• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مائة عام من السير على درب العلو الكبير

مائة عام من السير على درب العلو الكبير


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.. وبعد:

فقد مثَّل الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية الكبرى انعطافة خطيرة في مسار الأحداث بمنطقة الشرق الأوسط؛ ففي 24 نوفمبر 2013 وُقع اتفاق نووي بين مجموعة 5+1 وإيران في جنيف بسويسرا، نص الاتفاق على تجميد قصير المدى للبرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيض العقوبات الاقتصادية على إيران، بينما تعمل البلدان الموقِّعة على اتفاق آخر طويل الأجل.

جاء هذا الاتفاق لينهي أزمة مصطنعة استمرت لعدة سنوات بين إيران وبلدان غربية حول برنامجها النووي، وهو الاتفاق الرسمي الأول بين إيران والولايات المتحدة منذ 34 عاماً.

نص الاتفاق على عدم إضافة أي عقوبات جديدة على إيران طوال الستة أشهر التالية للاتفاق، وعلى تخفيف تدريجي للعقوبات المفروضة عليها، مع الحرص على عدم خفض نسبة صادرات إيران إلى ما دون النسبة الحالية، وتحرير 400 مليون دولار من أموال إيران في الخارج وإزالة الحظر على شراء الذهب والمعادن الثمينة، وكذلك إزالة الحظر على صناعة السيارات والمواد البتروكيماوية وإصلاح الطائرات المدنية الإيرانية في الخارج، مقابل وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 5%، وإبطال اليورانيوم المخصب بنسبة 5% إلى 20%، وعدم إضافة أي جهاز للطرد المركزي في المنشآت النووية. وفي يناير 2014 تقرر تحرير 4.2 مليار دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج على دفعات.

اللافت هنا أنه عندما أُبرم ذلك الاتفاق سارعت القوى الدولية المشاركة فيه لطمأنة اليهود بأن الاتفاق ليس للإضرار بهم، بل لمصلحتهم، ونشرت الصحافة العالمية في حينه تصريحات لكل من رئيس الولايات المتحدة (باراك أوباما) ووزير خارجيته (جون كيري) ووزير خارجية بريطانيا (وليام هيج)؛ بأن «إسرائيل» ستكون أكثر أمناً بعد ذلك الاتفاق! فهل أُبرم ذلك الاتفاق من أجل تأمين ذلك الكيان المشؤوم؟!

لقد تُركت بقية الدول المتخوّفة من جموح القوة الإيرانية وتفلتها، دون أدنى حد من الطمأنة! وكأن اليهود وحدهم هم أصحاب الحق في تحقيق أمنهم، والحق في دفع أي خطر يهددهم!

تصريحات الطمأنة هذه من قادة الغرب، وما تبعها من خطوات التطبيع مع « إسرائيل»؛ أعادت تأكيد الحقائق التالية:

أن إنشاء ثم إعلاء شأن الكيان اليهودي في قلب أمتنا، كان ولا يزال مشروع العصر الذي تبنّاه كل الكارهين والطامعين في أمة الإسلام، من قوى الاستعمار القديم، والاستكبار الحديث.

أن العداوة العقدية المزمنة بين النصارى واليهود قديماً وحديثاً بسبب تكفير اليهود عيسى - عليه السلام - وتآمرهم على قتله؛ تتوارى عندما يكون العدو المشترك هو أهل الإسلام، وتحديداً أهل السنة منهم.

أن الهاجس الأكبر لدى قوى الغرب في منطقتنا العربية هو خوفهم المتعاظم على ما يسمى «أمن إسرائيل»، وهو الهاجس الذي يسيطر على تلك القوى منذ أن زرعت ذلك الكيان المسموم في قلب الأمة.

أن تأثير اللوبيات اليهودية على القرارات المتعلقة بأمتنا في توجّهات السياسة الغربية، من الأمور التي فضحتها مسارات الأحداث في السنوات القليلة الماضية – خاصة في سورية ومصر -، حيث ظهر أن أمن الكيان الصهيوني هو المحرك الأكبر للمواقف المتعلقة بتوجهات تلك السياسة.

