النفوذ الإيراني في العراق
إن النفوذ الإيراني في العراق لم يكن نابعاً من قوة إيران فحسب، بل نتيجة الظروف والمتغيرات الداخلية العراقية والإقليمية والدولية، وقد استغلتها إيران ورقة ضغط تستخدمها بوجه أهل السنة في العراق، وإن دورها في العراق كان سبباً في عزل العراق عن حاضنته العربية والإسلامية.
وقد استطاعت إيران من خلال حلفائها الشيعة أن تسيطر على العراق من خلال إستراتيجيات عدة أهمها: إيصال حلفائها من الساسة الشيعة في العراق إلى السلطة وصناعة القرار ودعمهم للبقاء في سدة الحكم، والثانية تتلخص في تجربتهم الشعبية العسكرية المتمثلة بالمليشيات ومنها المنضوية تحت لافتة «الحشد الشعبي»، والتي جعلتهم سيفاً مسلطاً على رقاب أهل السنة، وحولتهم إلى جنود يدافعون عن أمن إيران بصورة غير مباشرة بزعم أنهم يقاتلون دفاعاً عن أراضيهم، فضلاً عن توغلها داخل المجتمع العراقي بوسائل شتى منها: دينية ومذهبية واقتصادية وأخرى اجتماعية.
دوافع النفوذ الإيراني في العراق:
البحث عن متنفس إقليمي، يكون منفذها إلى العالم الإسلامي، لأنها تعاني من عزلة ثقافية تقف حائلاً بينها وبين هدفها في ما يسمى بــ«تصدير الثورة»، وأن الأزمة الأمنية في العراق تجعلها متخوّفة من امتدادها إلى داخل إيران وعرقلة «تصدير ثورتها».
البعد العقائدي المذهبي الذي اتخذته إيران ذريعة لتدخلها إلى جانب الحكومة العراقية الشيعية الموالية لها في حربها ضد تنظيم «داعش»، بحجة حماية الأماكن والمزارات الدينية الشيعية في العراق، والزوار الإيرانيين الوافدين إليها، وهو ما أوجبته الفتاوى التي أطلقتها المرجعية الدينية الشيعية فيما يسمى بـ«الجهاد الكفائي».
توظيف الحرب على الإرهاب الذي فسح لها المجال لإحداث مجازر بأهل السنة لم يسبق لها مثيل، وتشريدهم وتخريب مناطقهم، بغطاء دولي تحت ما يسمى «مكافحة الإرهاب»، وهو في الحقيقة استئصال لأهل السنة، فها هي ترسّخ نفوذها في العراق، وتحاول تغيير صورتها من متهمة بدعم الإرهاب إلى شريك في محاربته.
تصاعد التحدي الأمني للحكومة العراقية الموالية لإيران، والتي أصبحت غير قادرة على مواجهة «داعش» عند سيطرته على أجزاء واسعة من العراق، وتخلي حلفائها عن مساعدتها في مواجهة هذا التنظيم، فاستغلت إيران حاجة الحكومة والأوضاع التي تمرّ بها، فأسرعت بتقديم السلاح والذخيرة، والدعم العسكري لها قبل غيرها من الدول لتعزيز دورها ونفوذها في العراق.
طبيعة السياسة الأمريكية تجاه العراق، وإطلاق يد إيران والتغاضي عنها ومنحها الضوء الأخضر لذبح أهل السنة وتهجيرهم ومنعهم من حق الدفاع عن أنفسهم، أو مشاركتهم في القرار السياسي الحقيقي في بلدهم.
البيئة العراقية التي توفر الأرض الخصبة لتزايد النفوذ الإيراني، من حيث وجود الأحزاب والحركات والمنظمات والمليشيات الشيعية المسلحة ذات الارتباط الأيدلوجي بإيران التي تحقق بدورها ما يتطلبه الدور الإيراني من أهداف داخل العراق.
أشكال النفوذ الإيراني في العراق:
أولاً: النفوذ السياسي:
أولى خطوات الدور السياسي الإيراني في العراق كانت تكمن في دعمها للحكومات الشيعية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على المشهد السياسي في العراق، وإدراك النظام الإيراني أن هذه التجربة لا تزال غير ناضجة ولا بد من تمهيد لحلفائها الشيعة للوصول إلى سدة الحكم.
