الموقف الإسرائيلي من قضية القدس
وُظِّفتْ مدينةُ القدس الغنيَّة بالتاريخ والتراث، كمادة
دعائية لاستقطاب اليهود من كل دول العالم في المؤتمر الصهيوني الأول 1897م، وذلك
لما تحويه من تراثٍ وتاريخ ومركز ديني؛ فاستعمل اليهودُ القدسَ محرضاً لهجرتهم،
واقتطفوا منها جبل صهيون، حيثُ يعتقدون أن هذا الجبل يضم رفات الملك داود، وهو في
أساطيرهم (بيت الإله)، الجبل الذي يحلّ به الله جلّ جلاله، وأسموا حركتهم السياسية
باسم هذا الجبل، وأعادوا لها اسمها الأول (أورشليم)، وشرعوا منذ استيلائهم على
مفاتيحها، وترحيلهم أهلها الفلسطينيين؛ في تحويلها من مركز روحي للديانات السماوية
الثلاث، إلى احتكارٍ يهودي خالص.
لم تبدأ
خطط تهويد القدس، وإقصاء أتباع الإسلام والمسيحية عنها، من يوم تأسيس إسرائيل فقط،
لكنها بدأت في وقت مبكر، عندما طلب اليهود من السلطان العثماني عبد الحميد أن يسمح
لهم بإنشاء دولتهم في القدس، ورفض السلطانُ هذا الطلب، ما أفقده عرشه بفعل
المؤامرة اليهودية التي حيكت ضده، ثم استغل الأثرياء اليهود نفوذهم في بريطانيا
واستطاع المليونير اليهودي «روتشلد» إقناع الحكومة البريطانية بإصدار وعد بإنشاء
وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، في صورة وعد بلفور المشؤوم في 2/11/1917م، ثم استغلَّ
الأثرياءُ اليهودُ الانتداب البريطاني بعدئذٍ ليبدؤوا مخططاتهم لمصادرة القدس،
وتهويدها تهويداً (زاحفاً) وعلى نارٍ هادئة؛ فقد جعل المندوبُ البريطاني مقر
حكومته الانتدابية في القدس، ليفتح أبوابها للمهاجرين اليهود من كل أنحاء العالم،
وأقدم الجنرال ألنبي منذ وطأت قدماه أرض القدس، على تغليب الأقلية اليهودية في
فلسطين، والتي لم تكن تتجاوز 5% من مجموع سكان فلسطين، فاستخدم حجة تنظيم مدينة
القدس وفق مخططات بلدية، واستعان بمهندسين، فقسمها إلى أجزاء: البلدة القديمة،
القدس العربية، والقدس اليهودية، ومنع البناء في البلدة القديمة.
استفاد
اليهودُ من قرار التقسيم 181 في 29/11/1947م، الذي نصَّ على تدويل القدس، أي
اعتبارها منطقة خاضعة لسيطرة دولية، تشرف عليها الأمم المتحدة، ويشمل التدويل
القرى المحيطة بالقدس، كشعفاط وعين كارم وأبو ديس وبيت لحم أيضاً، فاعتبروا
التدويل خطوة مرحلية تشير إلى أن القدس ليست عاصمةً لفلسطين، بل هي مدينةٌ متنازعٌ
عليها، وهكذا جرى تقسيم القدس في عام 1948م إلى ثلاثة أقسام: قسم فلسطيني أردني،
وقسم غربي، ومنطقة دولية.
ثم استغل
الإسرائيليون انتصارهم في حرب عام 1967م، ووظفوه لغرض مصادرة وتهويد القدس، فمنذ
اليوم الأول بعد الحرب 1967م، لخص وزير الحرب الإسرائيلي موشيه دايان سياسة
إسرائيل في القدس عندما قال: «ها نحن عدنا إليك يا أورشليم». فأورشليم ليست مدينة
في إسرائيل، بل إن إسرائيل كلَّها مدينةٌ في القدس.