هذه المواقف الأخيرة التي تسير في اتجاه تحويل الخطر الإيراني بعيداً عن كيان اليهود، تعيدنا إلى ضرورة إعادة رصد السياسات الغربية التي كانت تقف وراء الأحداث الكبرى في منطقتنا العربية منذ نحو قرن، حيث يبدو جلياً أن تلك المواقف كانت ولا تزال تمثّل سلسلة متواصلة من السعي نحو الوصول بذلك الكيان الصهيوني إلى مرحلة العلو الكبير، والذي أشار إليه القرآن في سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ٤]، فهو علو يَدفع به ويُدفع إليه طواغيت العالم منذ أكثر من مائة عام، حتى يتحقق هذا القدر المحتوم، عن طريق حبال إنقاذ مؤقتة وقليلة لتلك الأمة الذليلة، كما قال الله تعالى {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْـمَسْكَنَةُ} [آل عمران: ١١٢].

وحتى لا ننسى مكمن الداء ومنبع البلاء ممثلاً في الإصرار على تحقيق العلو الكبير لكيان اليهود الممقوت والموقوت المسمى «إسرائيل»؛ لا بد من استذكار أهم محطات ذلك العلو خلال المائة عام الماضية، لاستحضار أبرز معالم مسيرته التي رعتها وطوّرتها قوى الاستكبار العالمية، خاصة أن تلك التطورات تنقل أمتنا إلى ورطات وطامات لا مخرج منها إلا بالدخول مرة أخرى في دين الله بمسؤولية، وأخذه كله بقوة، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: ٢٠٨].

لنتأمل محطات علو اليهود في منطقتنا العربية، دون أن نغض الطرف عن أن أبعادها البعيدة عالمياً هي التي تترجم أبعادها القريبة عربياً وإسلامياً.

الصليبية العالمية وكيان صهيون.. من 1914 إلى 2014:

في عام 1914 تآمر صليبيو أوروبا على تركيا بتوريطها طرفاً في الحرب العالمية الأولى، لتخرج منها مهزومة، وليتحكم فيها يهود تركيا الماسونيون بقيادة كمال أتاتورك المنحدر من يهود الدونمة، وليبدأ إنشاء الكيان اليهودي في غياب كامل للكيان الإسلامي المدافع عن حرمات الأمة.

وفي عام 1917 وعد النصارى الإنجليز اليهودَ بوطن قومي على الأرض المقدسة باسم (وعد بلفور)، وبعده بعام تحتل بريطانيا فلسطين مدة 30 عاماً كي تهيئها لليهود، ثم تمكنهم فيها.

عام 1924 أُسقطت الخلافة العثمانية رسمياً لتمهيد الطريق نحو إقامة الدولة اليهودية على أرض بيت المقدس بعد أن رفض الخليفة – السلطان عبد الحميد الثاني - بيعها لليهود.

عام 1948 أصدرت الدوائر الصليبية الدولية قرار التقسيم لأرض فلسطين، وبموجبه أقرت تهجير شعبها من أراضيه التي احتلها اليهود بعد حرب النكبة، وإخلاء تلك الأرض للمهاجرين اليهود.

عام 1956 وقفت إنجلترا وفرنسا بجانب دولة اليهود في اعتداء ثلاثي، لتأمين الملاحة الإسرائيلية في الممرات المصرية.

عام 1967 ساعدوها على هزيمة عدة جيوش عربية لأجل توسيع حدودها بالاحتلال، ومساعدتها على جعل القدس الشرقية التي فيها المسجد الأقصى عاصمة لها.

عام 1969 ضُرب المقاتلون الفلسطينيون وأُخرجوا من الأردن بإشراف دولي، لحماية الدولة اليهودية من أي عمليات فدائية.

عام 1973 أمدت أمريكا دولة اليهود – أثناء حرب أكتوبر - بجسر جوي عسكري لإجهاض النصر الذي استهدف استعادة ما سلبته «إسرائيل» من أراضٍ عربية في حرب 1967.

عام 1977 أُخرجت مصر بمقتضى اتفاقية (كامب ديفيد) من معادلة ما كان يسمى (الصراع العربي - الإسرائيلي) بدفع أمريكي، لتنفرد إسرائيل بالقوة المتنامية المتحركة في المنطقة.

عام 1980 تُدمر «إسرائيل» المفاعل النووي العراقي كي تظل هي منفردة بتملّك السلاح النووي الذي حازت منه عدداً يهدد كل العواصم العربية.

