قراءة في سياق الآيات الواردة في التدبر
المتأمل للآيات الواردة في القرآن الكريم عن التدبر يجد أنها جاءَت في أربعةِ مواضعَ من كتاب الله عز وجل، اثنتان منها نزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة في شأن الكفار، واثنتان نزلتا في المدينة بشأن المنافقين، ذمَّ القرآن هؤلاء القوم على تركهم التدبر، فجاءت الآيات للذم والتوبيخ لهم، لكنها من باب الأولى جاءت محذرة للمسلمين المتلقِّين لهذا القرآن أن يسلكوا سبيلهم أو يعرضوا كما أعرضوا. وفيما يلي عرض لهذه الآيات مع بيان هدايتها:
أولًا: قول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]: هذه أول آية نزلت في شأن التدبر، نزلت في مكة في سورة (ص) مبينة أولًا بركة هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الناس، ثم بينت أن الغاية من إنزاله أن يتدبر الناس آياته، وليست مجرد سماعه أو تلاوته، ثم بينت أيضًا أن هذا التذكر المقصود لا يحظى به إلا أهل العقول السليمة. وعلى ذلك يستطيع المتدبر أن يستخرج هدايات هذه الآية وعلاجها في الآتي: الإيمان بعظمة القرآن وأنه منزل من عند عظيم حكيم، ثم الإيمان ببركته وكثرة خيره ونفعه[1]، ثم وجوب العلم والعمل به الذي هو التدبر، ثم العلم أنه بحسب لُبِّ الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب[2].
ثانيًا: قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]: هذه هي الآية الثانية التي نزلت في شأن التدبر، نزلت في في مكة أيضًا في سورة (المؤمنون) حيث اشتملت على التأنيب الشديد للمشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له، وإعراضهم عنه، مع أنهم قد خُصُّوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف، لاسيما أن آباءهم ماتوا في الجاهلية ولم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير، فكان اللائق بهم أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله إليهم بقبولها، والقيام بشكرها وتفهمها، والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار، كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي عنهم[3]. فيستطيع المتدبر أن يستنتج من هذه الآية الموبخة لهؤلاء القوم أن هذا القول - وهو القرآن - لا يملك من يتدبره أن يظل معرضًا عنه؛ لأن فيه من الكمال والعزة والشرف، وفيه من موافقة الفطرة، وفيه من غذاء القلب، وفيه من زاد الفكر، وفيه من قويم المناهج، وفيه من محكم التشريع، ما يجعل متدبره لا يستطيع الإعراض عنه، والإيمان به؛ لأن سر إعراض هؤلاء القوم أنهم لم يتدبروه! فيحرص المسلم بعد ذلك على عدم الإعراض عن تدبر آيات هذا القرآن الكريم، والإقبال عليه بروح إيمانية وقلب طاهر.
ثالثًا: قول الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]: نزلت الآية الثالثة على رسوله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في شأن التدبر في سورة (النساء)، حيث وردت هذه الآية في سياق الحديث عن المنافقين الذين كانوا يحضرون مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يتظاهرون بالإسلام، ولكنَّ قلوبهم غير مؤمنة، وأفعالهم معرضة، مع أن الله قد أنزل ما يدلهم على الحق، ويهديهم السبيل القويم، وهو القرآن؛ فقال لهم معرضًا عن خطابهم المباشر مقابل إعراضهم وتكبرهم عن القرآن: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}؟! في استفهام إنكاري يلومهم على ترك التدبر، مقرونًا بلفت انتباههم بإعجاز هذا القرآن باتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، ولكنَّ هذا التلويم ليس من الدرجة القصوى، فلعلهم يثوبون ويعودون إلى رشدهم[4]. فيستفيد المتدبر من ذلك حثَّ نفسه على تدبر كتاب الله بإخلاص وصدق لكي لا يتشبه بالمنافقين، معتبرًا ومتأملًا في عظمة منزله وعظمة تشريعه وإعجازه، وأنه لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، وبذلك يصل إلى درجة اليقين بكلام الله، لأنه يراه يصدِّق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا. ويعلم كمال القرآن وسلامته من الاختلاف كما قال مُنزِله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلًا[5].
