• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الدور الايراني بعد انسحاب الامريكيين

الدور الايراني بعد انسحاب الامريكيين


سنوات سبع عجاف، قضتها القوات الأمريكية في العراق، كانت لإيران سماناً، وسبعة أشهر أمضتها « الديمقراطية العراقية » دون أن « تكتحل » عيناها برؤية رئيس وزراء عراقي تقبله إيران كما قال إياد علاوي الفائز غير المتوج في الانتخابات العراقية وتعتمده من بعدُ واشنطن.

تغطية سياسية وإعلامية (هذا الفشل السياسي العراقي في تشكيل حكومة) للانسحاب الجزئي الأمريكي من العراق، وقنبلة دخان تخطف الأضواء ريثما تخرج « ستايكر » آخر كتيبة مقاتلة غادرت العراق في جنح ظلام 19 من أغسطس الماضي قبل الموعد المحدد للانسحاب، تضم نحو 1200 من الجنود والمشاة على متن 360 مركبة مدرعة، ربما، أو في الغالب تعبير عن مأزق أفرزه الإخفاق الأمريكي، ونجاح إيراني في إبقاء النار تحت مرجل الخلافات العراقية - العراقية داخل البيت الشيعي إلى أجل لم يحن بعد.

وما بين وقفة زهو الرئيس السابق للولايات المتحدة يعلن أثناءها انتهاء العمليات القتالية الكبرى قبل سبع سنوات، وزفرة الألم المخبوءة خلف ستار قسمات وجه باراك أوباما الصارمة وهو يعلن انتهاء العمليات القتالية في العراق، ويفي بوعد انتخابي قطعه أمام أنصاره قبل عام ونصف العام بالانسحاب من العراق جزئياً الآن، وكلياً في منتصف العام المقبل؛ تبدو الخريطة قد تغيرت تماماً، والتحديات صارت بحجم المنطقة برمتها وليس العراق وحده صاحب التهديد المفترض سابقاً لـ (إسرائيل ).

تدفقت فرق الاحتلال في العام 2003 لمواجهة برنامج نووي محتمل ناشئ للعراق، وغادرت وهي على أعتاب الإعلان عن إنجاز أول سلاح نووي إيراني، تحمله صواريخ يمكنها أن تهدد قلب أوروبا الغربية لم تكن تتوفر لنظام صدام حسين بطبيعة الحال، لكن المغادرين قد يكونون اليوم أكثر اطمئناناً على أمن « إسرائيل »، أو مضطرين للخروج لمواجهة استحقاق آخر على الجانب الآخر من الحدود الإيرانية.

لا غرابة في أن تغادر الكتائب الأمريكية، إثر نزيف مالي أمريكي قدره الباحثان جوزيف ستيجليتز - أستاذ بجامعة كولومبيا وحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد 2001 -، و لندا بلمز - أستاذة السياسة العامة بجامعة هارفارد - بثلاثة تريليونات دولار قبل عامين، لا بل إنهما قد عادا الآن ليقولا إنه أكبر من ذلك بكثير [الباحثان التكلفة الحقيقية لحرب العراق خدمة واشنطن بوست الاتحاد الظبيانية 5 / 9 / 2010].

وآخر بشرى لقتلى وجرحى أمريكيين سقطوا في الحرب العراقية وسنوات الاحتلال تقدره مصادر المقاومة العراقية وفقاً لأرقامها بمواقعها بعشرات الآلاف، وتقدرها الولايات المتحدة أيضاً بعشرات الآلاف من الجرحى وأكثر من أربعة آلاف من القتلى.

الدَّين الفيدرالي الذي بلغ نحو 10 تريليونات دولار قبل الأزمة المالية العالمية، وفقاً للباحثَين، والإخفاق العسكري والسياسي، و (الفوضى غير الخلاقة) في العراق، والحاجة إلى تكثيف الوجود الاحتلالي للقوات الأمريكية في مناطق أخرى لاسيما في أفغانستان، كلها عوامل أسهمت في تسريع خطة الانسحاب الأمريكي الجزئي من العراق، لكنها لم تكن لتحمل الولايات المتحدة على التفريط في استراتيجيتها الخاصة بالمنطقة ولا في طريقة تعاطيها مع إيران؛ فالجنود الأمريكيون لم يحزموا حقائبهم مغادرين إلى مجمع فورت هود في تكساس (أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العالم )، وإنما عبروا أو رفقاؤهم إلى الجانب الآخر من الحدود الإيرانية، أي إلى أفغانستان وعلى ثلاث دفعات؛ حيث يشير بيان صادر عن البيت الأبيض في شهر أغسطس الفائت ونشره تقرير واشنطن في موقعه إلى أن « إجمالي عدد القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان بلغ في شهر يناير من العام الماضي 177 ألف جندي، منهم 144 ألفاً في العراق و33 ألفاً في أفغانستان، وسيبلغ عدد القوات الشهر القادم ما مجموعه 146 ألف جندي منهم 96 ألفاً في أفغانستان و50 ألفاً في العراق.

