كيف نكون أوفياء حقاً؟

كيف نكون أوفياء حقاً؟

 

مما لا شك فيه أنه انتشرت بعض مظاهر التطفيف المذموم في أخلاق كثير من المسلمين في هذه الأيام بشكل كبير؛ فقد يتبادل الزوجان المحبة، والأصدقاء الود، والأقارب الحب؛ ما دامت الديار عامرة، وأهدافهم الدنيوية محققة، فإذا ما باعدت الأيام بينهم، نسي كل منهم صاحبه وانشغل بحياته؛ فالميت لا يعود، فلا يُذكر بعد موته إلا أياماً، وربما يُذكر فترة قصيرة، لكنه يُنْسَى بعد ذلك طويلاً، ولا يتذكر المودة والمحبة وآصرة الرابطة الإيمانية والأخوية إلا كل صاحب خُلق رفيع ووفاء غير منقطع. ومن أجل ضعف التخلق بهذا الخلق الكريم كانت هذه الكلمات.

معنى الوفاء لغةً:

الوفاءُ ضد الغَدْر، يقال: وَفَى بعهده وأَوْفَى. بمعنى، ووفى بعهده يفي وفاءً، وأوفى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه[1].

معنى الوفاء اصطلاحاً:

الوفاء هو: (ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء).

وقيل: (هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه، ويرهن به لسانه، والخروج مما يضمنه، وإن كان مجحفاً به)[2].

أنواع الوفاء:

إن للوفاء أنواعاً عدة، فباعتبار الموفَى به هناك: الوفاء بالوعد، والوفاء بالعهد، والوفاء بالعقْد.

وباعتبار الموفَى له هناك: الوفاء لله، والوفاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، والوفاء للناس.

فضل خُلق الوفاء:

الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أنَّ الوفاء صدق اللسان والفعل معاً، والغدر كذب بهما؛ لأنَّ فيه مع الكذب نقض العهد.

والوفاء يختصُّ بالإنسان، فمن فُقِد فيه فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان، وصيره قواماً لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون ولا يتمُّ تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب، وارتفع التعايش، ولذلك عظَّم الله تعالى أمره فقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: ٤٠]، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: ٩١][3].

إن (الصدق في الوعد وفي العهد من الفضائل الخُلقية التي يتحلى بها المؤمنون، والكذب في الوعد وفي العهد من الرذائل الخلقية التي يجتنبها المؤمنون.. ويشترك الوعد والعهد بأنَّ كلّاً منهما إخبار بأمر جزم المخبر بأن يفعله، ويفترقان بأنَّ العهد يزيد على الوعد بالتوثيق الذي يقدمه صاحب العهد من أيمان مؤكدة، والمواعدة مشاركة في الوعد بين فريقين، والمعاهدة مشاركة في العهد بين فريقين، فيعد كلٌّ من الفريقين المتواعدين صاحبه بما سيفعل، ويعاهد كلٌّ من الفريقين المتعاهدين صاحبه بما سيفعل)[4].

لقد (وصف القرآن الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات فقال: {وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ} [البقرة: ١٧٧]، وقال: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَّقِينَ} [آل عمران: ٧٦]، ونقض الميثاق يؤدي إلى سوء السلوك والأخلاق، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ} [المائدة: ١٣].

واستمراراً لورود العهد والميثاق في مجال بناء الأمة على الأخلاق السامية؛ يأمر الله عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعدد من الوصايا التي تُكَوِّن جيلاً ذا خلق رفيع، ثم يختم تلك الوصايا الخالدة بقوله سبحانه: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: ١٥٢]، فالوفاء بالعهد ضمانة لأداء تلك الأوامر واجتناب ما ورد من نواهٍ، ومن ثمَّ يكون الانقياد والطاعة وحسن الخلق، وإخلاف العهد نقض للعهد ينحطُّ بصاحبه إلى أسوأ البشر أخلاقاً - وبخاصة إذا كان العهد مع الله -، فإنَّ المتصف بتلك الصفة ينتقل من مجتمع الصادقين المتقين إلى تجمع المخادعين الكاذبين من المنافقين {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: ٧٧][5].

