الكرامة الإنسانية بين الإسلام ومواثيق الأمم
لم تفلح المنظمات الدولية في الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الأولى، بيد أن
اندلاع هذه الحرب، والتداعيات اللاحقة لها أظهرا حقيقتين كانت لهما تأثيرات هائلة
على تطور التنظيم الدولي فيما بعد، في محاولة لتقنين حقوق الإنسان على صعيد الفكر
أو تطبيقها على صعيد الممارسة.
الأولى:
الانتقائية التي تمنح تلك الحقوق لإنسان دون آخر بحسب الجنسية أو العرق أو اللون،
وهي بذلك راعت فقط مصالح المنتصرين.
الثانية:
تداخل المصالح العالمية بصورة كبيرة ولافتة ما يعني أنه لا بد من إظهار القواعد
الحقوقية العامة ولو كانت مبادئ نظرية لا انعكاس لها على الواقع.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
ظهرت هيئة الأمم المتحدة بعدما انزلق العالم إلى هاوية الحرب العالمية الثانية
(1939 - 1945م)، ومن رحمها نشأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر 1948م، حيث
أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه الحقوق وأذاعتها، وتضمن إعلانها عدة مواد
شملت الحق في الحريات، وعدم التمييز بين البشر على أساس العنصر أو اللون أو الجنس
أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد.
لقد أكد ذلك الميثاق على الحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية، وعدم جواز الرق
أو الاستعباد، والوقوف ضد التعذيب والعقوبات والمعاملات القاسية أو الوحشية، ولكل
إنسان الحق في أن يُعترف بشخصيته القانونية، وكل الناس سواسية أمام القانون ولهم
الحق في التمتع بحماية متكافئة دون أية تفرقة، ولكل شخص الحق في أن يلجأ إلى
المحاكم الوطنية، والحق في التملك، وتكوين الأسر، وفي حرية التفكير والضمير والدين،
وحرية الممارسة والتعليم وإقامة الشعائر، وغيرها من الحقوق والحريات التي نصّ عليها
ذلك الإعلان.
ونشأ هذا الإعلان حين سيقت البشرية لأرذل حربين عالميتين راح ضحيتهما ملايين البشر
في أصقاع العالم أجمع، وكأن هذا الإعلان كان لإعادة تصحيح مسار البشرية ولو من باب
التوثيق القانوني. والحق الذي لا مشاحة فيه أن مبادئ الإسلام وقواعده ونظمه وشرعته
سبقت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأكثر من ألف وثلاثمئة عام.
ولقد بُذلت جهود حثيثة ودراسات رصينة بيّنت أن كثيراً من إعلان حقوق الإنسان ينسجم
مع مبادئ الشريعة، بل إنها في أكثر مبادئها وقواعدها تتعدى هذا المفهوم إلى ما هو
أبعد وأشمل بما في ذلك حقوق الخالق وحقوق عباده وحقوق البيئة والمخلوقات الكونية[1].
الإسلام واحترام التنوع:
إذا كان ذلك الإعلان قد أكد على الحقوق السياسية والمدنية، وأن البشر أسرة واحدة
انبثقت من أصل واحد وأب واحد وأم واحدة لا مكان بينهم لتفاضل في أساس الخلقة
وابتداء الحياة، فإن القرآن الكريم أكد ذلك من قبل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: ١].
لقد رفضَ الإسلامُ أن يكون التنوع الإنسانيُّ مثار تفرقة أو سبب انقسام، بل جعله
بالنسبة إلى الخالق الكبير آية على إبداعه، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِـمِينَ} [الروم: ٢٢]. ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم
هذه الحقيقة حين قال في خطبة الوداع: «أما بعد أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، ألا
وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على
أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت؟»
قالوا: «بلّغ رسول الله»[2].
كما واجه الإسلام التمييز بسبب اللون بصورة عملية وليست شعارات أو مبادئ عامة، فإذا
كان عنترة بن شداد قد لاقى في الجاهلية منزلة أقل بسبب لونه، برغم شجاعته التي
اشتُهر بها، فإن الإسلام قد رفع بلال بن رباح الحبشي ليكون أول مؤذن في الإسلام،
ولما فُتحت مكة صعد بلال رضي الله عنه فوق الكعبة المقدسة يرفع عقيدة الإسلام.
وعن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بِالربذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته
عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم :
«يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت
أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وَلْيُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا
تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»[3].
ولم يزل أبو ذر منذ حدثت تلك الوقعة التي حكاها منصاعاً لتوجيه النبي الكريم،
حريصاً على أن يلبس خادمه مما يلبس ويطعمه مما يطعم.