إضافة إلى تلك القوات يقوم 28 ألف أمريكي بدعم الوجود الأمريكي في العراق من خارج العراق في الكويت والخليج العربي، في حين يقدم 17 ألف جندي أمريكي خارج أفغانستان خدمات للقوات المتركزة داخل أفغانستان ».

أي أن معظم القوة الضاربة الأمريكية ليست بعيدة عن إيران ولا الخليج العربي في حقيقة الأمر، وهو ما يعني في ظاهره أن الوضع لم يتغير كثيراً بالنسبة إلى إيران، التي غادرت القوات الأمريكية من تخومها الغربية إلى الشرقية، لكن باطن الأمر لا يقود إلى إعادة النظر في رؤية منسوب الخطر وهو ينخفض على إيران أو أنه كان منخفضاً بالفعل بالنظر إلى النتائج الحقيقية على الأرض؛ فالحق أنه لم تعد ثمة أية دلائل تشير إلى أن إيران كانت أو سوف تبقى في دائرة التهديد الأمريكية إلا في خيالات بعض التقارير الغربية ونظيراتها العربية، والتي تثير ريبة متتبعيها أو شفقتهم في بعض الأحيان.

ووفقاً لهذه التقارير فإن الولايات المتحدة الأمريكية عندما تزيد عديد قواتها في العراق؛ فهي تمثل تهديداً جدياً لإيران، لاحتمال شنها حرباً برية واجتياحاً لمدنها الرئيسة وتعزز من فرص تغيير نظام حكم الملالي بالقوة، وعندما تنسحب غالبية قواتها من العراق فهي تفتح المجال لشن حرب جوية خاطفة على إيران!

وحينما تزيد قواتها في العراق فإنها تضعهم رهائن لدى الحرس الثوري الإيراني، أما حينما تقللها فإنها تبقى عاجزة عن تهديد إيران!

والنتيجة أن تلك التهويمات أو الذرائع التي تقدمها منظومة الإعلام الغربي وقاطراته البحثية الأمريكية لا تؤدي في النهاية إلا إلى إبقاء إيران في مأمن من إيقاف برنامجها النووي بالقوة وهو يغدو على أعتاب تحوله من الاستخدام السلمي إلى العسكري، كما أنها لا تحول دون مزيد من بسط إيران نفوذها متى تحسست فراغاً استراتيجياً حاصلاً في المنطقة، وهو ما بدأت إرهاصاته تتجلى مع التغييرات السياسية المتوقعة في الخليج على أرضية تغير موازين القوى لصالح الإيرانيين.

لقد ثارت تساؤلات كثيرة في الماضي حول مدى قدرة توقع واضعي الاستراتيجية الأمريكية في الخليج لما سوف تؤول إليه الأمور، وما إذا كانت واشنطن تدرك بالفعل أنها ستقدم خدمة جليلة لإيران باحتلالها للعراق وأفغانستان أو لا؟ أو أنها كانت مضطرة في حقيقة الأمر للتعاون مع طهران في احتلال العراق في العام 2003 بعد تواطئهما معاً في احتلال أفغانستان قبل ذلك بعامين وأنها استحسنت خيار التعاون في ترتيب أوضاع ما بعد الاحتلال أيضاً مع الإيرانيين أو أنها تغاضت بعمد أو جهالة عن إيجاد بدائل أخرى لا تضع طهران في صدارة المشهد الإقليمي هكذا، لكن الإجابة عن تلك التساؤلات برغم كونها كاشفة للمستقبل لن تضيف كثيراً للحاضر الذي ينبغي التعامل معه بجدية أكبر من دول المنطقة..