وحتى تنجح إيران في تحقيق هذه الغايات السياسية، ركزت منذ 2003م على عامل المجتمع في العراق، والذي يمثل الشيعة نسبة كبيرة منه ذات علاقة بإيران، لتخلق لها قاعدة شعبية مؤيدة لتوجهاتها بحجة وحدة المذهب وضرورة التزام الشيعي بــ«ولاية الفقيه» بناء على تفسيرات دينية استغلتها طهران سياسياً غير مكترثة لوجود مخالفين لهذه النظرية.
ويتمثل دور إيران السياسي في العراق في ما تملكه من نفوذ في الحكومة العراقية والحركات والأحزاب السياسية الشيعية الفاعلة في العملية السياسية ومراكز صنع القرار، الأمر الذي يسهل لها التأثير في الأحداث والتطورات الجارية والسياسات المتخذة في العراق.
وسياسياً تعمل إيران على استمرار خلخلة الأوضاع السياسية في العراق بما يجعل الحكومات العراقية ضعيفة، وإيجاد نخب سياسية تدين بالولاء والطاعة لإيران، فبقدر ضعف وحاجة الحكومات العراقية لإيران بقدر ما ستحقق إيران مصالحها.
يُضاف إلى ذلك بروز الدور الإيراني في القرار العراقي عبر تقديم الاستشارات للسياسيين وصناع القرار العراقيين حول العديد من القضايا والمشكلات العراقية السياسية والاقتصادية.
وتمارس طهران نفوذها من خلال سفارتها في بغداد وقنصلياتها في البصرة وكربلاء وأربيل والسليمانية. كما أن سفراءها الذين عُينوا بعد عام 2003م كانوا قد خدموا في «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري الإيراني» المسؤول عن العمليات السرية خارج حدود بلاده، وذلك يؤكد الدور الذي تلعبه أجهزة الأمن الإيرانية في صياغة وتنفيذ السياسة الإيرانية في العراق.
ثانياً: النفوذ الديني:
حققت إيران اختراقاً ونفوذاً في المسائل الدينية، وسيطرت على شريحة واسعة تحت مسمى «التشيع»، وذلك من خلال إثارة القضايا الطائفية باستهدافهم لرموز أهل السنة، والترويج لفكرة المظلومية. ولإيران دور ديني فاعل في تحريك القضايا السياسية عن طريق الفتاوى الدينية التي يصدرها رجال الدين المرتبطون بــ«ولاية الفقيه».
ثالثاً: النفوذ الاقتصادي:
المتمثل بالتغلغل الكبير في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية وقطاعات الاستثمار والسياحة الدينية والقطاعات التجارية، وتسهيل منح التأشيرات للتجار والمستثمرين الإيرانيين، وإقصاء التجار من أهل السنة، وإغراق الأسواق العراقية بمنتجات وسلع إيرانية استهلاكية ورخيصة، حتى تمكنت إيران من أن تكون الشريك التجاري الرئيس للعراق، ومن أكبر المستثمرين فيه منذ عام 2003م، إذ وصلت الاستثمارات الإيرانية في العراق إلى ما يقارب 12 مليار دولار.
رابعاً: النفوذ الأمني العسكري:
وهو لا يخفى على من يتابع الشأن العراقي، ويتضح بالتواجد المباشر حيث نشر قوات عسكرية إيرانية ومستشارين ومدربين عسكريين، وتنفذ المقاتلات الإيرانية طلعات جوية على طول الشريط الحدودي مع العراق، تحت مبرر حماية الزوار والمراقد الشيعية ودعم الحلفاء من الأحزاب السياسية، والمليشيات المسلحة التي تعمل في العراق والتي تجاوز عددها 30 مليشيا مسلحة والمنضوي بعضها تحت لافتة «الحشد الشعبي».
خامساً: النفوذ الثقافي والتعليمي:
تعمل جهات مختلفة إيرانية على تمويل مراكز دراسات ومعاهد ومؤسسات إعلامية لاستقطاب الشخصيات الفاعلة في المجتمع الشيعي العراقي لإيفادها إلى المدن الإيرانية. فالجامعات الإيرانية أرسلت إلى بعض الجامعات العراقية طلبات لاستضافة أساتذة جامعيين بهدف التبادل العلمي، غير أن من يذهب هناك يجد نفسه ضيفاً خاضعاً لبرنامج مكثف الهدف منه الترغيب في التجربة الإيرانية ومميزات نظام «ولاية الفقيه».
