عوامل سقوط الأندلس.. دراسة تحت مجهر السنن الاجتماعية
إن قصة سقوط الأندلس قصة
مؤلمة جداً؛ تؤلمنا أحداثها، وتؤلمنا أرواح الأعداد الهائلة من الشهداء الذين
سقطوا على أرضها، وتؤلمنا النساء اللواتي انتهكت أعراضهن، ويؤلمنا الخونة الذين
خانوا أمتهم من بني جلدتنا، ويؤلمنا أننا فقدنا بفقدها تاريخاً عريقاً ومجداً تليداً،
ونحن نعلم أن هذا المجد وذاك التاريخ قد انتهى وضاع، وصارت الأندلسُ الفردوسَ
المفقود.. إلا أنه لا بد من قراءة هذا التاريخ والمجد وكيف ضاع، وكيف سلب منا،
وكيف سقطت الحضارة الأندلسية بعد بناء دام قروناً عديدة. وإنه بلا شك بقراءتنا
السننية لتاريخ الأندلس، سنصل إلى نتيجة مهمة ونافعة للأمة في حاضرها ومستقبلها؛
نتيجة كيف تقام الأمجاد وكيف تسقط، نتيجة كيف تبنى الحضارات وكيف تهدم، نتيجة كيف
تشرق شمس أمة وكيف تغيب، وكيف يبزغ فجرها وكيف يأفل.
إن تاريخ الأندلس بصفحاته
الطويلة تظهر فيه سنن الله في النصر والهزيمة والقيام والسقوط جلية واضحة.. وفيه
من الدروس والعبر الكثير الكثير.
ويمكن إجمال أهم سنن سقوط
الأندلس فيما يلي:
حب الدنيا وكراهية الموت:
حقق طارق بن زياد – رحمه
الله - وجنده نصراً مؤزراً في وادي بَرْبَاط، حيث انتصر المسلمون وهم 12 ألفاً على
100 ألف من أعدائهم الفرنجة. ثم أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة
واتَّجه شمالاً؛ لفتح بقيَّة بلاد الأندلس، ففتحها بإذن الله وعونه ونصره لما كان
معتزاً بدين الله لا باليهود والنصارى، وكان همه نصرة الإسلام لا العصبية وشهوة
السلطة وحب الدنيا، وكان جيشه وجنوده صفاً واحداً لا متفرقين شذر مذر.
لكن هذا النصر الذي حققه
طارق وبعده يوسف بن تاشفين وغيرهما - رحمهم الله -، لم يحافظ عليه الذين ملكت شهوة
الحكم عليهم كيانهم، وصارت أغلى أمانيهم، ولو قدموا شعوبهم وأرضهم فداء لها.
كان الاستغراق في الترف
والتبذير والركون إلى الدنيا وملذاتها وشهواتها ومغرياتها، والخنوع والدعة
والميوعة، والفسق والفجور وحب الدنيا وشهوة السلطة؛ أول العوامل التي أدَّت إلى
تلك النهاية المؤلمة للأندلس - بلاد العلم والفقه والحضارة -، ولآخر معاقلها
“غرناطة”، وقد ارتبطت كثيراً فترات الهبوط والسقوط بكثرة الأموال والانغماس في
الملذات، والميوعة الشديدة في شباب الأمة، والانحطاط الكبير في الأهداف.
لقد أصاب أمتنا في
الأندلس من العقاب الإلهي ما جعلها فردوساً مفقوداً، ولم تنتبه لتحذير نبيها صلى
الله عليه وسلم لها من العقاب الذي سيصيبها عندما تتنكب عن سنن الله، وتحيد عن منهاجها
المستقيم، بحبها الدنيا - مناط البلاء - وكراهيتها الموت؛ فعَنْ ثَوْبَانَ رضي
الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ
أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ
قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ
وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ
عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ
الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ
الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»[1].