ودارت تكهنات عديدة حول ما قيل عن « الصفقة الكبرى » بين الأمريكيين والإيرانيين خلال السنوات الماضية، وتناولت مقايضة الملف النووي الإيراني غير السلمي بنفوذ أكبر لطهران في الخليج، أو دور أكبر في حكم العراق في مقابل تقليم أظافر « حزب الله » في لبنان، غير أن اللحظة كشفت عن صفقة بلا ثمن سوى تأمين « حدود إسرائيل »، وهو ما كان واقعاً أصلاً دون هذه الصفقة الصفرية.

لقد حيرت واشنطن الخبراء وهم يشاهدون هيلاري كلينتون تصرح قبل ساعات من وصول الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى نيويورك لحضور الاجتماع السنوي لقادة الدول في منظمة الأمم المتحدة، لشبكة أي بي سي نيوز الأميركية نهاية شهر سبتمبر الماضي: « آمل فقط أن تُبذل جهود داخل إيران من قبل قادة مدنيين ودينيين مسؤولين للسيطرة على أجهزة الدولة »؛ إذ بدت وزيرة الخارجية الأمريكية امرأة ضعيفة تتدثر بالأماني الحالمات مع بدء العد العكسي لدخول إيران إلى النادي النووي العسكري.

وكلينتون ليست بدعاً بطبيعة الحال في هدوء نبرتها حيال الإيرانيين؛ فقبل أسابيع عندما كان الوقود النووي يتدفق إلى مفاعل بوشهر مؤذناً باستحالة توجيه ضربة عسكرية أمريكية أو « إسرائيلية » إليه، برغم كونه في الوقت الراهن يعتمد على وقود نووي روسي؛ اقتصرت المواقف الأمريكية الرسمية على إقرارها بحق إيران في مباشرة برنامج نووي سلمي، بينما لم تتعد « الإسرائيلية » حدود ما قاله المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية يوسي ليفي في بيان بأن تزويد أول مفاعل نووي إيراني بالوقود أمر « غير مقبول على الإطلاق »، وكلينتون التي انتقدت نظام الحكم في إيران سرعان ما عادت إلى التذكير بأن باراك أوباما « مدّ يده بشكل غير مسبوق للقيادة الإيرانية.. لكنه من الواضح جداً أن الإيرانيين لا يريدون الانخراط معنا »، وهو ما لاقى رداً فورياً إيرانياً من نجاد بالقول: « أنا من بدأ الدعوة.. وهو لم يجب عن الرسالة.

أعلنت في الأمم المتحدة استعدادنا للمحادثات بوجود الآخرين.

ولم أتلق جواباً.

أطلقنا سراح (المعتقلة الأمريكية) سارة شورد، ولم نتلق حتى برقية من الولايات المتحدة حول ذلك ».

واشنطن و تل أبيب.. و لندن أيضاً، لم يعودوا مكترثين كثيراً فيما يبدو بتحول البرنامج النووي الإيراني إلى النطاق العسكري، ما داموا لم يقوموا بشيء يذكر لإيقاف هذا البرنامج، ويأتي تسليم البريطانيين القوات الأمنية العراقية الجنوب العراقي؛ حيث تنشط نخبة من قوات الحرس الثوري الإيراني، ثم انسحاب الأمريكيين في أحدث موجات الانسحاب الغربية من المدن وتسليمها لقوى الجيش العراقي البالغ عدده نحو 660 ألف جندي عراقي معظم قيادته العليا موالية لإيران، وقطاعاته الرئيسة من الميليشيات الشيعية التي تلقت تدريباتها في إيران أيضاً كمنظمة بدر وجيش المهدي وغيرهما، وكأي قوة احتلال تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى الانسحاب إلى ثكنات محدودة لا تثير شهية المقاومين والفدائيين لاستهدافها، وهي هذه المرة تنسحب مؤقتاً إلى 94 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة في ربوع العراق وفقاً لبيان الجيش الأمريكي، والاستعاضة عن وجودها بقوى محلية موالية لها، وهي لم تعدمها في قوات تدين بالولاء أساساً للإيرانيين، وهو ما يجسد بدوره رضا الأمريكيين عن إحلال الموالين لإيران الشيعية مكان الموالين للسنة أو للعرب في المنطقة كلها.

إننا إزاء مشهد مزدوج للتسليم للإيرانيين بالنفوذ في العراق في مسعى لإحلال حالة الاحتلال الأمريكي غير المباشر مكان الاحتلال المباشر، وهي حالة تجد نظائرها غير بعيدة من العراق ذاته، وفي الوقت عينه غض الطرف عن الأنشطة النووية التي تقود جملة من المعطيات (ليس هنا محلها) لأنها بصدد التحول إلى النسخة العسكرية من المشروع النووي الإيراني.