ولقد أصبح العراق وجهة رئيسة للسياح الدينيين الإيرانيين، إذ يزور نحو 40 ألف إيراني النجف وكربلاء في العراق شهرياً، كما تشير التقديرات إلى أن حوالي ثلاثة إلى أربعة ملايين شخص يزورون العراق أثناء الاحتفالات السنوية، كما أن النجف قد أصبحت محط تركيز الاستثمارات الإيرانية، وبهذه الطريقة تشتري إيران نفوذها في العراق.
سادساً: النفوذ الاجتماعي:
بات التوغل الإيراني في المجتمع العراقي يركز على الشباب لجعلهم مقاتلين في مليشيات مسلحة توالي إيران وتمثل خطوط دفاعات متقدمة لها، وينخرط الشباب الشيعة في صفوف هذه المليشيات، ويوالي الجزء الأكبر منهم أجنحة عسكرية تؤمن «بولاية الفقيه» وتتبع فتوى «الجهاد الكفائي» التي تشكلت على إثرها مليشيا الحشد الشعبي في العراق.
وسائل التأثير الإيراني في العراق:
أولاً: التأثير العقائدي:
تهتم إيران بشكل كبير بالبعد الديني المذهبي بصورة حكمت سياستها وعلاقاتها مع الأحزاب والمليشيات المسلحة، لاسيما تلك التي تؤمن بـ«ولاية الفقيه»، وفي المقابل تعتبر القوى والأحزاب الإسلامية ذات الانتماء الشيعي إيرانَ بعداً وعمقاً إستراتيجياً لها ولنشاطها، واستطاعت إيران استثماره للتأثير عليهم بتقديم نفسها بأنها «حامية المذهب»، وتأجيج الصراع العقائدي في العراق لضمان كسب شيعته، لاسيما من الشباب الثوري المتحمس الذي يعاني في الوقت نفسه ظروفاً اقتصادية صعبة، ليجد ما يطمح إليه في صفوف المليشيات المسلحة التابعة لأحزاب سياسية ولاؤها بالدرجة الأولى للمرشد الأعلى في إيران.
وتعمل إيران عبر مليشياتها في العراق على إبادة أهل السنة أو جعلهم تحت تصرفها، موضحين أن فصائل مثل حزب الله في العراق وعصائب أهل الحق تلعب دوراً سلبياً في استهداف أهل السنة وهي تريد أن يكون لها قرار حتى في المحافظات السنية كالأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى والتي تشهد حرباً ضد تنظيم «داعش» منذ بداية 2014م. ولا يخفى على المراقبين أن إيران استهدفت حتى السياسيين من أهل السنة الذين يتحركون داخلياً وخارجياً لإيقاف المد الإيراني في العراق، عبر تهم ملفقة لإيقاف نشاطهم في مواجهة إيران.
ثانياً: التمويل والدعم المالي:
يمثل الدعم المالي الكبير الذي تُقدمه إيران للأحزاب والمليشيات المسلحة الشيعية في العراق، أحد أهم عوامل التأثير الفاعلة لإيران لترسيخ نفوذها بين حلفائها، وتأثيرهم على المجتمع الشيعي.
ثالثاً: ممارسة دور الوسيط:
تلعب إيران أوقات الأزمات السياسية والصراعات الحزبية الشيعية دور الوسيط السياسي في حالة ظهور انشقاقات بين الأحزاب والمليشيات المسلحة، ودأبت إيران دوماً على إبقاء الأحزاب والتيارات الشيعية في تكتل واحد يضمن حصصاً لجميع هذه القوى في مؤسسات الدولة، كي لا تحدث مواجهات سياسية تهدد بفرط عقد المنجزات التي حققتها إيران في العملية السياسية. وعلى جانب آخر، استخدمت إيران أتباعها من المليشيات المسلحة لإذكاء التوترات الطائفية والتحريض على العنف السياسي، لكي تتقدم حينها دبلوماسياً لحل هذه الصراعات مما يضمن لها دوراً كوسيط في العراق.