ومن يومها
بدأت إسرائيل تنفيذ الخطط لمصادرة القدس وتجريف تاريخها الإسلامي والمسيحي، وأشرف
«بن غريون» على الخطة عام 1948م، عندما قال في الاجتماع الأول في الكنيست: «ليست
المشكلة في احتلال القدس.. بل تكمن المشكلة في آليات تنفيذ تهويد القدس».
ومذاك واصل
السياسيون والقادة العسكريون الإسرائيليون سياسة تهويد مدينة القدس، فبدأ التهويد
بإقامة مشاريع خاصة بالقدس، واجتهد العسكريون الإسرائيليون في استحداث مشاريع
التهويد، ومنها مشروع ألون عام 1967م، والذي وضع أسس مصادرة القدس وتهويدها
بالتدريج. ونصَّ مشروع ألون على محاصرة الأحياء العربية، بإقامة تجمعات يهودية
عديدة، وبناء الحي اليهودي القديم، حول محيط الحرم القدسي.
وحوَّل
السياسيون في إسرائيل مدينةَ القدس إلى ساحة للمبارزات الحزبية، مبارزات تهدف إلى
جعل القدس مُلكاً خالصاً لليهود، فوضع «بن غريون» و«غولدا مائير» «وآبا إيبان»
مشاريع قوانين في سبعينيات القرن الماضي تهدف لاعتبار القدس العاصمة الأبدية
لإسرائيل، واستثناء القدس من أي تسويات تنصُّ على إعادتها لما قبل عام 1967م.
وواصل المتطرفون اليهود في حكومة نتنياهو الحالية جهودهم لمصادرة القدس، فقد نشرت
صحيفة هارتس يوم 20/10/2013م، مسودة قانون جديد في الكنيست تقدم به يعقوب لتسمان
من حزب يهودوت هاتوراه، ينص على منع التفاوض على تقسيم القدس في المفاوضات الجارية
بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
استخدمت
إسرائيل كذلك النظام القانوني والمخططات البلدية لمصادرة الأرض وإقصاء السكان
الفلسطينيين، لهدف تهويد القدس ومصادرتها، ومن هذه القوانين: قانون الاستيلاء على
أملاك الغائبين الفلسطينيين؛ فقد أصدرت الكنيست القانون عام 1950م، وهو ينص على
مصادرة ممتلكات الغائبين وضمها لحارس أملاك إسرائيل، وقد عرّف القانون السابق
الغائبين الفلسطينيين وفق التعريفات التالية: «الغائب هو مَن لم يكن موجوداً منذ
صدور قرار التقسيم 29/11/1947م، حتى قيام إسرائيل 14/5/1948، والغائب هو كلُّ مَن
أقام في بلدٍ مُعادٍ لإسرائيل، أو غيَّر مكان إقامته وترك القدس وسكن في بلدة
أخرى، والغائب هو كل من عاد إلى بلده بطريقة غير مشروعة، أي غير قانونية، ويدخل في
تعريف الغائبين أيضاً كلُّ مَن دخل إسرائيل وفق نظام جمع شمل العائلات أيضاً».
وبمقتضى
قانون أملاك الغائبين انتقلتْ أملاكُ الغائبين الفلسطينيين إلى دولة إسرائيل، ومنح
حارس أملاك إسرائيل تفويضاً ببيع هذه الأملاك، أو بالتبرع بها لسلطة تطوير
الاستيطان في إسرائيل، وقد نفذ بالفعل هذا القانون، وسرى مفعوله عام 1953م.