تريد الولايات المتحدة أن تنسحب إلى القواعد العسكرية، التي تنتشر مثيلاتها في بعض دول الخليج العربي وهي تدرك أن الفراغ الذي تتركه سيملؤه الإيرانيون، مكتفية فقط بتحجيم القوة الإيرانية أو بالأحرى ضمان عدم خروجها عن الفلك الأمريكي، وهي في سبيلها تسمح بقدر معقول من النفوذ الإيراني في دول الخليج، وقد لا تجد نفسها بحاجة إلى التصدي بقوة إلى طموحات إيرانية أو أطماع في دول الخليج المجاورة.

وتقوم إيران في المقابل بعملية تقدير موقف محسوبة، واختبار نوايا للأمريكيين من خلال عدة آليات تبادر الآن إلى ممارساتها على مقربة من بعض القواعد الأمريكية خارج العراق، وهي قد أجرت قبل الانسحاب الأمريكي أكبر مناورة لاختبار النوايا على صغرها كشفت بجلاء عن زهد الولايات المتحدة في لجم أنشطة الإيرانيين في التدخل المباشر في شؤون الجيران؛ فقبل تسعة أشهر كان العسكريون الإيرانيون يرفعون علمهم فوق حقل الفكة العراقي على الجانب الآخر من حدود بلادهم مع العراق، وتحديداً في محافظة ميسان العراقية، بينما لم يزد رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الأدميرال مايك مولن عن القول من بغداد بأنه « قلق بشأن التوغل العسكري الإيراني في الأراضي العراقية، وقد كنت على اتصال بوزير الدفاع العراقي، لكن حل المشكلة متروك للقادة العراقيين والإيرانيين ».

كانت حادثة الفكة نموذجاً لما سوف تقوم به حيال التدخلات الإيرانية وتحرشاتها بدول الجوار، وهذا بدوره أرسل رسالة بالغة السوء إلى حلفائها في الخليج العربي، لاسيما أن وضع العراق بعد الانسحاب الجزئي سيمضي بطريقه ليتشابه مع بعض الدول الخليجية الصغيرة التي تضم مقرات للأسطول الأمريكي أو قواعد جوية وبرية كبيرة في أراضيها بينما لا يحول ذلك ورؤية أتباع الملالي الإيرانيين في دول الخليج يثيرون المشكلات السياسية والاجتماعية بوتائر متسارعة ومتزامنة باحتراف بارع.

سلسلة من التصريحات الإيرانية عن الخليج الفارسي وإجراءات تضمن شيئاً فشيئاً الطرق على مسامع الجيران للتسليم بـ (فارسيته) التي لها دلالات أكبر بكثير من مجرد التسمية والنبش في الماضي، ليس أقلها منع الخطوط الجوية من استخدام لفظ « الخليج العربي » في وسائلها التوضيحية والإرشادية على الأراضي أو في الأجواء الإيرانية، غير أن الأهم من عمليات جس النبض التي تبدأ من تهديدات « الخونة » و « المتآمرين » في الخليج، وهي مصطلحات صكت للدلالة عن الأنظمة والشعوب الخليجية السنية، ولا تنتهي عند حد تحريك الميليشيات التخريبية لتخلق فتنة داخلية وفوضى يجري تدريب التخريبيين عليها من خلال نماذج محدودة في البحرين حالياً.

لقد ظلت الولايات المتحدة تتعامل مع إيران على كونها دولة يمكنها أن توفر الفزاعة التي تغذي مخاوف الدول الخليجية الصغيرة وتدفعهم إلى الارتماء في أحضان الأمريكيين، لكن الحال قد تغيرت قليلاً باتجاه أكثر إيجابية مع الإيرانيين، الذين ربما سيسمح الانسحاب الأمريكي الجزئي من العراق وتنفيذ بنود الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق، والتي كانت إيران هي الطرف الذي أمسك القلم حقيقة ووقع بديلاً عن العراقيين في تلك الاتفاقية التي تضمن « حقوقاً » ضمنية لواشنطن في العراق، كما أنها كانت ترفع اليد الأخرى بالموافقة في مجلس الوزراء العراقي الذي تهيمن عليه تقريباً لإقرار قانون النفط الذي أعاد النفوذ السابق لشركات النفط الأجنبية (الإمبريالية بالطبع) والتي تموضعت في الأماكن عينها، ولم تخطئ أقدامها تلك المواقع قيد أنملة، التي كانت عليها في ستينيات القرن الماضي قبل أن يؤمم نظام صدام حسين صناعة النفط العراقية ويجعلها وطنية يعود ريع نشاطاتها على جهود التنمية (وقد كانت تلك إحدى خطاياه التي لم تغتفر أبداً ).