مواقف من حياة سيد الأوفياء:

وهذه مواقف سريعة تبيّن قيمة الوفاء في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نبدؤها إلا بأشد الوفاء وأصعبه الذي لا يقوى عليه إلا أوفياء الرجال:

الوفاء مع العدو:

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم - سيد الأوفياءكان وفيّاً حتى مع الكفار، فحين رجع من الطائف حزيناً مهموماً بسبب إعراض أهلها عن دعوته، وما ألحقوه به من أذى، لم يشأ أن يدخل مكة كما غادرها، إنما فضّل أن يدخل في جوار بعض رجالها، فقبل المطعم بن عدي أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، فجمع قبيلته ولبسوا دروعهم وأخذوا سلاحهم وأعلن أن محمداً في جواره، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم الحرم، وطاف بالكعبة، وصلى ركعتين، ثم هاجر وكوَّن دولة في المدينة، وهزم المشركين في بدر، ووقع في الأسر عدد لا بأس به من المشركين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كان المطعم بن عدي حيّاً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له” [أخرجه البخاري].

فانظر إلى الوفاء حتى مع المشركين.. ومع أبي البحتري بن هشام، وهو أحد الرجال القلائل من المشركين الذين سعوا إلى نقض صحيفة المقاطعة الظالمة، فعرف له الرسول صلى الله عليه وسلم جميله وحفظه له، فلما كان يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: “ومن لقي أبا البحتري بن هشام فلا يقتله”.

وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتخلّق بخلق الوفاء مع القريب والبعيد، العدو والصديق، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي، حسيل. قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريده. ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال: «انصرفا.. نَفِي بعهدهم، ونستعين الله عليهم»[6].

يفي بعهد الأعداء، ويستعين بالله عليهم.. ما أروع وأنبل هذا الخُلُق الرفيع صلى الله عليه وسلم!

وذات يوم وقع أبو العاص زوج زينب - بنت النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة في الأسر بين يدي المسلمين، وكان لا يزال على عدائه لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فأرادت زينب أن تخلِّصه من الأسر، فأرسلت إلى المسلمين قلادة ذهبية تفتدي زوجها، فلما عرض المسلمون القلادة على النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليها وتغيّر وجهه وبكى؛ لأنها قلادة خديجة قد أهدتها إلى زينب في يوم زواجها، ولم يكن عند زينب أثمن منها تفتدي زوجها به. لقد هيَّجت القلادة ذكر خديجة في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر بإطلاق سراح زوجها[7].

وقد سأل هرقل، إمبراطور الروم، في ذلك الوقت أبا سفيان بن حرب، وكان ذلك قبل إسلامه في حديث طويل، ومنه: «وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد. وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون»[8].

والحق ما شهدت به الأعداء، فها هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى صور الوفاء وعدم الغدر، مع العدو قبل الصديق، ومع البعيد قبل القريب، ومحمد صلى الله عليه وسلم مدرسة تربوية من طراز رفيع، ولِمَ لا؟ وهو تربية رب العالمين، وغرس يد القدرة، والموجه بعناية ولطف أرحم الراحمين.

الوفاء للأهل:

قد يتزوج الرجل زوجةً بعد أخرى ويفارقها إما بطلاق أو وفاة، ومع استحداث زوجة أخرى ربما ينسى فضائل الأولى، وأياديها البيضاء، وربما يمدح الحدثى؛ رغبة في إرضائها، متناسياً للزوجة الراحلة فضلها، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً عالياً للوفاء ورد الجميل لأهله، فقد كان يعامل خديجة رضي الله عنها بغاية الإكرام والتقدير حال حياتها، وظل يذكرها ويثني عليها بعد وفاتها، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة»[9].

وتذكر عائشة رضي الله عنها وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بعد وفاتها بقولها: «ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها! ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد»[10].

ما هذا الوفاء العجيب؟! يذكرها بعد وفاتها بسنوات وعائشة رضي الله عنها لم ترها، وهذا أعجب، فقد تغار من ضَرَّة معها تقاسمها زوجها، لكنها تغار من ميتة، وذلك يبرز كمّ الوفاء منقطع النظير من سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. وما أجمل كلمة: «إنها كانت.. وكانت»، والحذف يفيد العموم والشمول والمعاني الغزيرة الجميلة غير المحصورة، وهذا من وفائه صلى الله عليه وسلم.

