• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
القراءة الغائبة للتدخل الروسي

القراءة الغائبة للتدخل الروسي

من المناسب قبل الشروع في بيان تداعيات التدخل الروسي المباشر أن نقرر حقيقة حتمية لا يمكن للباحث والمراقب تجاهلها؛ فتاريخ التدخل الأجنبي في بلاد المسلمين يحمل الشرّ والوباء على البلاد والعباد، حتى الطوائف التي نعمت في كنف الإسلام وعاشت تحت ظلاله آمنة مطمئنة انحازت للغزاة وأضحت وقودًا للحروب الداخلية (الأهلية) بشكل أو بآخر، تارة باسم المظلومية وأخرى باسم التعددية، وطفقت تروج للنموذج الأجنبي بوصفه الصيغة الحديثة للدولة المدنية التقدمية، وغيرها من الشعارات المستوردة التي تخدم مصالح الغزاة ومخططاتهم.

مخططاتهم.

هذه الحقيقة تفسر لنا بجلاء أسباب استدامة الحروب في الفكر الغربي والشرقي بوصفها مرحلة متقدمة على مبدأ التدخل المباشر ومن ثَمَّ إملاء الشروط والحلول القسرية التي تحفظ مصالحه وتخدم أجندته في المنطقة، ونحن إذ نتحدث بشكل تحليلي ومن منظور إستراتيجي عن الملف السوري الذي يتمتع بمزايا جيوسياسية مهمة وتاريخ حافل بالحضارة والوقائع ينبغي إعمال الدور الذي تقوم به السياسية الصهيونية في تحليل الملف، وقراءة أبعاده كمؤشر تقريبي لواقع السياسة الدولية على الأرض، حيث إن اضطراب الكيان الصهيوني يشكل هاجسًا مخيفًا في الأوساط الغربية الحاكمة، علاوة على القيمة الدينية للربيبة والمستقرة في أذهان الساسة، من أرباب النبوءات الصليبية تجاه الكيان الصهيوني، وما تمثله من حلم عودة المسيح (عليه السلام) كما يزعمون!

الكيان الصهيوني الدولة الوحيدة - في عرف النظام الدولي - التي يجب أن يحافظ المجتمع الدولي والنظام الإقليمي على حمايتها جملة واحدة، بغض النظر عن طبيعة الأدوار الموكلة إلى كل طرف. وفي ظل الهيمنة الأمريكية، والتطلع الروسي إلى إعادة بناء القوة والاعتبار لمكانة روسيا الدولية في صناعة القرار العالمي وزيادة مساحة التأثير؛ يبرز مفهوم التدخل الروسي بوصفه الداعم الجديد والراعي الدولي لبناء نظام إقليمي على غرار سايكس - بيكو، بعد موجة التخفف الأمريكي من أعباء المنطقة - وليس مغادرتها كما يروج البعض - وخفض مستوى التزامها بأمن حلفائها الإقليميين. فروسيا اليوم ليست بقوة الاتحاد السوفيتي بطبيعة الحال، ولذلك تعني تل أبيب بالنسبة للروس منطقة العبور وتسلم تأشيرة الدخول إلى عمق الأراضي السورية عبر عمليات عسكرية ممنهجة، وممولة من بنك الأهداف الصهيوني بالتعاون مع دول إقليمية مخابراتية وظيفية.

