هل كتبت " الاناجيل " باليونانية ؟

هل كتبت " الاناجيل " باليونانية ؟

  ترددتُ كثيراً في الكتابة حول هذا الموضوع لما يستدعيه من تفصيل قد ينوء بغير المهتمين به. لكنني لمَّا رأيت كثيراً من الدعاة إلى الإسلام في أوساط أهل الكتاب قد توهم صواب ما يزعمه علماء النصارى الغربيون من أن عيسى - عليه السلام - كان يتحدث اليونانية مع حوارييه وأن كُتَّاب أسفار العهد الجديد كتبوها باليونانية شرعت في الأمر ليعلم المهتم بهذا الشأن أن كل المخطوطات اليونانية للعهد الجديد – وهي التي يحتج بها النصارى لإثبات أن الله قد حفظ كتابهم – ما هي إلا ترجمات هزيلة لأصل ساميٍّ أقل هزالاً وهو نسخة الـ «بشيطا» أو البسيطة السُريانية.
تُعَدُّ السريانية لغة متطورة عن الآرامية التي كانت سائدة في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد وقد حلت محل اللغة الأكَّادية لتصبح اللغةَ الرسمية في المنطقة المسماة بالشرق الأوسط[1].
وقد اختلف العلماء في أيهما كانت اللغة الرسمية في زمن المسيح - عليه السلام -: (الآرامية - السريانية) أم اليونانية؟ فيرى جمهور علماء الغرب أن كلتا اللغتين كانت ذات حضور قوي إلا أن اليونانية كانت هي اللغة الرسمية. وهذا الرأي محاولة من قِبَل الكنيسة الرومية لاختطاف النصرانية وجعلها تراثاً غربياً لا يختلف عن تراث فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو. لكن الدلائل التاريخية تشير إلى خلاف هذا تماماً. فـ «جوزيفوس» اليهودي – على سبيل المثال – الذي كان ربيب البلاط الرومي في القرن الأول الميلادي يعترف بقوله: «وقد عانيت أيما معاناة لتحصيل علوم اليونان وفهم عناصر اللغـة اليونانيـة، على الرغم من أني اعتدْتُ الحـديث بلساننا نحـن [العبرانيـة أو الآرامية] حتـى إنني لا ألفظ اليونانية بدقة كافية» [2].  وهذا دليل على أن اليونانية لم تكن اللغة الرسمية لعِلْية القوم فضلاً عن العامة.
كما يذكر «جوزيفوس» في كتابه «الحروب اليهودية» أن الروم طلبوا منه أن يدعو اليهود «بلغتهم الخاصة بهم» إلى الاستسلام. ولو كانت اليونانية يومئذٍ لغة رسمية يتحدثها اليهود والنصارى لأمكن التفاهم معهم بها دون الحاجة إلى العبرية أو الآرامية.
وعليه فإن الراجح أن اللغة السائدة بين اليهود والنصارى يومئذٍ كانت الآرامية أو العبرية وأن أسفار العهد الجديد كُتبَت بلسان «ساميٍّ» ولم تكتب باليونانية كما يدَّعي نصارى الغرب؛ فهذا «يوسيبيوس القيصري» يخبرنا أن «متَّى» الذي يُنْسَب إليه أول أسفار العهد الجديد «كتب إنجيله بلغته المحليـة»[3]. أما الأب «جيـروم» فيصـرح بذلك قـائلاً: «[متَّى] كان عبرانياً فكتب بالعبرانية»[4].
وأما مِن بين العلماء المعاصرين فإننا نجد «توري» يصرح بأن «سفر الرؤيا [آخر أسفار العهد الجديد] كُتِب بلغة سامية، وأن الترجمة اليونانية ... تُعَد نقلاً دقيقاً جداً للأصل»[5]. ويؤيده في ذلك «ر. ب. سكوت» بقوله: «سفر الرؤيا في مجمله ترجمة عن العبرانية أو الآرامية»[6].
إن الترجمة اليونانية للنص السامي – الذي هو عندي نسخة «البسيطة» السريانية – مليء بالأغلاط الناتجة أحياناً عن المحاكاة المفرِطة للتراكيب السامية للنص السرياني، وأحياناً أخرى عن عدم فهم المعنى أو التعابير والصور البلاغية.
وأورد هنا بعض الأدلة النصية من أسفار العهد الجديد تبيِّن ما أشرت إليه من أن النسخ اليونانية لا تعدو ترجمات باهتة للنص السرياني للعهد الجديد المعروف بالـ «بشيطا». ولكن قبل إيراد الأمثلة أبيِّن الشاهد منها مجملاً. فلو أن أحداً عثر على الترجمات الإنجليزية التالية لنص مَّا:
• I passed by Saturn