على أن الولايات المتحدة دفعت فاتورة الدم ثمناً لاحتلالها للعراق، بينما الإيرانيون لم يدفعوا، وبقيت الجهود الأمريكية على الأصعدة كافة تصب في خانة طهران، بينما تقود معطيات اللحظة التي تلت الانسحاب الأمريكي إلى إفادة واسعة النطاق للإيرانيين إلى جانب مكاسب محدودة لواشنطن، إلا أن ثمة تحديات تواجه النظام الإيراني سواء كان في الداخل العراقي أو خارجه.

ويبدو أحد تلك التحديات في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي في المزاج العام الذي خلفته سني الاحتلالين الأمريكي والإيراني للعراق؛ فحالة الاحتقان التي يعيشها العراقيون لا تقتصر في جوهرها على سنة العراق، الخاسر الأكبر، في عملية الغزو وما تلاها، فشيعته أيضاً يشعرون بالقهر الإيراني على أكثر من صعيد، وجنوب العراق كما العاصمة التي تعاني نقصاً متكرراً في الكهرباء وشحاً في المياه النظيفة وسرقة مئات المليارات التي كان يفترض أن توفرها الخزينة العراقية على شكل خدمات وتنمية وتوفير فرص عمل للطبقة المتوسطة (التي اختفت تماماً في العراق طبقاً لمصادر عراقية متطابقة )، ومواجهة للبطالة التي بلغت نحو 30% من القادرين على العمل.

سيحاول الإيرانيون والأمريكيون بدرجة أدنى سحب البساط من تحت أقدام المقاومة العراقية التي تغذيها تلك الروافد، وتحفزها القدرة التدريبية المتواضعة للقوات النظامية العراقية، والانقسام الطائفي ذاته داخل فرق الجيش العراقي وقواه الأمنية المختلفة، وسيسعون بعد الانسحاب إلى تنميط الوضع العراقي ليتشابه مع دول الخليج العربية الصغيرة باعتبار أن وضع العراق لم يعد الآن يعدو كونه « دولة خليجية مستقلة تقيم الولايات المتحدة الأمريكية عدداً من القواعد العسكرية على أراضيها وفاءً لاتفاقات أمنية سيادية ».

وسيطمئن الإيرانيون فيما يُتوقع أتباعهم الطائفيين في العراق، وسيرسلون رسائل تهدئة للغالبية السنية بغية امتصاص حوافز المقاومة العراقية وضماناً لعدم نجاح الأخيرة في حشد أنصار جدد، كما سينعكس ذلك على المحيط الخارجي سعياً خلف ترسيخ وضع النظام العراقي الجديد وتسويقه عربياً، خصوصاً أن الحكومة العراقية الحالية تحشد جهودها كلها من أجل استضافة « القمة العربية » ببغداد في شهر مارس القادم.

سيناريوهات عديدة في الحقيقة لم تزل مطروحة لمرحلة ما بعد الانسحاب الجزئي من العراق تتنوع ما بين الفوضى والحرب الأهلية اللتين لجمتا إلى حد ما خلال السنوات الثلاث الماضية قياساً بما يُسمى بالسنوات السوداء في العراق (2005 - 2007 )، التي شهدت أعلى منسوب للعنف الطائفي، وعمليات المقاومة، والاحتراب بين الصحوات والميليشيات وفصائل المقاومة بدرجات متفاوتة، والاستقرار والتقسيم والتحالف ما بين العراق وإيران وتركيا، وربما الاندماج كلية بين إيران والعراق، لكن الأكيد في ذلك كله أن إيران ستسعى لملء الفراغ الاستراتيجي الذي ستتركه الولايات المتحدة في العراق، وربما وجدت فرصة أكبر لإرسال مزيد من خبراء الحرس الثوري الإيراني تحت غطاء آخر إلى العراق.

