• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الإنتروبيا المكتسبة!

الإنتروبيا المكتسبة!

يتأسس القانون الثاني للديناميكا الحرارية على أنّه كلما زادت الأنظمة تعقيداً تبددت الطاقة بداخلها حتى تتطلب قدراً إضافياً من الطاقة يزيد أحياناً على المقدار الأصلي - للحفاظ عليها في حالة مرغوبة، وهي نتيجة طبيعية لكل التفاعلات الحرارية التي تجري في الكون، سواء كانت في الكائنات الحية، أو الآلات؛ أي أنها دالة لمتغيرات ديناميكية حرارية للطاقة غير المتاحة للشغل، وهو ما يعرف بالإنتروبيا[1].

لكن مهلاً، المقال ليس عن الفيزياء! بيد أنّه يستلهمُ سنّةً طبيعيةً تتجاوز المادّة إلى العلاقات وطبائع الأشياء، فإن بعض النظم تحفز نفسها إلى مزيد من التبدد حينما تصرُّ على الاستمساك بأمور تكلفها من الطاقة للحفاظ عليها ما يزيد على الطاقة الأصلية، وتضطر مرغمة إلى احتواء ما أنتجته من آثار. إنّ كثيراً من حالات الإنتروبيا المكتسبةالتي نقع فيها هي بسبب طريقة تعاطي مؤسساتنا ومنظماتنا مع الإعصار المفاهيمي الجديد في نظم الإدارة وأنماطها؛ عندما تحاول تطبيقها دونما استعداد كافٍ، أو تصوّرٍ للأمر وتبعاته بكليّاته. وسأضرب لذلك أمثلة:

المثال الأول

مؤسسةٌ نشأت في ظروف محدّدة، وثقافة معيّنة، وتُعايِشُ نمطاً سياسياً محدّداً في دولتها، ويُلقي هذا النمطُ بظلاله على القوانين التي تحيطها، بدءاً بأخذ الترخيص وانتهاءً بالتعامل مع ضريبة الدخل، أو حسابات العائدات، ثم تصرُّ على أن تستورد تجارب حسنة best practices من مؤسسة شبيهة لها في الأغراض والغايات لكنها من بيئة أخرى تختلف اختلافاً كبيراً عما تعيشه هي. ستنجح المؤسسة في نقل تجربة أختها، لكنها ستنفق أضعاف ما تجنيه للحفاظ على التجربةحسنةً كما تريد! وستظلُّ ترقّعُ وتأتي بالخبراء والمستشارين من بيئة الأختفي محاولة للإنعاش والمماثلة، فتستهلك كثيراً من الطاقة للمحافظة على النظام الجديد، منفقةً ما هو أكبر من القدر الأصليّ الذي رصدته وبدأت به، وأكثر مما كانت ستجنيه لو استمرّت على حالتها الأولى على الأقل.

المثال الثاني

مؤسسةٌ ترغب في النهوض بمستوى الأداء، فتتجه إلى توظيف خبراء لامعين نجحوا في مؤسسات شبيهة وارتقوا بها، لكن بعد تعيينهم بفترة قصيرة عانت المؤسسة ضموراً وانحساراً في الإنتاج أكثر من ذي قبل، وفي الأجزاء التي توقعت انتعاشها بتعيين الخبراء، فتتساءل المؤسسة عندها: كيف يحدث هذا وقد وظّفنا أشخاصاً ناجحين؟! ما المشكلة؟!

نعم لقد برع هؤلاء الأفذاذ في مؤسساتهم، لكن كان السبب في نجاحهم - بعد توفيق الله لهم - هو النظامالذي كانت عليه مؤسساتهم السابقة. كان النظام بمجموع أجزائه ومفرداته داعماً لهم في مسارهم، من القوانين واللوائح، والثقافة المؤسسية، والصفات الشخصية للقادة والزملاء، بل ربما المتعاملين. كل ذلك كان له أثره البالغ في إحداث تفوقهم، فلم يكن التفوّق والنبوغ إذاً جهداً شخصياً محضاً، بل كان نتاج تفاعل بيئيّ في المؤسسة ككل، وهو ما لم يجدْه هذا الخبير اللامع في هذه المؤسسة التي قدم لإنقاذها. وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ، بل ربما أثر انحدار مستوى القادم الجديد على مستوى المؤسسة ككل، ويذكر أحد الخبراء أن النّجم القادم من الخارج يُصبحُ بعد فشله نكِداً وممتعضاً، وأن تلك الحالة تسري في باقي العاملين بالمؤسسة، وهكذا تصبح الطاقة اللازمة للحفاظ على الموهبة الواردة أكبر من تلك اللازمة لتطوير المواهب الأصلية لدى المؤسسة[2].