مثَالٌ لاَ أبلغَ منه في تصوير تفكك الأمة، وانفرام عقدها، وخفة وزنها، وَهَوَان
قيمتها، وانسياحها في مجاري التبعية الفكرية والسياسية، وتكالب أعدائها عليها من
جراء ما كسبت أيديها.
ابتليت الأمة المسلمة في
الأندلس بالوهن، وكان سبباً في سقوط حضارة واندثار تاريخ أزيد من ثمانية قرون،
وتحولت تلك الحضارة إلى لعبة في يد الفرنجة يعبثون بها ويمحون آثارها.
ولهذا جمع الله لنا في
سياق آية من سورة آل عمران أربعة أمراض وأدواء مترابطة بعضها يغذي بعض؛ مما يكون
سبباً للهزيمة والوبال، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ
صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا
تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
هذه الأمراض كما هي
مذكورة في الآية هي:
أولاً: الفشل (فشل الأمير
أبو عبد الملك الصغير ثم فشل بفشله جنده ومن معه).
ثانياً: التنازع في الأمر
(تنازع ملوك الطوائف على السلطة والإمارة فقسموا الأندلس قطعاً).
ثالثاً: العصيان (عصيان
أوامر الله تعالى ورسوله الذي أمر بالوحدة والاعتصام بحبله والجهاد لحماية ثغور
الأمة، والشورى).
رابعاً: حب الدنيا؛ أصل
البلاء ومناطه، وسبب كل خطيئة (لقد كان هم أمراء الأندلس الحفاظ على كراسيهم
وسلطتهم ولو قدموا أعناق شعبهم وأراضيهم ثمناً لذلك).
فلما توافرت هذه الأمراض
في الأندلس، كانت الهزيمة والسقوط، وفقدنا خير البلاد المسلمة في العالم.
الذنوب
والمعاصي:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ،
وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ
قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ
الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ
يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ[2]
وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا
زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ
الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ
رَسُولِهِ، إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ،
فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ
بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلاَّ جَعَلَ
اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ»[3].
لقد نقض أمراء الأندلس
عهد الله وعهد رسوله وخانوا أمتهم وتفرّقوا وتشتتوا وتمزقوا وتنازعوا على السلطة
والحكم، وتقاعسوا عن الدفاع عن حمى الإسلام وأهلها، ولازموا الذنوب والمعاصي
والمهلكات؛ فحق عليهم القول رغم كثرة عددهم؛ إذ جيش المسلمين لا يُنصَر بالقوة ولا
بالعدد والسلاح، لكنه يُنصر بالتقوى.
توحد
الأعداء وتمزق المسلمين صفاً وقلوباً:
إن الخلاف والتنازع لا
يعطي ثماراً ولا يحقق نصراً ولا يرهب عدواً، فهو مرض خطير عاقبته سيئة ونتائجه
وخيمة، ولهذا حذرنا الله تعالى من هذا الجرثوم الخبيث، وقدم الأمر بطاعة الله
ورسوله على النهي عنه، ما يجعلنا نلمح أن العاصم من هذا المرض الخطير هو الطاعة
لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ولله در القائل:
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى
خطب ولا تتفرقوا أفراداً
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً
وإذا افترقن تكسرت آحاداً
لكن أمراء الأندلس لما
أفلت حبل الفطرة من يدهم، وارتخت أيديهم عن عروة القرآن؛ تمزقوا شيعاً، وتقطعوا
زُبراً، وتعمق الخلاف بينهم، وعاشت الأندلس بعد نهاية الدولة العامرية في تمزق
وتشتت، وتحولت إلى ممالك وإمارات وصلت إلى 22 إمارة، كل واحدة مستقلة عن الأخرى،
وأصبحت فيما يسمى ”ملوك الطوائف”، واتسع شرخ الخلاف والفرقة بينهم، بل استعان
بعضهم بالأعداء في الصراع مع إخوانه، وقدم تنازلات من حصون ومدن لعدوه شريطة
التغلب على إخوانه، فباع أرضه وخان أمته ووطنه؛ فأضاعوا بلادهم، وأهلكوا أمتهم،
وكانوا السبب فيما حل بها من الفتك والقتل والاستعباد والطرد والقتل بأبشع الوسائل
الهمجية والوحشية.