المساواة كمبدأ إسلامي أصيل:
إن الإسلام قد غرس في أتباعه مبدأ المساواة بالمبادئ والتطبيقات، والحق أن هذا
المبدأ قد محا من أذهانهم وأقطارهم نظام الطبقات الذي طالما قاسى الناس فيه تبعاً
لأنسابهم وأحسابهم وأبشارهم وأموالهم، لقد تعلم المسلمون من أصل دينهم أن الذي تعنو
له الوجوه، وتسجد له في حضرته الأرواح والأجساد، وتستجيب لندائه وحكمه الخاصة
والعامة هو قيوم السماوات والأرض وحده، وأن البشر قاطبة ينتظمهم سلك العبودية
المطلقة لله وحده، وأن من حاول التطاول فوق هذه العبودية السارية في الأشخاص
والأشياء وجب قمعه حتى يستكين في مكانته لا يعدوها.
إن المسلم في نظرته إلى الناس - قويهم وضعيفهم - يعرف أن زمام أمورهم في النهاية
بين يدي الله، وأن هذا الزمام لن يفلت أبداً، ولن يستطيع أحد إسقاطه من بين يديه،
ومن ثم فهو متوجه برغبته ورهبته وقلقه وطمأنينته إلى الله وحده، غير هياب لجبار
عنيد، أو مبال بذي بأس شديد[4].
وإذا أردنا الحديث عن حق الحياة والأمان، ذلك الحق الذي تجلى مادة في الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان، فإننا نرى العجب في مبادئ الإسلام التي جعلت إشقاء حيوان
وإزهاق روحه ظلماً يعده الله العدل الرحيم جريمة يدخل فيها الإنسان النار، قال صلى
الله عليه وسلم : «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ
تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»[5].
فإذا كانت هذه نظرة الإسلام لحق الحيوان في الحياة، فما بالنا بحق الإنسان الذي هو
أكرم المخلوقات وأشرفها على الأرض.
الحق في الحياة منذ أكثر من ألف عام!
إن القرآن الكريم يعد إزهاق الروح جريمة ضد الإنسانية كلها، ويعد نجاتها من الهلكة
والموت نعمة على البشرية كلها: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ
فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. الأمر الذي
يؤكده صلى الله عليه وسلم ويرى في مقتل رجل مصيبة كبرى، قال: «لزوال الدنيا أهون
على الله من قتل رجل مسلم»[6].
والمسلم وغير المسلم سواء في حرمة الدم واستحقاق الحياة، والاعتداء على المسالمين
من أهل الكتاب هو في نكره وفحشه كالاعتداء على المسلمين وله سوء الجزاء في الدنيا
والآخرة، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً»[7].
والطفولة أيضاً:
أما حقوق الطفل التي بدأت هيئة الأمم المتحدة بالنظر إليها منذ عام 1990م حين عقدت
قمة دولية بعنوان «مستقبل أفضل لكل طفل»، وفي عام 1999م حين تم التوقيع على
المعاهدة من قبل جميع الدول المشاركة في الأمم المتحدة ما عدا الصومال والولايات
المتحدة، فإن الإسلام قد سبق هؤلاء بأربعة عشر قرناً، ورأينا في الشريعة الإسلامية
حقوق الطفولة واضحة منذ ما قبل الولادة والرضاعة والعناية بالطفل بعد الولادة
بدنياً ونفسياً، وخصّص للإناث توجيهات خاصة، فقد عرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم
حبه الشديد لبناته الأربع، وبيّن الثواب الجزيل لمن يربي بناته ويعلمهن تعليماً
سليماً قائلاً: «من عالَ ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة»[8].
إن مقالاً كهذا لا يمكن أن يستوعب المبادئ التي سبق الإسلام بها الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، كما أن حقوق الإنسان في الإسلام لم تكن حقوقاً ذاتية فقط كما جاءت
في الإعلان وإنما هي حقوق تعلقت بالإنسان نفسه وبعلاقته مع الآخر ومع ربه، وهو ما
غاب عن الإعلان العالمي ومبادئه.
حقوق الإنسان حال الحرب:
ولأن الإسلام دين واقعي، فقد شرع ما ينبغي العمل به حال الحرب، فقد أوجب على
المحاربين الالتزام بتعاليم محددة لا يحيدون عنها فلا يغدرون في الحرب ولا يقتلون
امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً فانياً ولا منقطعاً للعبادة، كما قصر مشروعية القتال على
الجيش المقاتل فقط، أما المدنيون غير المحاربين فلا يقتلون، فعن أنس بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله
ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا
غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين»[9].
[1] صالحة عابدين: حقوق المرأة في الإسلام، ضمن ندوة حقوق الإنسان في الإسلام،
رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 2000م، ص288.
[2] الصالحي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق محمد بن يوسف الصالحي،
دار الكتب العلمية، بيروت، 1993م، 8/482.
[3] البخاري، الأدب المفرد (189)، ومسلم (1661) (40)، وأحمد (21432).
[4] محمد الغزالي، حقوق الإنسان بين الإسلام والأمم المتحدة، دار نهضة مصر،
القاهرة، ص24، 25.
[5] البخاري 3140.
[6] سنن الترمذي (1395).
[7] البخاري (ح2995)، ومحمد الغزالي: السابق ص47.
[8] سنن أبي داود (ح 5147).
[9] سنن أبي داود كتاب الجهاد باب في دعاء المشركين.