والتداعيات التي تعقب الانسحاب الأمريكي الجزئي من العراق، أو الاستحقاقات التي ستوفرها للإيرانيين في أعقابه ستفي لهم بدور أكبر في المنطقة بلا شك، وستؤثر في أكثر من ملف ساكن في المحيط الخليجي والدائرة الأوسع منه كذلك، فالبحرين على سبيل المثال، والتي تشهد انتخابات نيابية الشهر الحالي، سادتها أعمال عنف في الفترة الماضية ومحاولات اغتيال لصحفيين وقادة أمنيين من الغالبية السنية وتظاهرات شيعية في أكثر من منطقة للضغط على الحكومة التي تنتمي إلى الأكثرية الدينية من أجل حصة أكبر من المشاركة الشيعية في الحكم، وشهدت العاصمة الأمريكية مظاهرة أمام سفارة دولة خليجية أخرى تطالب بإقامة ما يُسمى بـ( البحرين الكبرى )، وهي الدولة الشيعية التي تطالب بها طائفة من الأقلية الشيعية في الخليج العربي، والتي ستكون البحرين الحالية نواة لها وفقاً لأدبيات تلك الطائفة، وهي مطالبات عززها مقال شريعتمداري ممثل المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي في صحيفة كيهان الإيرانية وثيقة الصلة بالاستخبارات الإيرانية قبل ثلاث سنوات عن البحرين ك (محافظة إيرانية )، وعاود للتذكير بها قبل أقل من عامين عندما قال معلقاً على زيارة نجاد للبحرين: « من وجهة نظري فإنه يجب اعتبار هذه الزيارة بأنها إحدى جولات الرئيس أحمدي نجاد على المحافظات ».

ووثقتها خريطة حدود الدم التي كشف عنها أو رسمها رالف بيترز الضابط المتقاعد من الجيش الأمريكي والمؤلف والمحلل الاستراتيجي في شبكة فوكس التليفزيونية اليمينية، وصاحب الدراسة الشهيرة في مجلة ارمد فورسز جورنال في يونيو 2006، التي « بشرت » بالحدود الجديدة التي تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن ترى العالم الإسلامي عليها، وفيها نجد دولاً خليجية صغيرة قد اختفت وأخرى تقلصت لحساب « دولة شيعية عربية كبرى »، والبحرين لا ينظر إليها بوصفها مملكة صغيرة في الخليج العربي فحسب، بل إحدى القواعد المهمة والمحتملة للوجود الإيراني الذي تطمح إليه وتطمع فيه في الشاطئ الآخر من الخليج.

وإذا كانت الاستراتيجية البريطانية في سنوات « الاستعمار » قد تواطأت مع الإيرانيين لاحتلال إمارة الأحواز العربية في العام 1925، وساهمت في الحيلة التي دبرتها مع الإيرانيين لاختطاف الشيخ خزعل أمير الإمارة أثناء حفلة بحرية حضرها الجنرال الإيراني زاهدي برغم « تمتع » خزعل وإمارته بالحماية البريطانية؛ فإن وريثتها الأمريكية لن تتورع كثيراً في التلويح للخليجيين باحتمال تكرار مثل هذا النموذج، ولعل اللافت في أحداث البحرين الأخيرة أن سلطاتها عندما أرادت أن تضع حداً للعمليات التخريبية في البلاد واعتقلت بعض المتهمين، سرعان ما هرعت منظمة « هيومان رايتس ووتش » الحقوقية، إحدى المنظمات العاملة وفق أجندة الاستراتيجية الأمريكية (ومن المفيد التذكير بدورها في دارفور وغيرها هنا )، لمطالبة السلطات وبإلحاح بالإفراج عن « المعتقلين من المعارضة البحرينية » في وقت تعامت عن كل انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة العربية وداخل الدولة الإيرانية أيضاً.

الخليج إذن تحت عدسة مخططي ما بعد الانسحاب الأمريكي سواء كان ذلك في طهران أو واشنطن، لكن ثمة دول أخرى لا تقل أهمية عن الخليج ستدخل ضمن دائرة التغيير في تلك المرحلة، وستكون إيران جاهزة بكل تأكيد للمعاونة أو الحلول محل الأمريكيين بعد أن لمست من خلال عدة اختبارات نوايا وقوة قدرة الأمريكيين على الممانعة، أي سواء كانت استغلالاً لفراغ استراتيجي يحدثه الانسحاب الأمريكي، المعبر بقوة عن هشاشة الوضع العسكري الأمريكي، والذي يرفده تصريحات أمريكية عسكرية خافتة بعدم جاهزية القوات الأمريكية للانخراط في حرب قبل عام ونصف العام من الآن (أي قبل الإعلان عن امتلاك الإيرانيين لسلاح نووي بحسب غاري سيمور كبير مستشاري الرئيس أوباما بشأن القضايا النووية والذي قال في أغسطس الماضي: « نعتقد أن الأمر قد يستغرق عاماً لتحقيق إنجاز كبير (..) والعام فترة زمنية طويلة للغاية »!!، وذلك في إشارة إلى الفترة التي سيستغرقها الإيرانيون لتحويل مواد نووية إلى سلاح فاعل ).