التقاعس
والتقاعد عن فريضة الجهاد في سبيل الله لحماية الثغور وحماية الناس:
إن الناظر إلى تاريخ
الأندلس قبيل سقوطها ليتساءل: أين أولئك الذين نذروا أنفسهم لله وللدفاع عن حمى
دين الله ونصرة المستضعفين؟ أين المجاهد الرباني والقائد الحكيم يوسف بن تاشفين،
وأين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟ وأين طارق بن زياد وغيرهم؟
وإنها لعبرة وعظة حين
ننظر إلى أمراء غرناطة، ومَنْ كان على شاكلتهم حين ذُلّوا وأُهينوا لَما تركوا
الجهاد في سبيل الله للدفاع عن ثغور الأمة.
ولهذا أدرك رسول الله صلى
الله عليه وسلم مغزى سنة الله في الجهاد وكنهها وأنها ماضية لا تتخلف، فحذر أمته
من التخلف عنها وتنكبها: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ
أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»[4].
ألم تحصد هذه السنة
الإلهية ملوك الطوائف في الأندلس؟ لما تنكبوها وحادوا عن منهاجها ذلوا وخسئوا وسحب
من تحتهم البساط وطردوا من قصورهم أذلة صاغرين.
سنة الاعتزاز بغير الله وموالاة اليهود والنصارى:
يقول الله تعالى في سنة
الاعتزاز بغيره: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً
لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا 81 كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81-82]. سنة إلهية ثابتة: من اعتز
بغير الله خذله وجعل عاقبة أمره خسراً. لما اعتز ملوك الأندلس وأصحاب القوة والجاه
فيها باليهود والنصارى، تخلف عنهم التوفيق، وأصبحوا في أمر مريج، حتى أسقطوا
بموالاتهم لأعداء الله حضارة ثمانية قرون.. إنه خِذْلانٌ من الله استحق عقابَه
شرذمة أرادت العزة في غير الإسلام، فأذلها الله.
إسناد الأمر إلى غير أهله:
كان إسناد الأمر إلى غير
أهله أحد عوامل سقوط الأندلس، وكان ذلك واضحاً جداً، خاصة في ولاية هشام بن الحكم،
وولاية الناصر بعد أبيه يعقوب المنصور الموحدي، وأيضاً ولاية جميع أبناء الأحمر
حتى آخر ملك منهم، وأبو عبد الملك الصغير.
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
أسند الأمر إلى الدعة
والفسق والفجور والفساد وحب السلطة وموالاة الأعداء على حساب إخوانهم من المسلمين؛
فكانت النتيجة واضحة جداً.. خسرنا الأندلس بكل ما فيها.
الجهل بالدين والتربية على غير مبادئه:
إن الفقه في الدين
والتربية الإيمانية يقيان صاحبهما من المهالك والمخاسر والفتن. ولقد كان للتفقه في
الدين والتربية الإيمانية في الأربطة والمجالس؛ قيمة عظمى زمن عبد الله بن ياسين،
حيث ربى أعظم أمير ومجاهد رباني – يوسف بن تاشفين - خاض معارك خالدة في الأندلس
وأعاد للمسلمين عزتهم ومكانتهم وكرامتهم، كما كان للعلم قيمة كبرى زمن الحَكم بن
عبد الرحمن الناصر.
لكن للأسف انتشر الجهل
بالدين بين الناس في نهاية عهد المرابطين، وفي عهد دولة الموحدين، وسادت بين الناس
معتقدات غريبة وآراء عجيبة تدل على الجهل المطبق بالدين وأحكامه ومبادئه وتعاليمه.
وخير مثل على هذا الجهل ما كان من غزو محمد بن الأحمر الأول لإشبيلية، وقد تبعه
الناس في ذلك ظناً منهم أنهم على صواب، وأنهم أصحاب رسالة وفضيلة، وأي جهل بالدين
أكثر من هذا؟!