رابعًا : قول الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]: ثم نزلت هذه الآية الرابعة والأخيرة عن المنافقين في المدينة كما في سورة (محمد)، بأسلوب أشد؛ حيث ارتقى البيان إلى توبيخهم على ترك التدبر مع بيان سبب ذلك: بأن قلوبهم عليها أقفال لا تنفتح لخير، ولا لفهم قرآن؛ فهي تحول بينها وبين فهم القرآن وبينها وبين النور[6]. يقول شيخ المفسرين الطبري معلقًا على هذه الآية: «أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتفكَّرون في حُججه التي بيَّنها لهم في تنزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون؟! {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} يقول: أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر»[7].
فالمتدبر إذا قرأ هذا التوبيخ الشديد عالج نفسه، وخاف على حاله من ذلك؛ فذهب أولًا إلى قلبه فطهره وأزال عنه الشوائب والموانع التي تمنع التدبر من أقفال الشبهات والشهوات، لأن القلب إذا طهُر لن يشبع من كلام الله[8]، وطهارته هي صيانته من هذه الأقفال التي تحول بينها وبين نور القرآن.
وعلى هذا تكون آيتان نزلتا في سياقِ المنافقينَ، وهما قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
وآيتان نزلتا في سياقِ الكفَّارِ، وهما قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
وعلى كل حال فجميع هذه الآيات تخاطب المؤمنين من باب أولى؛ لأنهم هم أهل الانتفاع بتدبر القرآن، فهي تحذر جميع المسلمين أن يسلكوا هذا الطريق، ففيها تحذيرٌ لنا وتوبيخٌ لهم[9]، وهي تدل أيضًا على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به، أمر لا بد منه لجميع المسلمين[10].
وبعد؛ فإنه يمكن قراءة الرسالات التي جاءت بها هذه الآيات على النحو الآتي:
الإيمان بعظمة القرآن: من خلال تذكر عظمة مُنزِّله سبحانه وتعالى، ومن خلال الإيمان ببركته وكثرة خيره ونفعه.
العلم والعمل: فالعلم والعمل ضروريان لفهم وتدبر كتاب الله، والعلم به يكون بحسب لُبِّ الإنسان وعقله؛ لأن التذكر والانتفاع لا يكون إلا لذوي العقول الحصيفة، والأذهان النظيفة.
الإقبال على تدبر القرآن وعدم هجره في جميع شؤون الحياة، لأن من مسببات الإعراض عن القرآن عدم تدبره كما كان يفعل المشركون! فكلما بعد المرء عن التدبر جاء الإعراض، فالقراءة وحدها لا تكفي. فيحرص المتدبر على عدم الإعراض عن تدبر آيات هذا القرآن الكريم، والإقبال عليه بروح إيمانية وقلب طاهر.
اليقين بإحكام آياته وإتقان ألفاظه، والإيمان بأنه لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، وبذلك يصل إلى درجة اليقين بكلام الله، لأنه يراه يصدِّق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا. ويعلم كمال القرآن وسلامته من الاختلاف.
تطهير القلب من الأقفال: سواء أقفال الشبهات أو الشهوات: «لأن صاحب القلب الحي بين قلبه وبيت معاني القرآن أتمُّ الاتصال، فيجدها كأنها قد كُتبت فيه، فهو يقرؤها عن ظهر قلب»[11].
وفي الختام أذكر هنا كلامًا جامعًا لشيخ الإسلام ابن تيمية بيَّن فيه بعض ما سبق بيانه بكلام بديع جاء فيه: «أن من أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله، بعقله، وتدبره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره»[12].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: ٣٢].
:: مجلة البيان العدد 344 ربـيـع الثاني 1437هـ، يـنـايــر 2016م.
[1] ينظر: تفسير البغوي: (7/88).
[2] ينظر: تفسير السعدي: ص(712).
[3] ينظر: تفسير ابن كثير: (5/483)، وأضواء البيان: (5/339).
[4] ينظر: جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري: (8 /567)، وقواعد التدبر الأمثل، للميداني: ص(11).
[5] ينظر: تفسير السعدي: ص(189).
[6] ينظر: أضواء البيان، للشنقيطي: (7/259).
[7] تفسير الطبري: (22/179).
[8] جاء في الزهد للإمام أحمد: ص(188) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله: «لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله».
[9] ينظر: مفهوم التفسير، للطيار: ص(186).
[10] أضواء البيان: (7/256-257).
[11] قاله الإمام ابن القيم في الفوائد: ص(3).
[12] اقتضاء الصراط المستقيم: (2/741).