• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الحلقات القرآنية والتربية بالـ "مثاني"

الحلقات القرآنية والتربية بالـ "مثاني"

الحلقات والمؤسسات القرآنية قدمت نموذجاً رائعاً في العالم الإسلامي في استنقاذ الأجيال من مخالب الاستعمار الثقافي والفكري؛ وذلك حين أعادت كتاب الله العزيز إلى اهتمامات الأطفال والشباب من خلال حلقات القرآن الكريم المنتشرة طولاً وعرضاً.

وهو جهد عظيم مشكور.. لكن واقع الممارسة التعليمية في كثير منها بحاجة إلى مزيد تأصيل وتنظير للارتقاء بأداء العملية التعليمية داخل هذه الحلقات والمؤسسات القرآنية.

وفيما يلي عرض لمنهجية الـ«مثاني» مستمدة من كتاب الله تعالى وتطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم لها هو وأصحابه.

«كتاباً متشابهاً مثاني»

يقول المولى الكريم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

«مثاني»!!

ما معنى «مثاني»؟

قال الراغب الأصفهاني: الثِني والاثنان أصلٌ لتصرفات هذه الكلمة. ويقال ذلك باعتبار العدد، أو باعتبار التكرير الموجود فيه، أو باعتبارهما معاً[1].

وقال الطاهر ابن عاشور: «مثاني» يطلق على معنى التكرير، كُني عن معنى التكرير بمادة التثنية لأن التثنية أول مراتب التكرير، كما كني بصيغة التثنية عن التكرير في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: ٤][2].

هذا تحليل لغوي لكلمة «مثاني» من الراغب وابن عاشور. فماذا قال أئمة التفسير في معناها والمراد منها؟

قال ابن عباس والسدي: كتاب الله مثاني، ثنى فيه الأمر مراراً، وقال السدي أيضاً: «مثاني» ثنى في غير مكان.

وقال ابن زيد: مردّد؛ ردّد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء في أمكنة كثيرة[3].

قال الضحاك: «مثاني» ترديد القول، ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى[4].

مما سبق من أقوال المفسرين يتضح أن لفظة «مثاني» تدل على التكرار، أي تكرار الأمر في أكثر من موضع، وأياً كان هذا الأمر، سواء كان حكماً تكليفياً، أو خبراً، أو توجيهاً، بغرض الإفهام وإبلاغ الرسالة المقصودة. وهذا يقتضي أن الـ«مثاني» تعني شيئين متلازمين: التكرار، والإفهام.

لو طبقنا ذلك على العديد من الموضوعات القرآنية، لوجدنا أنها – في عمومها – تتكرر متخذة أساليب متنوعة وطرائق مختلفة، بغرض التأكيد والإقناع والإفهام. وبهذا التكرار وذلك التنوع أثنى الله على كتابه العزيز فقال عنه: {أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ} [الزمر: 23]، ومن حسنه وجماله وإحكام نظمه وإتقان سرده أن يكون «مثاني»، تكرر فيه القصص والأحكام والحدود.. هذا أمر أخفقت القوانين الوضعية والنظم الاصطلاحية والدساتير في مجاراة القرآن الكريم فيه أو الاقتباس منه.

القرآن الكريم لا ينطق بالحكم مرة واحدة كنص مادة في لائحة تنظيمية أو جزائية. كلا! إنه يتكرر وبأشكال مختلفة. إنه في سورة ينطق بالحكم مرة، وفي سورة أخرى ينطق ثانية، وفي سورة ثالثة ينطق ثالثة، وفي سورة رابعة يضمّن الحكم في كلام عام.. وهكذا.

والحكمة من ذلك – والله أعلم – أن القرآن حين يبين حكم الله فإنه يلتفت إلى هذه الطبيعة البشرية الضعيفة والمرهفة، فيخاطب فيها الوجدان ويحرك الضمير ويتفاعل مع المشاعر، بينما تلك القوانين تخاطب الإنسان، لا على أنه إنسان، بل على أنه جماد.. مادة صُلبة مفرغة من الروح والمشاعر.

قال ابن عاشور: وهذا يتضمن امتناناً على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبل. ويتضمن أيضاً تنبيهاً على ناحية من نواحي إعجازه، وهي عدم الملل من سماعه وأنه كلما تكرر غرض من أغراضه زاده تكراره قبولاً وحلاوة في نفوس السامعين[5].

تطبيق على الـ«مثاني»

تأمل قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْـمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].

الحكم الشرعي الصريح هنا: تحريم أكل الربا.