بل إنه أظهر البشاشة والسرور لأخت خديجة لما استأذَنتْ عليه لتَذَكُّره خديجة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنتْ هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة[11] فارتاح لذلك، وقال: اللهم هالة بنت خويلد. فَغِرْت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين[12] هلكت في الدهر فأبدلك الله خيراً منها»[13].

وفي رواية أنه غضب صلى الله عليه وسلم من هذا الكلام، وقال: «ما أبدلني الله خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس»[14]. وهذا يصور مقدار وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة وحفظه حقها رضي الله عنها.

لقد اتصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بخُلُق الوفاء الكامل تجاه من شاركته حياته، لقد تزوج من خديجة، وعاش معها زهرة شبابه، ورزقه الله منها الولد، وتحمّلت معه المصاعب والمشكلات، فكانت نِعْم اليد الحانية عليه، ونعم القلب الرؤوم له، وكان وجودها كافياً لإزالة مشاعر الحزن من حياته، وماتت وعمره صلى الله عليه وسلم خمسون سنة، ولم يتزوج عليها امرأة أخرى طوال مدة زواجها التي استوعبت شبابه، رغم أن هذا الأمر كان شائعاً في ذلك الوقت، وفي ذات يوم تطرق على بابه امرأة طاعنة في السن فيُحسن استقبالها ويسألها عن حالها بلهفة، فلما خرجت قالت له زوجته عائشة: لِمَ تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! كأنها تعجبت من اهتمامه الزائد بها. فقال: «يا عائشة إنها من صويحبات خديجة، وإنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حُسْن العهد من الإيمان»[15].

إن هذه الأخبار تعد أمثلة مهمة في الدفاع عن أهل الفضل والتقدم في حال غيبتهم، فالمسلم يُحفظ له حقه في حال حضوره وغيبته، وفي حال حياته وموته؛ لأن الحفاظ على ذلك ليس مبعثه محاسبة صاحب الحق، وإنما مبعثه رقابة الله عز وجل في حقوق المسلمين أولاً، ثم الوفاء لأصحاب المواقف العالية في بذل النفس والمال من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة المسلمين.

الوفاء بالعهود:

لقد أكد القرآن الكريم أهمية الوفاء بالعهود التي يعقدها المسلمون مع المخالفين لهم، فمن ذلك قوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَّقِينَ} [التوبة: ٤]، كما ذم القرآن الذين ينقضون العهود مع الآخرين فقال: {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال: ٥٦]، وحث القرآن على الوفاء بالعهود والعقود حتى حين يصل الأمر إلى خوف الخيانة من الآخرين وظهور بعض المؤشرات منهم تدل على ذلك، فهذا لا يبرر للمسلمين نقض العهد، بل عليهم أن يعلنوا ذلك لغيرهم؛ كما جاء في قوله تعالى: {وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـخَائِنِينَ} [الأنفال: ٥٨].

وقد عدَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن من أسوأ الصفات: صفات المنافقين، ومن تلك الصفات أن يكون الإنسان لئيم الطبع خائناً غادراً لا يتصف بالوفاء، فقال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»[16].

كيف نتأسّى بنبينا في خُلق الوفاء؟

ما أحوجنا إلى أن نتخلق بخلق الوفاء في هذا الزمن؛ فهو يقوي الترابط الأسري، ويمنح الإنسان البهجة والسرور في حياته، إذ يشعره بآدميته.. فالوفاء من صفات الأوفياء، ومن أفضل الشِّيم عند العرب، وأعلى منازل الشهامة، والمروءة، وأسمى وأعظم الصفات التي يمكن أن يتصف بها الإنسان.

وإن الحديث عن الوفاء مع الناس حديث ذو شجون؛ فكم من الناس وعَدَ ثم أخلف، وعاهد ثم غدر!