• I passed by a leg
• I passed by a man
لما تردد في الجزم بأنها كلها ترجمات للجملة العربية: «مررتُ برَجُل» غير منقوطة أو مشكولة: فالترجمة الأولى قرأته: «مررت بزُحل»، والثانية: «مررت برِجْل»، والثالثة هي التي أصابت كبد الحقيقة فترجمته كما ينبغي. مثل هذا هو سبب اختلاف النسخ اليونانية المترجمة عن الأصل السرياني.
ونقرأ في رسالة بطرس الأُولَى (3: 13) وَفْقاً لبعض الترجمات: «ومن سيؤذيكم إن كنتم متحمسين للخير» وفي ترجمات أخرى «ومن سيؤذيكم إن كنتم مقلِّدين للخير». فالاختلاف في الترجمتين ليس ناتجاً عن اختلاف الأسلوب وتخيُّر المرادفات،  بل مرَدُّه إلى اختلاف النسخ اليونانية أصلاً. فتلك التي اختارت «متحمسين» آثرت النسخ اليونانية التي تقول (zélotai)، وتلك التي ترجمتْها «مقلدين» تبعت في ذلك النسخ اليونانية التي تقول (mimétai). لكننا عندما نرجع إلى النسخة السريانية نجدها تستعمل الكلمة (ط - ن - ن - ا). ومن معاني هذه الكلمة – كما يؤكد «المعجم الآرامي الشامل» CAL – «متحمِّس» أو «مقلِّد». فدل على أن الاختلاف بين النسخ اليونانية عائد إلى اختلاف فهم المترجمين اليونان للأصل السرياني.
وقد يكون اختلاف الترجمة اليونانية ناتجاً عن قراءة خاطئة للكلمة السريانية فيظن المترجم أنها شبيهتها. مثال ذلك قول بولس في رسالته إلى رومية (5: 7): «ولا يكاد يموت أحدٌ من أجل امرئ بارٍّ، وربما جرؤ أحد أن يموت من أجل امرئ صالح». وهو معنى هزيل كما ترى؛ فما معنى التضحية من أجل البارِّ دون الصالح؟
وعند العودة إلى الأصل السرياني نجد أن الكلمة التي تُرجمت «بارّ» هي (ر - ش - ي -ع - ا) بمعنى «طالح» أو «شرير». لكن الفرق في الخط السرياني السطرنجيلي بين صورة هذه الكلمة وصورة (ر - ش - ي - ن - ا) أي «بارُّ» دقيق جداً. فكأنَّ الأمر التبس على المترجمين اليونان فظنوها (ر - ش - ي - ن - ا) للشبه الكبير بينهما، فتسبب ذلك في غرابة المعنى. فترجمة الفقرة وَفْقاً لنسخة البسيطة السريانية هي «ولا يكاد يموت أحد من أجل امرئ طالح، وربما جرؤ أحد أن يموت من أجل امرئ صالح» وهو معنى مقبولٌ وأكثر منطقية. ومثل هذه الاختلافات كثيرة جداً في النسخ اليونانية.
خلاصة القول: إن الأناجيل المحرفة التي يؤمن بها النصارى إنما كُتبت بالسريانية أصلاً ثم نقلت إلى اليونانية بصورة حرفية جداً تسببت في ركاكة النص اليوناني معنىً ومبنىً كما يقر بذلك المتخصصون في يونانية العهد الجديد.
أمَا وقد ثبت هذا فإن مخطوطات العهد الجديد التي يتباهى بها النصارى اليوم ليست سوى مجرد ترجمات وإن بلغت الآلاف، فلا يمكن إذن أن يُحتجَّ بها لإثبات أن أسفارهم محفوظة. كما أن النسخة السُّريانية «البسيطة» التي هي مصدر تلك النسَخ اليونانية لا تسلم من أغلاطٍ كبيرة؛ فأين مصادركم معشر النصارى؟
 

 


(*) باحث سعودي متخصص في دراسة الأديان - يعمل في مركز الدراسات والبحوث التابع لمجلة البيان.


[1]     Encyclopedia Britannica, «Aramaic Language».
 
[2] Josephus, F. Antiquities 20:263-4. JOE Josephus Works - English Text. 1828 Whiston translation. (1999-2001 BibleWorks LLC), CD Version.
 
[3]  Schaff, P. The Nicene and Post-Nicene Fathers Second Series Vol. I. (Oak Harbor: Logos Research Systems, 1997), p. 152.
 
[4]  Schaff, P. The Nicene and Post-Nicene Fathers Second Series Vol. III. p. 363.
 
[5]  Torrey, C. C. Documents of the Primitive Church (New York: 1941), p. 160.
 
[6]  Scott, R.B.Y. The Original Language of the Apocalypse (Toronto: 1928), p. 6.
 

أعلى