عام 1982 تُهاجم إسرائيل لبنان، وتحتل بيروت؛ لاختبار التزام مصر باتفاقية كامب ديفيد التي تنص على أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب بين مصر «وإسرائيل»!

عام 1985 يعبر الطيران الحربي الإسرائيلي أجواء دول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، وليضرب قيادات المقاومة الفلسطينية الذين أخرجوا من الأردن إلى تونس.

عام 1989 تغري أمريكا صدام حسين بغزو الكويت لتوقعه في حبائل مواجهة عالمية بعد أن هدد بإحراق نصف إسرائيل، وليتم تجريده من القوة والخبرة اللتين اكتسبهما من حرب الثماني سنوات ضد إيران، حتى لا يمثل العراق قوة تهديد محتمل ضد كيان اليهود مرة أخرى.

عام 1991 وبعد هزيمة العراق، دفعت القوى الدولية معظم الدول العربية للاعتراف الضمني بدولة اليهود، من خلال مؤتمر مدريد للسلام، الذي أبدت فيه أنظمة كثيرة رغبتها في صلح جماعي معها.

عام 1993 يجري توريط منظمة التحرير الفلسطينية التي تعد نفسها - ويعدها العرب - «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب الفلسطيني، في الاعتراف بحق اليهود في دولة مستقلة ذات سيادة على كل الأراضي التي احتلتها من فلسطين عام 1948، وتتعهد أمام أمريكا – بحسب اتفاقية (أوسلو) - بنبذ «العنف» ضد عدوها، وإقامة سلام دائم معه!

عام 1994 تساق مملكة الأردن كي تحذو حذو منظمة التحرير الفلسطينية، فتعترف بإسرائيل اعترافاً كاملاً في اتفاق وادي عربة، وتلتزم بالسلام الدائم معها.

بعام 2000 ينقضي القرن العشرون وتبدأ الألفية الثالثة بحرب ضد من رفضوا الصلح مع اليهود من الفلسطينيين، وتندلع انتفاضة الأقصى، لتنهيها منظمة التحرير بالدخول في (كامب ديفيد الثانية) التي أراد اليهود منها نزع الاعتراف بملكية الأرض التي يقوم عليها المسجد الأقصى تمهيداً لهدمه.

عام 2003 تغزو أمريكا العراق نيابة عن إسرائيل، فتدمر جيشه، وتسرح جنوده؛ تأميناً لليهود، وتتقاسم أمريكا النفوذ في بلاد الرافدين مع أعداء العراقيين من الإيرانيين.

عام 2006 ينعقد مؤتمر (أنابوليس) برعاية بوش الابن، ليكون موضوعه طلب الاعتراف بـ «يهودية» الدولة الإسرائيلية، والإقدام الجماعي العربي على تطبيع العلاقات معها.

ثم تجيء العشرية الثانية من الألفية الثالثة، لتبدأ معها مقدمات الثورات الشعبية العربية للتخلص من هيمنة الأنظمة الخادمة لـ (أمن إسرائيل)، ليبدأ بعدها فصل جديد من المكر العالمي لإجهاض تلك الثورات لحماية اليهود من «الخطر المحتمل» الذي يهددها!.. ثم يجيء الاتفاق الأخير بين الفرس والروم ليكون مرحلة اتفاق تحصل للمرة الأولى بين الندين التاريخيين لأجل سواد عيون تلك الـ «إسرائيل»!

وكأن هؤلاء اليهود.. وهذه «الإسرائيل».. قد سُخر العالم في هذا العصر لرعايتها وحمايتها!

إن تلك الخطوات البشرية العدائية الظاهرة المعلنة لـ «تصنيع» الكيان الأشد عداوة للذين آمنوا؛ تسير معها يقيناً مراحل قدرية ربانية لإعداد جيل النصر عليه والثأر منه، يراها بعين البصيرة كل مسلم، فيقيننا بأن الله - تعالى – الذي أخبر عن علو اليهود الكبير في الزمان الأخير في قوله: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ٤]، هو الذي أخبر عن نهايتهم بخروج جيل فريد من أولي البأس الشديد: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: ٧].. ويقولون متى هو.. {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: ٥١].

:: مجلة البيان العدد  321 جمادى الأولى 1435هـ، مارس  2014م.

أعلى