اصبروا على لغتكم
للغتنا العربية المجيدة أن
تفـاخر غيرها من لغات الدنيا؛ فقد اصطفاها الله تعالى من بين ألسـن كثيرة ولغات
عـديدة فـأنزل بها كتابه العزيز عربياً مبيناً، فاجتمع العرب – بعدما كانت لهـم
لهجات مـتقاربة - عـلى لهجـة قـريش وانصهرت لهجـاتهم فيها، فكـان اجـتهـادهـم ذاك
ووحـدتهم مظهـراً رائعـاً مـن مظـاهر نهـضـة عـربية ثـقافـية وفـكرية.
ومـا زال الـمسلمون جـيلاً
بعـد جيل، عرباً وعجماً؛ يعظّمون العربية ويفخرون بها، إلى أن ابتلوا بدعوات هجينة
في المشرق والمغرب إلى إحلال العامية في المحادثات والمكاتبات بـدل الفصحى،
ورويداً رويداً استجـيب لتلك الدعـوات الـمريبة، فصارت أحاديـث السياسيين
والإعلاميين والفنانين بالعامية، بل امتدت هـذه اللوثة إلى ما هـو أفظع، امتدت إلى
مجالات الـعـلم والفـكر والأدب والـدين والتـدريس، فـصـارت الأحـاديث الـتربـوية
الـدينية باللـهجات المختلفة، وأقـحم فـي الأدب والـفكر القصص والأغـاني الشـعبية
والزجـل والـنظـم النبـطي، وصـار ذلك جـزءاً مـن مـقررات كـليات الآداب.
إن هـذا الإقحـام للـعامية
في الحياة اليومية، العـلمية والفكرية والأدبية والـفـنية؛ يـسهـم بشكل واضح فـي
حـرب خفـية أو معـلنة علـى اللغـة العـربية تـحت مسـميات مخـتلفـة قـصد
إضـعافـها وتـهويـنها، ومـا الحـديث عـن “التـعدد اللـغـوي” و”الديـمقـراطـية
اللـسانـية” و”الانفتاح على اللهجات”، وعقد الملتقـيات والمـنـتديات لذلـك؛ إلا
تخـفٍّ تـحت شـعـارات برّاقـة خـداعـة ظـاهـرها الـتسامـح وبـاطنـها
الـخلـوص إلـى الـعربـية والـتخـلص مـنهـا.
وغـالباً مـا يُتـهم
الـمناصرون للعـربية الـمنافحون عـنها باختـلاق الـصراع مع ثلة من “المتنورين
المنفتحين” الذين لا همّ لهم إلا إعادة الاعتـبار إلى لهجاتنا المظلومة.. لكنها في
الحقيقة حرب لغوية شـرسة تـريـد أن تمـحو وتثـبت؛ تمحـو لـغة عـظيمـة خـالـدة أفنى
في خدمتها الأسلاف أعـمارهم فبلـغتنا مؤصلة غضة طرية، وتثبت لهجات ضيقة مختلفة
ليست معياراً لرقي لغـوي أو فكري أو حـضاري. وللأسف، فإن جهـود الدعـاة الجـدد إلى
اللهجات المحلية تنبع وتصب في مصلحة اللغات الأجنبية، خاصة لغة المحتل الذي سجل له
التاريخ أنـه مـا احـتل أرضـاً إلا وسـعـى فـي بسـط هيمـنته اللغـوية، إلـى جانب
هيمنـته الاقتـصادية والفكرية. والحق أن اللغة والفكر لا ينفكان أبـداً؛ ولذلك كان
دعاة الـلهجات مـن أكثر الناس استلاباً وانبهاراً بأنماط ثقافية وفكرية غريبة عن
مجتـمعاتنا العـربـية المـسلمة، وقـد صـار أكيداً أن اللغـة – أياً ما كانت –
ليـست وسيلة لتعـبير كـل قـوم عـن أغراضـهم وعـواطفـهـم فحـسب، بـل هي أكثر مـن
ذلك، هي لـبنة أسـاسية فـي بناء الهـوية والفـكر، والنـشوء عـلـى لغة وتشربها
نشـوء على ثقـافتها وتـمسك بأصـولها.
وفي الـتاريخ الحـديث
لـمغربـنا الحبـيب نجد المحتل الفرنسي – قبل أن يرحل إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم –
قد حرص على مزاحمتـه للـغتنا العـربيـة الأصيـلة بلـغتـه الـفرنسية
الدخيلة، ونجح إلى حد كبير في إقناع فئة مـن المجتمع بـأن الفرنسية لغة العلم
والحـضارة والتقـدم والحـب، وأن الـطريق سـالكة إلـى تـلك المبـتغيات إذا اتخـذت
الـفرنسية وسـيلة.. واسـتـقر في أذهـان كثير أن العـربية لغـة التخلف العلمي
والحضـاري والجـفاف العاطـفي. وليس كذلك، فنحـن نعيب لغـتنا، وما للغتنـا عيـب
سوانـا، ولقـد أثـبتت هـذه اللـغـة الـمجيدة أنها قادرة على مواكبة العلوم
والمستجدات، وقد كانت لأسلافنا مسـاع مشـكورة فـي التأليـف في العلوم المختـلفة
كالـرياضيات والكـيمياء والطـب والفـلك بلغة عـربية مبـينة، ولم تـعي هـذه اللغة
بالتعبير عن تلك العلوم؛ فأبو عبد الله الخوارزمي وابن البناء المراكـشي وأبو بكر
الرازي وأبـو جـعـفر ابـن الـجـزار وأبـو القـاسم الزهــراوي وجـابر بـن حـيان...