رابعاً: وسائل الإعلام والدعاية:
تسيطر إيران على العشرات من وسائل الإعلام والقنوات الفضائية الشيعية العراقية، وتهدف من خلالها إلى التأثير على الرأي العام في العراق والأفكار والتوجهات لصالحها، وتروّج وسائل الإعلام هذه الرؤى الإيرانية في ما يخص الشأن العراقي، أو التطورات والأحداث التي تشهدها المنطقة، وتشترط على كل حزب سياسي أو مليشيا مسلحة وجود جناح إعلامي يروج لأفكار التجربة الإيرانية وولاية الفقيه، وتتلقى قنوات عراقية تمويلاً شهرياً بالملايين من الدولارات شريطة الالتزام بسياسة النظام الإيراني.
خامساً: سياسة البديل:
اعتمدت إيران أسلوب تنوع وتعدد الأحزاب السياسية والمليشيات المسلحة في العراق، وشجعت العديد من القيادات والشخصيات فيها على الانشقاق وتشكيل جماعات عسكرية جديدة خاصة بهم، فهذه الجماعات الجديدة تمكّن طهران من تنويع حقيبتها السياسية والعسكرية في العراق، كما تفسح لها المجال بالاستعاضة عن أي جهة تحاول الخروج عن سياستها بالجهات الأخرى، لاسيما في ظل إدراك مختلف الأحزاب والمليشيات أهمية حاجتها للدعم الإيراني الذي إن سُحب عنها فلن تتمكن من البقاء في الساحة العراقية.
سبل مواجهة النفوذ الإيراني في العراق:
لا تتوقف مواجهة المد الإيراني على أهل السنة في العراق وحدهم، بل تتعدى إلى الدول العربية والإسلامية، فهم جميعاً كركّاب سفينة إن نجت نجوا وإن غرقت غرقوا جميعاً، ولعلّ من أبرز صور مواجهة هذا النفوذ ما يلي:
أولاً: المواجهة الإقليمية، وذلك بالتنسيق بين أهل السنة ومحيطهم من الدول العربية والإسلامية، ومحاولة الضغط على هذا المد الإيراني وتحجيم نفوذه في العراق، وإعادة العراق إلى حاضنته العربية والإسلامية بدلاً من الارتماء بأحضان المشروع الصفوي الفارسي في المنطقة، وإقناع المجتمع الدولي عبر الطرق الدبلوماسية بضرورة حل مليشيات الحشد الشعبي وإعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس مهنية، تحقق التوازن وتحفظ لأهل السنة في العراق هيبتهم.
ثانياً: على الساسة من أهل السنة، ضرورة توحيد موقفهم والتنسيق فيما بينهم وبين باقي النخب في الخارج، واستغلال المحافل الدولية لتعرية الحكومات الشيعية المتعاقبة وبيان جرائمهم للعالم بحق أهل السنة، والبحث عن نقاط الخلاف بين حلفاء إيران في العراق ومحاولة استغلالها لتشتيت شملهم وعرقلة جمعهم في خانة واحدة توحد صفهم بوجه أهل السنة.
والتنسيق مع المحيط العربي والإسلامي لإنشاء مشروع الإقليم السني، الذي يحفظ كيان أهل السنة ويمنع المشروع الإيراني الفارسي الصفوي من التوغل والتمدد داخل مجتمعهم السني، إضافة إلى كونه ملاذاً للسنة خارج هذا الإقليم.
ثالثاً: يجب استغلال الإعلام في تعرية علاقة إيران بالمشروع الصهيو-أمريكي وتحالفهم السري معهم، وخلق خطاب يثير الشارع الإيراني ويخلق المشاكل فيما بينهم لزعزعة حكومتهم وإدخالها في دوامة وإشغالها بوضعها الداخلي بدلاً من الهيمنة والتوسع في العراق والعالم العربي والإسلامي. ولتحقيق هذا الهدف لابد من تأسيس فضائية ناطقة باللغة الفارسية وموجهة للداخل الإيراني، بخطاب موضوعي وغير هجومي لضمان متابعتها والاقتناع بما يتم طرحة من أفكار وبرامج من خلالها.
رابعاً: إنشاء مراكز بحثية متخصصة بالشأن الإيراني من خلال باحثين أكفاء، تكون مهمتها رصد ومتابعة إيران ومشاريعها، ومتابعة إعلامها، ولا بد من جلب مترجمين يجيدون اللغة الفارسية ولديهم قدرة على التقاط وتحليل الأخبار والصحف والتصريحات التي توجهها حكومة طهران إلى جمهورها الداخلي. ومعلوم أن الحكومة الإيرانية لديها نوعان من الخطاب، الأول موجه إلى جمهورهم الداخلي، والثاني موجه إلى العالم الخارجي.