المثال الثالث

مؤسستان صديقتان تعملان بنجاح، وتبلي كلٌّ منهما بلاءً حسناً في مجال اختصاصها، ومع موجة الاندماجيقرر أصحاب العمل في المؤسستين أن يندمجا في كيان واحد ليزيد الإنتاج ويعمّ الخير. فتأتي كلُّ مؤسسة منهما بثقافتها وأدبياتها المكتوبة (وغير المكتوبة)، ويحسب الأعضاء من المنظومتين أن المنظومة الجديدة ستسير وفقاً لطريقتهم السابقة التي كانت ناجحةً جداً بالطبع حينما كانت كلُّ مؤسسة تعمل على انفراد، وتحدث كارثة تنحدر بالإنتاج إلى مستوياتٍ متدنيّة، ولحرص القيادة على مبدأالشراكة وإيمانهم التامّ بأن 1 + 1= 10؛ فإنهم لا يألون جهداً في ضخّ مزيد من الموارد للحفاظ على الشراكة على حساب النتائج المفترضة منها!

المثال الرابع

مع انتشار مفاهيم الاستشراف المستقبليّوبروز أهميتها في عالم الأعمال، تبدأ مؤسسة ما بدراسة سوق عملها وتحليله، سواء كان ربحياً أو خيرياً، فتقرأ اتجاهاً صاعداً من أرقام فسرتها تفسيراً محدّداً، فتقرر أن تجعل من مواردها الحظّ الأكبر لدعم أعمال تتسق وهذا الاتجاه المتوقّع، فتلجأ لخبراء يوصونها بأن عليها إعادة النظر في هيكل عملياتها ككل، ولأن المؤسسة لا تريد فَقْدَ ميزات الماضي، فإنها تستحسن إعادة صياغة الموجود من موظفين ونظم وأدوات، فيتحمّس المديرون لإعادة الهندسة داخل الهيكل القديم، وينفقون كثيراً على عمليات المواءمة والتدريب، والكثير من عمليات التجميل.

لقد أنفقت المؤسسة أكثر بكثير من العائد المتوقّع من الاتجاه الجديد ذي الفوائد المحتملة، كما أنها أنتجت مزيجاً غير متجانسٍ من الأدوات والعاملين.

المثال الخامس

تقرر مؤسسة ما أن تنجز خطةً استراتيجية للسنوات الثلاث القادمة، ولأن العالم في تغيّر مستمر، فإنها ستحتاج إلى تحليل دقيقللبيئة لتضع استراتيجية مناسبة. نعم تكمن الأزمة في كلمة دقيقهذه! فتستهلك المؤسسة مواردَ كثيرة في هذه المرحلة - المهمّة بلا شك - من مراحل التخطيط، حتى تصاب بما يسميه المشتغلون بهذا الفن: فخّ الشلل، فتوظّف كثيراً من الطاقة لظنها أنها ستحفظ بها الطاقة الكلية للمؤسسة حينما تكون لها استراتيجية وخطة!

وهكذا قل مع محاولات تطبيق نظم الجودة غير الملائمة للمؤسسة، أو إجراء أنماط إدارية معزولة عن سياقها الطبيعي، أو إدخال تكنولوجيا جديدة، وغيرها من صور، فالأمثلة كثيرةٌ، وربما لا تكون آثارها حاضرةً في العاجل، لكن ستظلُّ المؤسسات التي يقع فيها مثلها ترصد تلك الآثار بالتراكم على مدى متفاوت.

هل من سبيل لتقليل الأثر الإنتروبي؟

إنّ الإنتروبيا تعني في نهاية المطاف أن الأنظمة والمؤسسات تصبح أقل كفاءةً باستمرار، وأن الناس سيضطرون إلى مزيد من العمل المتواصل لبلوغ الكفاءة المطلوبة للبقاء. إن هذا القانونَ سننيٌّ، فما من شيء يرتفع إلا حقّ على الله - تعالى - أن يضعه، وإن استيعاب معادلة النموّ والانحدار يدلُّ على وعي بطبيعة الأشياء، غير أن الأثر السالبَ يتعمّقُ عندما نبتدر نحن الفناء، ونستعجل النفاد بمثل ما سبق ذكره من أمثلة. وفيما يلي بعض الإشارات التي يمكن بالتزامها - إن شاء الله - أن يخف الأثر الإنتروبي المكتسب:

- في بعض الأحوال قد يكون البدء من جديد أفضل بمرّات من إعادة ترقيع النمط القديم الذي سيستهلك طاقةً كبيرة للحفاظ عليه، ما يأخذ من الطاقة الأصلية التي يجب بذلها في الإنتاج.