لا يمكن إغفال النزاع الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا، لاسيما بعد مصادقة الرئيس الروسي على العقيدة العسكرية الجديدة في 26 يناير 2014م، المتمثلة في اعتبار «حلف الناتو» التهديد الأساسي لروسيا من خلال سياسات الحلف عبر تنصيب منظومة الدفاع الصاروخي، ونشر أسلحة نوعية في بعض دول شرق أوربا وصولًا إلى الانقلاب السياسي في أوكرانيا وانتهاءً بتراجع أسعار النفط، وكنتيجة حتمية فإن النظام الدولي مقبل على أعتاب حرب باردة جديدة، وإعادة تداعياتها إلى الواجهة العالمية من جديد، ولكن الغرب يرى أن مستوى التهديد الذي يمثله العملاق الصيني يتضاعف أمام الترنح الروسي في أوكرانيا وتحمّل أعباء التدخل العسكري في سوريا، إضافة لعامل الانهيار المالي الذي يضرب أركان الكرملين بسبب تراجع أسعار النفط. الولايات المتحدة عودتنا على تحديد أولوياتها في السياسة الخارجية، وبالتأكيد ليس بالضرورة أن تنجح فيها، ولكنها بات مقتنعة ومتأكدة أن الجيش السوري قد انهار تمامًا، وبأن المعارضة قد ولجت إلى محرقة الاستنزاف والإجهاد المتواصلين، وبسبب وجود تنظيم الدولة الإسلامية على الخريطة تكون قد ضمنت استدامة الصراع واستحالة حسمه من طرف على حساب آخر مهما بلغت قوة المعارضة ومهما بلغ ضعف النظام أو حجم تأييده الخارجي الذي تطلب وعلى نحو سريع دخول موسكو على خط الصراع مباشرة، ومحاولة تحييد حجم التأثير الإيراني وإدارته للمعارك بعد سلسلة الإخفاقات المتوالية والنكسات الموجعة في العراق وسوريا، ولأن موسكو تستشعر هرولة النظام الإيراني صوب المعسكر الغربي لاسيما مع اقتراب الإدارة الأمريكية من تسوية العقوبات المفروضة على طهران، الأمر الذي دفع الروس إلى التفكير في مستقبلهم الإستراتيجي إقليميًّا، وضمان عدم تكرار تجربة الملف الليبي! وقد ارتأت الولايات المتحدة التوجه التدريجي نحو شرق آسيا لاحتواء الصين، والسعي لتطويق خطر كوريا الشمالية وضمان تأمين التقنية النووية ومنعها من التهريب خارج الحدود، فيما يتولى الروس إدارة الملف السوري بالتعاون مع شركائهم الإقليميين وحاجتهم الحتمية للولايات المتحدة.

التناوب الأمريكي - الروسي على الملف السوري يأتي من باب إطالة الأزمة لضمان أمن الكيان الصهيوني وتنشيط مبيعات السلاح وخلق مناطق نفوذ وصراع جديدة، تعيد تقسيم المنطقة على نحو ثنائي لأول مرة منذ سقوط المعسكر الشيوعي. من هنا يجب أن نقيم التدخل من زاوية مختلفة، تبعث الأمل مجددًا، وتبدد مخاوف المسلمين التي تضخها آلة الإعلام العالمية بوصفها الشريك الإستراتيجي للآلة العسكرية في أزمنة الحروب للتأثير النفسي. وقبل الإشارة إلى هذه الجوانب الإيجابية، يمكننا تلخيص محددات التدخل الروسي في نقاط:

أولًا: حماية أمن الصهاينة كجزء إستراتيجي من سياسة النظام الدولي.

ثانيًا: رفع أسعار النفط وإشاعة تهديد الممرات وخطوط الإمداد.

ثالثًا: تأمين الجدار العلوي ومنعه من الانهيار بعد إقامته منذ اتفاقية سايكس - بيكو.

رابعًا: حماية المصالح الروسية وضمان بقاء أسطولها البحري في طرطوس.

خامسًا: إضعاف الدور التركي، وإفشال مساعيه في احتواء المعارضة الإسلامية.

سادسًا: منع وصول ارتداد موجات الجهاد إلى مناطق النفوذ الروسي خارج سوريا.