الاغترار بالكثرة الغثائية:
قال جل وعلا: {لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة:
25].
إن الإعجاب بالكثرة هزيمة
روحية سبقت الهزيمة في ميدان المعركة. وهكذا فإن الاتكال على الأسباب الظاهرة مرض
دواؤه التوكل على الله تعالى، والاعتماد عليه، مع إعطاء الأسباب حقها، بإعداد ما
استطعنا من قوة. وإنما الأسباب الظاهرة من وضع الله تعالى، فادعاء تخطيها رفضاً
للعبودية المضروبة علينا وعلى كل البشر على سواء في هذا الميدان. فمن جَدّ وَجَدَ،
ومن لَجَّ وَلَجَ، ومن سار على الدرب وصل.
تغيير
النعم:
قال تعالى: {ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
[الأنفال: 53]. لما توحد المسلمون وحكامهم في الأندلس في معاركهم وفي بناء مجتمعهم
والتزموا بما أمرهم الله به، وجاهدوا في سبيل الله نصرة لدين الله ونصرة للمسلمين
وديارهم؛ صدقهم الله وعده ونصرهم في معارك شتى، واستمرت حضارتهم لقرون متوالية.
ولما خالفوا أمر الله
واستكانوا للدعة والمرح والاسترسال في الشهوات وحياة اللهو والعبث، والخلاعة
والمجون، وغيروا نعم الله عليهم وتفرقوا شذر مذر؛ حلت بهم الهزيمة والسقوط المريع.
ولذلك؛ لما تغيرت أحوال
الناس في الأندلس وأمرائها تغيّر حال الأندلس وسقطت من أيديهم، ولذلك يرى
المؤرخون: “أن الأَنْدَلُسيين ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم.. ناموا في ظل ظليل
من الغنى الواسع والحياة العابثة والمجون، وما يرضي الأهواء من ألوان الترف
الفاجر، فذهبت أخلاقهم، كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، وغدا التهتك والخلاعة
والإغراق في المجون، واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة بالذهب واللآلي؛ مِن
أبرز المميزات أيام الاضمحلال التي استناموا فيها للشهوات والسهرات الماجنة،
والجواري الشاديات. وإن شعباً يهوى إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة لا يستطيع
أن يصمد رجاله لحرب أو جهاد”[5].
لقد دخل المُسْلِمُون
الأندلس وأعلوا راية الإسلام فيها لما كان نشيد المجاهد القائد البطل طارق بن زياد
في العبور “الله أكبر”، وبقوا فيها زمناً حين كان يحكمها أمثال عبد الرحمن الداخل
– رحمه الله - عندما أهديت له جارية جميلة نظر إليها وقال: إن هذه لمن القلب والعين
بمكان، وإن أنا لهوت عنها بمهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت
مهمتي، فلا حاجة لي بها الآن.
وعندما قُدم إليه الخمر
ليشرب قال: “إنِّي محتاج لما يزيد في عقلي لا ما ينقصه”[6].
وضاعت حضارة الأندلس من
يدي المُسْلِمِين عندما كان نشيدهم:
دوزن العود وهات القدحا
راقت الخمرة والورد صحا
وعندما قصد الإفرنج
بلنسية لغزوها عام 456هـ، خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة، فكانت وقعة بطرنة التي
قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلي:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم
حُلَلَ الحرير عليكم ألواناً
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها
لو لم يكن ببطرنة ما كانا
ضعفت همم المسلمين،
وتنافسوا الدنيا ومغرياتها؛ فسلبت ديارهم، وانتهكت أعراضهم. وانظروا إلى حال
الدنيا وتلاعبها بأصحابها لما تنافسها الأمراء والملوك من أجل إسعاد جواريهم
وزوجاتهم.. ما فعلت الدنيا بالمُعْتَمِد بن عباد لما اشتهت إحدى زوجاته أن تمشي في
الطين وتحمل القِرَب، فأمر ابن عَبَّاد أن ينشر المسك على الكافور والزعفران،
وتحمل قرباً من طيب المسك وتخوض فيها؛ تحقيقاً لشهواتها!