لكن هذا الحكم المُحكم جاء ضمن خطابٍ موجه إلى الوجدان وحديثٍ مع العقل وحديثٍ مع المشاعر.. الأمر الذي يجعل المؤمن الصادق يبتعد – متحرياً في ذلك، قدر الإمكان – عن أكل الربا والطرق الموصلة إليه.. في وقت زعموا أن الربا ضرورة اقتصادية!

كل شيء حولك يدعوك إلى اليسير والكثير من الربا.. البنوك تلاحقك وتغريك.. لكن ضميرك ووجدانك يمنعانك من أكل الربا.

القرآن الكريم تعرّض لهذا الحكم في غير موضع:

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]، ففي هذه الآية مقارنة بين الربا والصدقات من وجه، وهي عملية نقدية تخاطب العقل.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 278 فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279]، وهذه الآية فيها أمر صريح بالترك، مصحوب بالأمر بتقوى الله، والتهديد في حال ترك الامتثال لأمر الله ونهيه بحرب الله تعالى، وهذا خطاب وجداني تكاد القلوب تنفلق من هيبته. كما أوضحت الآية جواباً على سؤال مفترض وهو: لو تبنا يا ربنا فكيف نفعل بأموالنا؟ وهي خطاب للعقل بإيضاح الإجراء المناسب في حال تاب العبد من الربا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 130 وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ 131 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 130-131]، اشتملت هذه الآيات على نهي صريح عن أكل الربا، وساندته بخطاب وجداني يتحدث عن النار ورحمة الله بمن أطاعه ورسوله ووعدت بالفلاح لمن اتقى الله.

كل هذا الحشد من النصوص غرضه الأخير: مجانبة الربا، ولكن لحاجة هذا الإنسان إلى الاقتناع من داخل عقله وضميره جاءت بهذا الشكل، ويمكنك تطبيق ذلك على كل الموضوعات التي عالجها القرآن، كالإيمان باليوم الآخر، والتعامل مع المخطئين.. على سبيل المثال.

قال ابن سعدي رحمه الله: لما علم الله احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب، المكملة للأخلاق، وأن تلك المعاني للقلوب بمنزلة الماء لسقي الأشجار، فكما أن الأشجار كلما بَعُد عهدُها بسقي الماء نقصت، بل ربما تلفت، وكلما تكرر سقيها حسنت، وأثمرت أنواع الثمار النافعة، فكذلك القلب يحتاج دائماً إلى تكرر معاني كلام الله تعالى عليه، وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن، لم يقع منه موقعاً تحصل النتيجة منه[6].

العلامة ابن سعدي رحمه الله يركز هنا على الحاجة إلى المعاني، ثم هو يشير إلى أهمية تكرار هذه المعاني، لتحقيق هدفٍ تربوي.

منهجية الـ«مثاني» تربي الضمير والوجدان

النص القرآني يربي في الإنسان: الضمير والوجدان، ويضيئهما بنوره ويجعلهما حاكماً على تصرفاته، وبالتالي لا يكون الإنسان بحاجة إلى الرقيب الخارجي أو إلى تلك النظم الكثيرة التفاصيل لكي تحد من مخالفاته.. هكذا يربي القرآن الكريم المؤمنين ويجعل كل فرد منهم قرءاناً يمشي على الأرض. إن من أهم النتائج التي ينبغي التنبه لها: أن القرآن الكريم يسلك مسلك التكرار، المتنوع الأساليب، ليحصل المقصود منه، وهو تربية النفس الإنسانية على ما يريده الله تعالى {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْـحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: ٥].

ويمكن تلخيص أغراض الـ«مثاني» بقول الضحاك بن مزاحم: ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى.

وحين نتحدث عن «تربية الطلاب على كتاب الله تعالى» فنحن نتحدث عن ثلاثة أشياء: الطلاب، وكتاب الله، والتربية على معاني كتاب الله، ولا يمكن أن تتفاعل هذه الأشياء الثلاثة لتخريج قرّاء يفهون مراد الله من كتابه ويعملون به إلا بوسيط يعرف الكتاب ومعانيه، ويقوم بتربية الطلاب عليه.. ذلكم هو معلم القرآن.

مُقرئ مُربٍّ

مع كون هذا القرآن الكريم نزل من عند الله، والله قادرٌ على أن يجعل كتابه مربياً بذاته، كما قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْـجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّـمَ بِهِ الْـمَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، ومع كونه نزل بلغة العرب، يخاطبهم وهم في أوج فصاحتهم، ومع كونه «مثاني»، من طبيعته التكرار والإفهام ومراعاة النفس الإنسانية، ومخاطبة الوجدان والضمير.. مع ذلك كله، إلا أنّ الله تبارك وتعالى جعل في الناس رجلاً منهم يقوم بمهمة التربية على هذا القرآن {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، أما الآية الثالثة فهي تفيد ثلاث وظائف لهذا الذي يعلم الناس ما أنزل الله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ} [الجمعة: ٢]،  الأولى: الإقراء، الثانية: التزكية والتربية، الثالثة: تعليم الأحكام.

