية لله تعالى ومحاسبة دائمة، وهذه أمور من شأنها أنْ تصنع قلباً قوياً، وإرادة فولاذية لا تكسرها سهام الشهوات والفتن والأهواء. هكذا ربى القرآن الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأجلاء، قال الله تعالى: {قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 15 مَن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْـمُبِينُ 16وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 17 وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْـحَكِيمُ الْـخَبِيرُ} [الأنعام: 15 - 18].
تعظيم الله تعالى ومخافة الحساب يوم القيامة معينان للشاب على حماية نفسه من وحل المعاصي والخطايا. إنَّ الميزان الذي أخبرنا الله تعالى عن وضعه يوم القيامة، سيضعه الإنسان في خلده وهو حي يرزق، ليزن به الأعمال قبل التلبس بها، حتى لا يخسر الصفقة في الآخرة.
• التربية على الصبر، بأنواعه الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن ما حرم الله، والصبر على الأقدار المؤلمة، بالتذكير والموعظة والمعايشة والمتابعة، والصبر في أصله هو الحبس، ومعنى ذلك أنَّ الصابر يجيد التحكم في عاطفته ومزاجه ونوازعه. فالتربية على الصبر هي تربية على التحكم الجيد في تلك الأمور التي من شأنها التفلت والتذبذب. عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: «إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أنْ يعافيك». فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف. فدعا لها[5]. كانت لديها فرصة بأنْ تكسب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لها بالشفاء؛ وهذا أمرٌ مباح، لكنَّ تربية العزائم تتطلب أنْ يتعود المسلم مرافقة البلاء والعناء، والصوم عن الترفه والتنعم شيئاً ما؛ لا لأجل تعذيبه، وإنما لتصحَّ عزيمته وتقوى إرادته؛ فيكون قوياً أمام سيل الشهوات والإغراءات.
هذه بعض الطرق المعينة على تربية الإرادات، وقد أشار العلامة الإبراهيمي رحمه الله تعالى إلى جزء منها، وعلى المربين سبر المزيد من الطرق وتوليد الأفكار الإبداعية الموصلة إلى تربية الإرادات وتقوية العزائم.
[1] آثار الإمام 3/271.
[2] العذب النمير 2/828.
[3] أخرجه البخاري 1/34 كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه ح52.
[4] مدارج السالكين 1/152.
[5] أخرجه البخاري 4/25 كتاب المرضى، باب فضل من يُصرع من الريح ح5652.