هل جرب العبد منا أن يكون وفيّاً مع الله الذي أنعم عليه وأعطاه وأسبغ عليه من واسع فضله؟! أم قابل العبد منا نعم سيده بعصيانه؟! أين الوفاء لله بنعمه وعطائه ومنّه وآلائه؟! وهل تأمل العبد منا يوماً قولَه تعالى: {وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: ٣٧]؟! إنها واللهِ تزكيةٌ عظيمةٌ من خالقِ السماواتِ والأرضِ، وشهادةُ تقديرٍ من العليمِ الخبيرِ لإبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ بأنه وفَّى جميعَ ما أُمرَ به من التكاليفِ الكبيرةِ، وقامَ بجميعِ خصالِ الإيمانِ على أتم الوجوهِ؛ لذلك جعلَه اللهُ تعالى إماماً للناسِ يقتدون به ويأتمون بهديه كما قال تعالى: {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً} [البقرة: ١٢٤].

في المقابل هل نحن أوفياء مع الله تعالى؟! هل أخلصنا الأعمال بما يوازي عطاء الله لنا؟! هل لو اطلع الله جل في علاه على قلوبنا سيمنحنا شهادة كما منح إبراهيم عليه السلام؟! وهل نحن أوفياء في الطاعة ونثبت على الطاعات؟!

هل جرب العبد منا أن يكون وفيّاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذكره ويصلي عليه ويعرف تضحياته وعظيم منة الله عليه ببعثته، فيتعلق قلبه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبع ملته وهديه ويلزمهما حتى مماته؟!

وإذا كان الوفاء صفة كريمة يتحلى بها كل إنسان مخلص، صادق، أمين؛ فإنه لا شك يكون من أجمل الصفات المشرّفة عندما يلزم العبد أن يكون وفيّاً مع الوالدين، وهو من أهم ما يجب لهما من موجبات الرحمة، كما يجب برهما والإحسان إليهما، والاعتراف بفضلهما، والاعتراف بتعبهما وبذلهما في التربية، {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: ٢٤].

والوفاء بالنسبة للأولاد يكون بتربيتهم الصالحة، وتأمين احتياجاتهم، وتعليمهم أمور دينهم، وحفظهم من الانحراف، وكذلك من الوفاء حثّهم على طرق العدل والاستقامة، وإبعاد أصدقاء السوء عنهم، ومن هم أهل للضياع والضلال والخسران.

والوفاء من الزوج لزوجته يتم بالعطف عليها، واحترامها، وإكرامها، والوفاء بين الإخوان يجب أن يكون مبدؤه المعاملة الحسنة، والصدق بينهم، والمحبة، وتبادل أشد الاحترام.

أما الوفاء مع الأصدقاء فيكون بمحبتهم في الله، وأداء حقوق الصداقة الواجبة؛ مثل تبادل الزيارات والاطمئنان عليهم إذا كانوا مرضى، وتذكيرهم إذا نسوا، وإعانتهم عند الحاجة والوقوف بجانبهم.

هل تتذكر مَنْ أحسنوا إليك في حياتك على مر سنواتها؟!

 هل تتذكر إحسان والديك؟!

 هل تتذكر إحسان معلمك؟!

هل تتذكر إحسان صديق في العمل؟!

 إن الوفيَّ يحفظ الجميل ولا ينساه ولو بعد عشرات السنين.

فاللهم اجعلنا من الأوفياء، واحشرنا مع سيد الأوفياء، واختم لنا بحسن الخاتمة أجمعين.

 

:: مجلة البيان العدد  322 جمادى الآخرة 1435هـ، إبريل  2014م.


[1] انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ص 878.

[2] انظر: التعريفات للجرجاني، ص 253.

[3] انظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني، ص 292.

[4] انظر: الأخلاق الإسلامية، عبد الرحمن الميداني، (1/ 501).

[5] انظر: العهد والميثاق في القرآن الكريم للشيخ ناصر العمر، ص 183.

[6] أخرجه مسلم (1787).

[7] سير أعلام النبلاء (2/246).

[8] متفق عليه: أخرجه البخاري (2941) ومسلم (1773).

[9] متفق عليه: أخرجه البخاري (3815) ومسلم (1886).

[10] أخرجه البخاري (3818).

[11] يعني لتشابه صوتيهما.

[12] يعني لا أسنان لها من الكبر.

[13] أخرجه البخاري (2831).

[14] أخرجه أحمد ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/227): إسناده حسن.

[15] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 19/123، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/426).

[16] متفق عليه: أخرجه البخاري (34) ومسلم (58).

أعلى