ولو استدعينا المثال التطبيقي على الـ«مثاني» في هذا المكان لوجدنا أن المعلم هو من يقوم بمنهجية الـ«مثاني» فيُقرئ ويربي ويعلّم: يقوم بحشد النصوص الموجهة للمفاهيم ويستخرج من كل نص فيها ما يريده الله، ويتعلم من القرآن التنوع والتكرار في غرس المفاهيم.

إن إقراء كتاب الله تعالى وترك التربية على معانيه وأحكامه: خلل منهجي، ومخالفة لناموس القرآن «مثاني»، وابتعادٌ عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في تعليمهم وتعلمهم للقرآن الكريم (يتلو – يزكي – يعلّم).

إن إقراء القرآن الكريم والتربية عليه، وإن كانا أمرين يختلف أحدهما عن الآخر، إلا أنه يجب الإقران والجمع بينهما، ولا يكون ذلك إلا من خلال مقرئ يمارس الدور التربوي.

تفاضل في الفهم والرسوخ

لا يستوي التلاميذ والمتعلمون بعد وقوع التربية عليهم في التلقي والاستجابة والتأثر والانتفاع، وهذا أمر طبيعي.

وليس شرطاً من قيام عملٍ تربوي قائم على كتاب الله تعالى أن يكون الجميع في مستوى واحد، أو مستوى متوقع. ولقد كان الرعيل الأول كذلك، بالرغم من نزول القرآن بين ظهرانيهم، ومع أن الذي قام بتربيتهم عليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم متفاضلون في مستويات وطبقات حسب رسوخ معاني القرآن وأحكامه في قلوبهم، فسيدهم أبو بكر خير رجل طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء عليهم السلام، ثم سائر الخلفاء الراشدين على التوالي، ثم سائر العشرة المبشرين بالجنة، والبدريون وأصحاب بيعة الرضوان.. هذا هو قانون التربية على القرآن.

ولذلك نبّه القرآن الكريم على هذا الأمر، ففي السياق  ذاته لقوله تعالى «مثاني» قال سبحانه:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر: 21].

قال ابن عاشور: إنزال الماء من السماء تشبيهٌ لإنزال القرآن لإحياء القلوب، وإسلاك الماء ينابيع في الأرض تشبيه لتبليغ القرآن للناس، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طيّب وغيره، ونافع وضار، وهياج الزرع تشبيه لتكاثر المؤمنين بين المشركين.

وقريب من تمثيل هذه الآية ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به»[7].

وقال القرطبي في أحد الأقوال في {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [الزمر: 21] : أي ديناً مختلفاً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع[8].

الـ«مثاني» منهج تربوي

الـ«مثاني» بما تحويه من إيضاح المفهوم وتكراره بطرق مختلفة وبما تحتاجه من معلم مقرئ مربّ، وبما ينتج عنها من قرّاء متفاوتين: منهجية تربوية، تلزم معلم القرآن الكريم في الحلقات القرآنية وغيرها من المؤسسات التي تعلّم القرآن الكريم، وهذه المنهجية في تعليم القرآن الكريم هي التي كان يتبعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرتهم التعليمية.

لم يكن إقراء القرآن بدون الإفهام والتكرار والتربية عليه أمراً متّبَعاً عند الصحابة رضي الله عنهم، بل هو أمرٌ طارئ وحادث، وقد مرّ معنا في الحديث عن حلقات ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما شيء من ذلك، قال الإمام المقرئ أبو عبدالرحمن السلمي: أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانو إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهنّ إلى العشر الأُخر حتى يتعلموا ما فيهن، فكنّا نتعلم العلم والعمل به. وسيرثُ بعدنا قومٌ يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم[9].

قال ابن تيمية رحمه الله:

وأما التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين، فذلك إنما قبلوه لأنهم قد علموا أن الصحابة بلّغوا عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعانيه جميعاً، كما ثبت ذلك عنهم، مع أن هذا مما يعلم بالضرورة من عاداتهم، فإن الرجل لو صنف كتاب علم في طب أو حساب أو غير ذلك وحفظه تلامذته لكان يعلم بالاضطرار أن هممهم تشوّق إلى فهم كلامه ومعرفة مراده، وإن بمجرد حفظ الحروف لا تكتفي به القلوب، فكيف بكتاب الله الذي أمر ببيانه لهم، وهو عصمتهم وهداهم وبه فرَق الله بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي، وقد أمرهم بالإيمان بما أخبر به فيه والعمل بما فيه، وهم يتلقونه شيئاً بعد شيء، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء: 106]. وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم ولا ما يقرؤونه ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول ولا يسألونه عن ذلك ولا يبتدئ هو بيانه لهم؟! هذا مما يعلم بطلانه أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله[10].