لكن دوام الحال من
المحال، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ فانقلبت الموازين وفق سنة الله الخالدة،
فسيق ابن عباد أسيراً إلى أغمات وحبس هناك وزال عنه نعيم الدنيا وعن أهله، وتحولت
بناته من سيدات إلى غزالات للناس ليضمنّ قوت يومهن.
تداول
الأيام بين الناس:
لقد جعل الله تعالى
مداولة الأيام بين الناس من سننه في المجتمعات، فقال تعالى: {وَتِلْكَ
الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} [آل عمران: 140]،
ليميز سبحانه صادق الإيمان من المدعي، وينكشف النفاق المدسوس المتقاعد.
ولذلك؛ فإن هذه المداولة
أو التداول يقع ضمن سنن الله في عباده؛ فمن شمر على ساعد الجد وأخذ بأسباب النصر
ومقوماته دالت له الأيام، ومن نكص عنها - كما نكص أهل الأندلس - دالت
عليه الأيام، وربنا تبارك وتعالى لا يظلم أحداً.
الفشل
والهزيمة المعنوية:
الفشل والهزيمة المعنوية
مرض خطير، وعرض من أعراض الفرقة والخلاف وحب الدنيا، وطريق للهزيمة المادية
والعسكرية.. ولذلك؛ لما أعلن الملك الصغير أمام جنده
وحاشيته ووزرائه أنه يفكر في الاستسلام، زادهم فشلاً على فشل وهزيمة على هزيمة،
ووافقوه على الاستسلام – إلا وزيره موسى أبى
الاستسلام - للعدو الفرنجي وتقديم مفاتيح آخر قلعة من
قلاع الأندلس على طبق من ذهب للعدو الغاصب.
الغفلة
عن الله:
يقول الله تعالى يحذرنا
من مغبة الغفلة عنه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]. ولا
أدل من غفلة أهل الأندلس عن الله والدار الآخرة في انشغالهم بعمارة القصور والتفنن
في زخرفتها وبنائها والتنافس فيها، وأشعار الغزل والرقص والترف والتبذير والمجون... نسوا
الله فأنساهم وتركهم لما انشغلت به أنفسهم عنه حتى كان تدميرهم تدبيرهم.
حب الرئاسة:
إنه ليس هناك ضرر على قلب
المرء ودينه من حبه الرئاسة والجاه، ولنا في تاريخ الأندلس دليل على ما ينتج عن
هذا المرض من نتائج وخيمة وعواقب سيئة. لما دبت روح حب الرئاسة
في قلوب أمراء المسلمين بالأندلس وتركوا أمر دينهم وراء ظهورهم؛ انقسموا إلى طوائف
وتفرَّقوا شذَرَ مذَرَ في بلاد الأندلس، ففتك بهم عدوهم بما تشق له المرائر، وتفتت
الأكبدة، وتقشعر من هوله الجلود والأبدان.
هذا ومن المعلوم أن خطورة
هذا المرض قد تصل إلى سفك الدماء، وانتهاك الحرمات، واتهام الأبرياء، وهذا ما وقع
في تاريخ المسلمين عامة وفي تاريخ الأندلس خاصة، فكم من أخ قتل أخاه أو أباه أو
عمه أو خاله؟ وكم من أخ تحالف مع عدوه ضد أخيه أو أحد أقاربه؟.. من
أجل حطام الدنيا الفانية، وحرصاً على مغرياتها الزائلة، وصفحات كتب التاريخ مليئة
بذلك وشاهدة على خطورة هذا الداء العضال.
الظلم:
الظلم ليس سبباً من أسباب
الهزيمة والسقوط فحسب، بل هو سبب من أسباب هلاك الأمم وسقوط الدول وانهيار
الحضارات وتغيّر الأحوال.