- إن لم يكن مبدأ التحسين المستمر منهجاً تسلكه المؤسسة وتحرص عليه في كل الأحوال، وتجعله ثقافة؛ فإنه - في الغالب - لن يغني استيراد نظام للجودة في تحسين أعمال المؤسسة، وربما يتحوّل النظام بكلياته إلى أوراق واستمارات ورموز مُلغزة ومملّة، تأخذ في ملئها الكثير من الطاقة الأصلية للعامل في سبيل الحفاظ عليها معبأة، وتصير بذلك عبئاً كبيراً. وهنا تجدر الإشارة إلى منهجية بسيطة تتسق مع تأسيسنا الشرعيّ، ألا وهي مبدأ التحسينات الصغيرة المستمرة، وهو منطوق قوله صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ)[3].

- إنّ شيئاً مما يُفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (اعقِلها وتوكَّلْ)[4]، هو أنّ بذل الحد الكافي من الأسباب مدعاةٌ للاطمئنان، وإن هذا لداعٍ إلى أن ينطلق الناس في العمل بعد بذل ما يكفي من أسباب التخطيط والتنظيم، وإن المبالغة في التحليل والرصد والتنبّؤ تأخذ من الطاقة الأصليّة التي كان ينبغي صرفها للعمل.

- إنّ مجاراة الأحداث والصيحات الإدارية ليست مجديةً دائماً، فربّ صيحة أعيت صاحبها أن يواكبها فأفقدته أصالته وأعمته عمّا كان ممكناً أن يستخرجه من ابتكار وإبداع في بيئته المحيطة وأفراده المبدعين من داخل منظومته، واستهلكت من طاقته الأصيلة في سبيل الحصول على سمعةالجِدّة؛ لا ثمرتَها”!

- إنّ الاستثمار فيما تعرفه المؤسسة وتجيده وتُحْسِنُه بتطويره وبحث تعظيم العائد منه؛ خيرٌ لها في كثير من الأحوال من أن تهدم عملها للدخول في مجال جديدٍ لم تخْبرْه، ولا يتّسق مع محيطها ولا نمط عامليها أو متعامليها، فتنفق طاقة كبيرة وتحصل على القليل.

- يغيب عن كثير من مؤسساتنا - لا سيما الخيريّة منها - ما يعرف بمبدأ الحوكمة الرشيدة، أو المحاسبية، وإذا ذُكر اتجهت الفهوم إلى النزاهة بمعناها العام، بينما يتضمن كذلك طلب المحاسبة الدقيقة للتنفيذيين من قبل مجالس الإدارات، بما في ذلك التأكد من سلامة طرق اتخاذ القرار، وأثر القرار على العمل، وغيره مما يجب تضمينه في نظام المؤسسة.

- رغم أهمية المبادرة، والانطلاق في آفاق رحبة، ودعم ما يتطلبه الأمر من إقدام؛ إلا أنّ من الذكاء المؤسسي أن تضع المؤسسة ما يعرف بخطة إدارة المخاطر، وهي توقّعٌ لما يمكن أن يواجه الأنماط الجديدة من مشكلات، ومن ثم اقتراح حلول ناجزةٍ إن وقعت، أو بدائلَ عاجلةٍ إن فشلت، وهو ما يتّسق مع بنيتنا الفقهية الأصيلة التي تنظر إلى المآلات، وتراعي المترقبات.

:: مجلة البيان العدد  329 محرّم  1436هـ، أكتوبر  - نوفمبر  2014م.


[1] انظر: ميتشيو كاكو، فيزياء المستقبل: العلم يشكل مصير البشرية عام 2100م، ترجمة طارق راشد العليان، كتاب العربية رقم 63، بالتعاون مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم التقنية، الطبعة الأولى، 1434 هـ - 2013م، الرياض، ص: 281.

[2] إدي فاينر وآخرون، التفكير المستقبلي: كيف تفكّر بوضوح في زمن التغيّر، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الطبعة الأولى 2008م، ص: 114، بتصرّف يسير.

[3] صححه الألباني في صحيح الجامع برقم 163.

[4] جزء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، صحيح الترمذي رقم 2517، وحسّنه الألباني.

أعلى