وهذه المنهجية – أعني الـ«مثاني» – تقتضي الظرف الزماني الطويل في حفظ القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه، وعلى الحلقات والمؤسسات القرآنية اليوم أن تلتفت إلى هذا الأمر وأن تنسّق جهودها التعليمية القرآنية مستضيئة بما كان عليه سلف الأمة، يقول د. محمد لطفي الصباغ في تحليله لرسالة ابن تيمية في أصول التفسير:

يبدأ ابن تيمية في رسالته القيّمة في أصول التفسير بفصل يعالج موضوعاً مهماً من موضوعات هذا العلم وهو «تدبر القرآن وكيفية دراسته». وينبّه إلى أن تدبر القرآن ودراسته ينبغي أن يختلف عن دراسة غيره من الكتب البشرية، ذلك لأن هذا الكتاب إنما أنزل ليعمل به الناس وليحكم حياة المسلمين. والعمل به مفتقر إلى فهمه وتدبره.

وذكر ابن تيمية رحمه الله أن السلف الصالح كانوا يسيرون على هذا المنهج: كانوا يتدبرون القرآن ويفهمونه، مستعينين بتبيين النبي صلى الله عليه وسلم الذي بيّن لفظه ومعناه لهم، وأنهم كانوا يعملون به.. وأورد تلك الآثار المشهورة.. من أن الصحابة من أمثال عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبدالله بن مسعود رضي الله عنه وغيرهما كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات يتوقفون فلا يجاوزونها إلى غيرها حتى يعملوا، فتعلموا القرآن علماً وعملاً جميعاً.

وهذا يفسّر لنا الأخبار التي تذكر بقاء أحدهم مدة طويلة في حفظ سورة من سوره، فابن عمر رضي الله عنهما يبقى ثماني سنين في حفظ سورة البقرة.

هذا أمر طبيعي جداً، لكن المسلمين في العصور التي تلت عصر الصحابة لم يقوموا بهذا التدبر، ولعلّ السبب الأهمّ في هذا هو أنهم تركوا منهج الصحابة في قرن العلم بالعمل، بل أصبح من يدرس القرآن منهم يدرسه على أنه كتاب ثقافة فيها الفقه والنحو والكلام وما إلى ذلك.. وما كان الناس مستعدين لدراسة هذه العلوم ولم يُطلب من الناس كلهم ذلك، بينما نزل القرآن للعمل، ومطلوب من الناس كلهم أن يعملوا به[11].

من خلال مناقشتنا لمنهجية الـ«مثاني» يمكننا تلخيص طريقة الصحابة في حفظ القرآن وتعليمه في ثلاث نقاط على التوالي:

التؤدة في الحفظ والتعليم وعدم الاستعجال.

أن تقرن الحفظ بالفهم.

أن تقرن الفهم بالعمل.

وكأن العلامة القاري يستدرك على مفهوم خاطئ في تعلّم القرآن وتعليمه، فقال في المرقاة في شرحه لحديث «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه»[12]: ولا يتوهم أن العمل خارج عنهما لأن العلم إذا لم يكن مورثاً للعمل ليس علماً في الشريعة، إذ أجمعوا على أن من عصى الله فهو جاهل[13].

ختاماً.. أدعو رواد حلقات القرآن الكريم والمؤسسات القرآنية أن تتبنى منهجية الـ«مثاني» في مسيرتها التعليمية، وأن تبني إشرافها التعليمي على هذا الأساس، فإنها منهجية أصيلة، والعمل على إحيائها من التجديد المحمود والمطلوب، لاسيما في عصرنا هذا الذي وفدت علينا فيه ثقافات تربوية متعددة. وبالله التوفيق.

:: مجلة البيان العدد  330 صفر  1436هـ، نوفمبر  2014م.


[1] معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص92.

[2] تفسير التحرير والتنوير، 23/386.

[3] جامع البيان للطبري، 23/210.

[4] تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 4/66.

[5] تفسير التحرير والتنوير، 23/387.

[6] تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص669.

[7] تفسير التحرير والتنوير، 23/376. والحديث أخرجه البخاري 1/45 حديث رقم 79.

[8] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 15/160.

[9] سير أعلام النبلاء، 4/269.

[10] بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد، ص330.

[11] بحوث في أصول التفسير، د. محمد لطفي الصباغ، ص83.

[12] أخرجه البخاري، 3/346 رقم 5207.

[13] نقله في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، 8/179.

 

أعلى