فملوك الطوائف اجتمعت
فيهم كل أنواع الظلم؛ ظلموا أنفسهم لما غرقوا في حب الدنيا وملذاتها وشهواتها،
وظلموا ما بينهم وبين ربهم لما تقاعسوا وتقاعدوا عما افترضه عليهم من فرائض وأوجبه
من واجبات وحرمه من محرمات وفواحش وبخل وتبذير، وظلموا رعيتهم في الأرزاق وفي الحماية
والدفاع عنها، وخانوا أرضهم لما قدّموها سهلة لعدوهم، وظلموا الأجيال قبلهم لما
أضاعوا ما شيدوه وبنوه على مدار 800 عام، وظلموا الأجيال
بعدهم لما لم يحافظوا على الأمانة ولم يؤدوها إلى أهلها.
التخاذل
والنفاق والخيانة:
إن وجود المتخاذلين
والمنافقين والخائنين في صف المجاهدين لا مناص منه، وكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم مليئان
بتحذيرنا من هذه العناصر المريضة، وواجب الأمة أن تأخذ حذرها منهم وإذا ظهر منهم
ما يسوؤها وجب أن تطهر صفوفنا منهم حتى لا يكونوا منفذاً للهزيمة والوبال.
وفي فترات ضعف الأندلس
إلى سقوطها كان من أسباب ذلك كثرة الخيانات والتخاذل.
فهذا الإمام أبو الوليد
الباجي – رحمه الله - يدعو
ملوك الطوائف إلى الوحدة لمواجهة الخطر النصراني الذي يهدد وجود المسلمين في
الأندلس، لكنهم رغم ترحيبهم به وبدعوته تخاذلوا عن الدفاع عن حمى المسلمين؛ لأن حب
الدنيا الذي تربع على عرش قلوبهم أصماهم وأعمى أبصارهم، وزادت النزاعات بينهم حتى
وصلت إلى القتال، ما دفع بأعدائهم للتجرؤ عليهم واستباحة أراضيهم وأعراضهم، فهاجم “فردلند” مدينة
بازو فقتل أهلها وانتهك أعراضها وأخذ الباقي أسرى في سنة 449هـ.
بل وصلت الخيانة ببعضهم
إلى أن رأى إخوانه والعدو يحاصرهم لا يحرك ساكناً ويرفض نصرتهم ومساعدتهم، كما وقع
لما راسل المظفر بالله أخاه المؤيد بالله، بل أرسل إلى كل دويلات الأندلس يطلب
المدد وفك الحصار عن المسلمين، لكن للأسف لم يجبه أحد، بل دل أحد الخائنين العدو
الفرنسي على مصدر الماء الذي يروي عطش المسلمين فقطعوه عنهم فاشتد العطش بهم،
فاقتحم الفرنسيون الكاثوليك والنورمان النصارى مدينة “بربشتر” فاستباحوها
وقتلوا بين 40 ألفاً و100 ألف
من أهلها، وهتكوا الأعراض أمام محارمها وأهلها، وأصبح كل أهل المدينة عبيداً
للمحتل بعدها.
ثم جاء دور ما تبقى من
حصون الأندلس؛ جاء دور غرناطة، وجمع فرديناند جموعه للتوجه نحو غرناطة، فظهرت
خيانة جديدة من أبي عبد الله محمد الثالث عشر المعروف بـ ”الزغل” لابن
أخيه الملك أبي عبد الله الصغير طمعاً في الملك، فكان سبباً في إضعاف المملكة
وجعلها فريسة لمملكتي قشتالة وأرجون. لكن جرت الرياح بما لم
تشتهه السفن، فأهل غرناطة له كارهون وباسم ابن أخيه يهتفون، فما كان منه إلا أن
أخذ أمواله وحشمه وخدمه متوجهاً إلى المغرب ليعيش عيشة هنية بما أخذه معه من مال
وجوار وخدم، لكن حاكم فاس سرعان ما ألقى القبض عليه وجرده من كل ما يملك، فسملت
عيناه وألقي به في السجن ثم أطلق سراحه بعد ذلك، فعاش متسولاً منبوذاً حتى مات.