نعود إلى يدي أوباما ونجاد الممدودتين لبعضهما واللتين تحدث عنهما الرئيس الإيراني ووزيرة الخارجية الأمريكية؛ لأنهما قد يعنيان أن مرحلة جديدة في العلاقات قد تكون على وشك أن تفتح، ولنأخذ مثلاً أفغانستان، ذلك البلد العصي على التركيع، فبعد عقد من الزمان لم يعد في جعبة الأمريكيين الكثير من أجل إطاحة طموحات طالبان في العودة للحكم في أفغانستان، وإذا كان دخول القوات الأمريكية إلى العراق قد أذن بتغول النفوذ الإيراني فيه؛ فإن مضاعفة عديد القوات الأمريكية في أفغانستان قد ينعش شهية الإيرانيين إلى مد يد العون للأمريكيين طمعاً في حضور أكبر لحزب « الوحدة » الشيعي المقرب من طهران في الحكم الأفغاني، والعمل على تكرار النموذج اللبناني فيه؛ حيث يبقى هو الآخر علامة على مكتسبات ما قبل وما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق (قضية جميل السيد نموذج صارخ على ذلك ).

باكستان التي تتعزز علاقتها بطهران كل يوم مع وجود سلطة متصالحة مع الإيرانيين في إسلام أباد ستتطلع إيران لإقامة علاقات أكثر دفئاً معها في ظل علاقات عسكرية أمريكية / باكستانية تبدو بطريقها إلى الدخول في نفق مظلم.

 سورية التي تلاشى عنها خطر التهديد الذي بدا جلياً في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، والذي جعل قطاعات عسكرية أمريكية تقف على الحدود الشرقية لسورية؛ لن تكون أبداً في وارد إعادة النظر في علاقاتها المتميزة مع طهران لاسيما أن أنظار الإيرانيين والسوريين بدأت تتطلع إلى تركيا لتشكيل محور إقليمي يمكنه أن يلعب دوراً في مرحلة ما بعد الوجود العسكري الأمريكي المباشر في المنطقة.

المحيط الإقليمي كله سيتأثر بالانسحاب الأمريكي الجزئي من العراق، وفي قلبه يبدو اللاعب الإيراني واثقاً من جريان المياه في جداوله هو كأكثر المستفيدين من مجيء الأمريكيين، وأكثرهم كذلك من رحيلهم الجزئي.

يبقى أخيراً من المفيد أن نقول: إنه حتى على الصعيد الأيديولوجي البحت بدأت إرهاصات التغيير الذي يؤذن بدور إيراني جديد في المنطقة؛ ففي حين يلاحظ خبراء في الشأن الطائفي « التبشيري » ارتفاع نبرة المصارحة الطائفية في التعاطي مع بعض القضايا التي كان الملالي الإيرانيون والعرب يتجنبون إثارتها عملاً بآلية التقية الطائفية، وتراجع استخدام تلك الآلية؛ فإنهم بدؤوا يرصدون في مقابل ذلك تراجعاً في تلك المكاشفة بأصول وقواعد الطائفة الصادمة لعموم المسلمين، وفاء للمرحلة القادمة بما تتطلبه، لاسيما حين تبدو حادثة عبارات الداعية الشيعي ياسر الحبيب لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بما نجمت عنه من إدانات غير مسبوقة من مراجع شيعية رأتها ظاهراً « إساءة لأم المؤمنين » واستسلمت بالتبعية لقرار الكويت بسحب الجنسية عنه، عنواناً لرغبة إيرانية حثيثة في لجم الأيديولوجيا قليلاً لحساب السياسة التي بدورها تشهد نشاطاً غير مسبوق، وستكون الأيديولوجيا لاحقاً خادمة للتمدد الإيراني البراجماتي وليست هدفاً له.

:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)

أعلى