أفـادوا الإنـسـانـية بابتكاراتهم وتآليفهم التي حرروها بالعربية لا بلغـة أخـرى.
أما التعبـير عما يعتلج في النـفس من لواعج الحب، فإن في تراثنا الأدبي ما ليس في
تـراث الأغـيار، وهذه دواويـن الأدب حبلى بأشـعـار العـباس بـن الأحـنف وجمـيل بـن
معـمر وكـثـير عـزة وقيـس بن الـملوح، فيها من العواطف الجارفة والمشاعـر الجـياشة
مـا يذيب الـقلوب ويقـطع الأكـباد.
وهـكذا، فـالدعوة إلـى
الاعتـناء باللهجـات العـامية صنـوة الارتـماء فـي أحـضان اللغات الأخرى ووضع
العربية على الهامش ريثما تحين الفرص السانحة للإجـهاز عليها غـيلة... وقد
شـاهـدنا وسمعـنا في قـنواتـنا التـلفـزية والإذاعـية طغـيان العـامية فـي مختلف
البرامج الحوارية والاجتماعية، ووجـدنا في الأكشاك “مجلة” تكتب بالعامية المبتذلة،
ومن الغريب أن من كان قائماً على هذه المجـلة كـانت لـه مـجلة أخرى بالفـرنسية
تـراعي أشـد المراعاة قواعـد الفرنـسية وطـرائقـها فـي التعبير.
ولما كان ما ذكر آنفاً، فإنه
لا يجوز السكوت على إقصاء الفصحى وعقوقها وإهمالها، فقبـيح مـن الإنسان أن يـرى
نـفسه غـير معني بلغته، التي ليست لغة الأجداد والأدب الراقي فقط، بـل هي لـغة
تسـتوعـب القـرآن، وتنـصهر فـي الدين، وتمـثل الفكر، وتعكس الهوية... وهؤلاء
اليابانيون والصينيون وغيرهم يقون لغاتهم شر العولمة ويجدّون في الحفاظ عليها إذا
تهددتها اللـغات ودهـمتها الأخـطار مع ما فيها من صعوبة وتعقيد، ونحن أولى أن
نعتني بلغتنا الشريـفة، وقـد وسعـت كـتاب الله حفـظاً وغـاية، وما ضـاقـت عـن آي
وعـظـات، وإن “العوربة” – على حد تعبير أحد الباحثين - خير مواجهة للعولمة، وذلك
بدرء الأخطار التي تحدق بلغتنا عبر العناية بها تعليماً وتدريساً وكتـابة ومخاطبة،
ولـن يتحـقق ذلك بالـتـثاقـل إلـى الأرض والتمـنّي عـلى الله الأمـانـي، بـل
بـالـعـمـل الجـاد الدؤوب، والمـنهجـية الدقيـقة المحكمة. وعلى الدولة - والعربية
لغة رسمية في دستورهـا - أن تـوفـر لـهـا أسـباب الـثبـات بالتمكين لها في الإعلام
الخاص والعـام، وفـي التعـليم بالـدربة عـلى قراءة القـرآن والـشعر والنثر وحفظ
منتخـبات من ذلك كـله، وتعـريب البحـث العلمي فـي الجامـعات والـمخـتبرات، وكـذا
حـث القـائمـين عـلى العلوم المختـلـفة بالـتزام العربـية الفـصيـحة، ولا نغفل دور
الآباء والأساتذة في تحبيب العربية إلى الناشئة، فله الأثر الكبـير، فالـولـد
والمتعـلم مولعـان بتـقليد الأب والأستـاذ، إضافـة إلى مـا يملكانه مـن سلطـة
معنوية مـؤثـرة.
وصفوة
الـقول: إن مكـر اللـيل والنهـار باللـغة العـربية لا يـسمن ولا يغـني مـن جـوع ما
دمنا نعض عـلى لغـتنا بالنواجذ، وإننا لا نخـاف عـلى لغـتنا مـن الضـياع بقـدر ما
نخـاف على أنفسنا منه، فالعربية محفوظة بحفـظ الذكر، لكـننا مطـالبون باتـخاذ
الأسـباب القـمينة بصيانتها مـن عبـث العـابثين... فـامشوا واصـبروا على لغتكم، إن
هـذا لشـيء يـراد.
:: مجلة البيان العدد 323 رجب 1435هـ، مايو 2014م.