واشتد الحصار على غرناطة
واستسلم الملك الصغير ومن معه من قادة الجيش وعلماء السوء إلا وزيره موسى الشهم.
فكان استشهاد موسى بن أبي
غسان وتسليم الملك الصغير غرناطة للملكين “فرناندو
الخامس” و”إيزابيلا” إيذاناً
بانتهاء عصر حكم المسلمين في غرناطة، وبسقوطها ينتهي حكم المسلمين بالأندلس.
أعطى أبو عبد الله محمد
الثاني عشر الموافقة بالتسليم، ولم ينسَ أن يرسل إليهما بعضاً من الهدايا الخاصة،
وبعد التسليم بأيام يدخل الملكان في خيلاء قصر الحمراء الكبير ومعهما الرهبان، وفي
أول عمل رسمي يقومون بتعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى، ويُعلن من فوق
هذا البرج أن غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين، وأن حكم المسلمين قد انتهى
من بلاد الأندلس.
خرج آخر ملوك المسلمين
أبو عبد الله محمد بن الأحمر الصغير من القصر الملكي في نكسة كبيرة وفي ذل وصغار،
يسير بعيداً في اتجاه بلدة “أندرش”،
حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه، وإلى ذاك المجد
الذي قد ولَّى، وبحزن وأسى قد تبدّى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه،
انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه «عائشة
الحرة»: أجل؛ فلتبكِ كالنساء مُلْكاً لم تستطع أن
تدافع عنه كالرجال.
وإلى هذه اللحظة ما زال
هذا التل - الذي وقف عليه الصغير - في
إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه يتأمَّلون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكاً
أسسه الأجداد، ويُعرف (هذا التل) بـ
«زفرة
العربي الأخيرة»، وهو بكاء أبي عبد الله محمد الصغير حين
ترك ملكه.
ومن أخذ البلاد بغير جهد
يهون عليه تسليم البلاد
فكان سقوط الأندلس في
الثاني من شهر ربيع الأول سنة 897هـ = 2 من
يناير سنة 1492م. وقد مر على سقوطها 538 سنة.
وهاجر بعدها أبو عبد الله
الصغير إلى بلاد المغرب الأقصى، واستقر بفاس، وبنى بها قصوراً على طراز الأندلس،
وكانت ذريته بعده يعدون من جملة الشحاذين.. إنها
عاقبة الذل والخيانة[7].
مسك الختام
انطوت صفحة عظيمة من
التاريخ، وانتهت حضارة وصلت إلى أوج ازدهارها، وخسر العالم حضارة الدين والدنيا في
الأندلس، وارتفعت راية النصرانية على أرضها، وغربت شمس حكم المسلمين هناك بسبب
مخالفة سنن الله في استمرار الأمم ورقيها، فأصبحت حضارة الأندلس حصيداً حصدته سنن
التاريخ جزاء وفاقاً.
ورغم
سقوط الأندلس في يد الفرنجة، لكنها ستعود لنا يوماً ما، يوم يأخذ المسلمون بسنن
النصر وقوانينه، بل سترجع كل بقعة أخذت منهم.
:: مجلة البيان العدد 325 رمضان 1435هـ، يوليو 2014م.
[1] سنن أبي داود، ح4297.
[2] أخذوا بِالسنِينَ: أي المجاعة والقحط.
[3]
سنن ابن ماجه، ح4019. حديث حسن.
[4]
سنن أبي داود، ح3462، قال الألباني: حديث
صحيح.
[5]
مصرع غرناطة، شوقي أبو الخليل، ص120.
[6]
سقوط الأندلس: دروس وعبر، ناصر العمر، ص 27.
[7]
دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان: ج7 ص257 وما
بعدها.