التدخل الروسي يحمل مضامين مهمة، وتداعيات دولية من شأنها خدمة الثورة السورية، متى أحسن المجاهدون وداعموهم توظيفها على نحو جيد، عبر اتحاد الفصائل، وإقامة غرف عمليات مشتركة، وذم الفرقة وطرح الاهتمامات الشخصية المحدودة، وإقامة مصلحة الدين والعقيدة قبل كل شيء. الحوادث التاريخية تثبت أن بلاد الشام كانت وستظل عصية على التطويع الخارجي، ومن رحمة الله تبارك وتعالى بالمسلمين اشتداد الأزمات وطول عمرها الكوني كي تتمايز الصفوف، وتتباين المواقف والآراء على نحو يخدم الأمة بشكل عام وأرض الشام بالخصوص، فظهور الخلاف الدولي إزاء الملف السوري إلى السطح بعد سنوات من التوافق على تدمير البنية التحتية، مؤشر إيجابي له ما بعده، وهذا الخلاف وإن بدا للوهلة الأولى محدود المساحة والتأثير، إلا أنه وبمرور الوقت مؤثر في مسار السياسة الدولية، ويمكن من خلاله قراءة التشققات الدولية وتصدعات التحالف الإقليمي بما يتيح للثورة استعادة عافيتها، والوصول إلى الكثير من أهدافها الإستراتيجية. ومن أعظم هذه التحولات تبدد أسطورة النظام العسكري الإيراني، بعد هلاك كبار قادته وعجزه عن إنقاذ حزبه الشيطاني، ودخوله مراحل استنزاف بشري ومادي لا يمكن تجاهل أثرها على قبول ملالي طهران بالاتفاق الدولي النووي، بعد أن كانت قاب قوسين من إتمامه، فلله الفضل ثم للثورة السورية التي تسببت بطريقة أو بأخرى في تراجع الإنفاق الحكومي على المنشآت، وانشغال الحكومة بإدارة ملفاتها الخارجية، هذا القدر من الاختلاف الدولي والتراجع الإقليمي كفيل بتأسيس هوية الشعوب على أساس عقدي يحمل مضامين سياسية واقتصادية وعسكرية ودعوية كبدائل حيوية عن معونات الصليبيين، فلم يعد للدخلاء غطاء يمكن التدثر به بعد موجة الفضائح التي أخرجتها الثورة السورية، كما أن الأنظمة الإقليمية التي ترى في الثورة فرصة الإطاحة بنظام الأسد كشفت عن أهدافها على نحو أكثر وضوحًا، وحصرت الخلاف في شخص الأسد ونظامه، وهي مستعدة لبناء نظام علماني يخدم سياسة النظام الدولي، لأنها ما تزال تدور في فلك النظام الدولي، ولا تملك الجرأة الكافية للخروج من قيده، هذا القدر من التخاذل ينبغي أن يكون كافيًا لصناعة وعي الأمة بمآل الثورة السورية وجهادها ضد الباطنية من الداخل والصليبية من الخارج، وحين يختلف السرّاق؛ تنحسر التوافقات! ورجال الثورة معنيون بتوظيف هذا التدافع الكوني بين القوى العظمى لمصلحتهم، والاستعانة بالسنن بعضها على بعض، ما يتطلب وعيًا شرعيًّا وفقهًا بالسنن الكونية وطرق الإفادة منها على النحو المشروع، ولا يعني طول البلاء سوى اقتراب الفرج، لكن المقاييس الربانية مختلفة كليًّا عن حسابات البشر، وفي الثورة السورية من أسباب البقاء ما يجعلها غصة في نحور أعداء الأمة، ولا أعظم من تمايز الوعي بحقيقة المشروع الباطني، وسقوط أقنعة المقاومة والممانعة بعد عقود الكذب والتضليل، كما أن النفوذ الأمريكي أصبح واهنًا بعد تعثره في العراق، وكذلك الحال بإذن الله تعالى للروس في سوريا. هذه المحطات تستنزف القوى العظمى، ولا تخرج عن دائرة التأثير الكوني، والسير بها نحو سنّة التغيير والتراجع، ومن أدلة ذلك حجم التدخل المحدود، الذي يعطي قراءة واضحة لما عليه القوى العظمي من تذبذب قراراتها، وتضعضع قوتها ومحيط تأثيرها الإقليمي، ولذلك استدعت المليشيات والأحزاب المقاتلة للقتال عنها بالوكالة لحين يتطلب الأمر الدخول المباشر، ونستطيع القول إن التدخل الروسي ليس إلا بداية للعودة بالثورة من جديد، وزوال الكثير من المعوقات وتذليل الصعاب، وأهل الثغور أعلم الناس بواقع الأمر وإن بدا أنهم في محرقة التحالف الدولي فسنشهد توافقات دولية على الحلول السياسية مع بقاء النزاع السياسي حول مصالح القوى العظمي بسوريا، في الوقت الذي تشتد فيه شوكة الجهاد، وتنحسر موجة الغلو والتكفير، وتسقط رايات لطالما نادت بالثأر وضجت بالاستغاثة.

إننا معنيون أكثر من أي وقت مضى ببث روح الفأل والأمل، والأخذ بأسباب النجاة قبل فوات الأوان، ومن أوجب الواجبات نصرة المسلمين، ومدهم بالعون قدر الإمكان، فجاهد أهل الشام جهاد عن الأمة قاطبة، كلٌ على قدر مسؤوليته المنوطة به، ولا يستهان بالكلمة في زمن الحروب واشتداد الأزمات، فمن دون الوعي تموت القضية، ويذوب الناس في محرقة الأحداث.

:: مجلة البيان العدد  342 صـفــر 1437هـ، نوفمبر  2015م.

أعلى