أقدمت
إسرائيل على خطوة أخرى لغرض مصادرة أراضي القدس، فاستفادت من قانون الطابو التركي
الذي صدر في 1858م، ولم يتمكن كثيرٌ من الفلسطينيين من تسجيل ممتلكاتهم في سجلات
الطابو، ونصَّبتْ نفسها مكان الوالي التركي وضمّتْ إلى أملاك الدولة كل الأراضي
الأميرية (الحكومية) والأراضي البور، وهي مساحات الجبال والبحار والأنهار، وهذه
المساحات تبلغ نصف مساحة فلسطين، واستخدمت تعبير (المنافع العامة) لضم كثير من
الأملاك الخاصة أيضاً، ثم شرعت في تنفيذ مخططات تهجير سكان القدس الفلسطينيين
بوسائل أخرى، أهمها: منعهم من التوسع والبناء في ممتلكاتهم وأراضيهم، ورفع قيمة
ضريبة البناء إلى مبالغ خيالية بحيث يصعب عليهم البناء، مع تقييدهم بشروط، أبرزها:
التزامهم بالبناء على 75% من مساحة الأرض المملوكة لهم، في حين يُسمح لليهودي بأن
يبني 250% من المساحة المملوكة له.
وقامت في
إطار سياسة التهجير بترحيل الفلسطينيين بوسيلة أخرى، وهي مصادرة الهويات وإلغاء
الإقامات، فقد نشرت صحيفة هارتس يوم 11/5/2011م تقريراً خطيراً لمركز حقوقي
إسرائيلي يتضمن ما يلي: «هُجّر 140 ألف فلسطيني من عام 1967 إلى عام 1994م، عند
توقيع اتفاقية أوسلو، فخلال 27 عاماً جرى ترحيل خمسة آلاف فلسطيني كل سنة، إضافة
إلى مصادرة هويات المسافرين للدراسة والعمل، فقد كانت الهويات تسحب عند المغادرة
وتستبدل بورقة فقط، لتُلغى إذا لم يعد صاحبها خلال ثلاث سنوات، مع إبقاء سياسة
إسرائيل الثابتة في تهجير عائلات مقدسية كاملة، بعد رفض منح بعض أفراد الأسرة
كالزوج أو الزوجة أو الأبناء حق الإقامة، ما يدفعهم إلى ترك القدس».
ثم انتقلت
إلى غلاف الحرم القدسي نفسه لغرض مصادرته، فحوَّلتْ حائطَ البراق (المبكى) إلى
أكبر مشروع اقتصادي سياحي في العالم، بلباس ديني يهودي، فقد وُجهت إليه كل
الاستثمارات، فقد استثمرت إسرائيل 150 مليون دولار أمريكي لتطوير محيط حائط البراق
عام 2010م، وجعلته مكاناً لإيداع الأمنيات والدعوات وغرزها في شقوق الحائط،
باستخدام نظام البريد الورقي والإلكتروني، وعمّمت هذه السياحة الاقتصادية لتشمل
المسيحيين الصهيونيين أيضاً.
ثم عززت
بناء الكنس في محيط القدس، وبلغ عدد الكنس التي بنيت في المكان أكثر من 60 كنيساً،
منها: كنيس الخراب الكبير وكنيس بيت الجوهر، وهي اليوم تسعى لتأسيس كنيس داخل
الحرم القدسي نفسه، بين المسجد الأقصى ومسجد الصخرة في مكان الوضوء.
ولا يزال
العمل جارياً منذ سنوات لتغيير صورة القدس التقليدية بقبة الصخرة، إلى القدس
بالهيكل الثالث، وفق منظور حركة أمناء جبل الهيكل الأصولية (الحريدية)، فقد نشرت
صحيفة كول هعير في 5/10/ 2001م هذا الخبر: «يقف أمناء جبل الهيكل في مدخل الحرم،
لوضع حجر أساس الهيكل الثالث، وقد عَيّن الحاخامُ غرشون سولومون حاخام الطائفة
الجديد المهندسَ جدعون حرليف، ليشرف على خطة بناء الهيكل الثالث»! وإكمالاً للخطة
فقد ادَّعى المهندس حرليف أنه ينتمي إلى سلالة الملك داود، وهو يقول: جمعتُ الصخرة
مع الهيكل الثالث في مشروعي. ويُضيف: «التوراة هي صك الطابو لأرض إسرائيل»!
تشارك
جمعيات ومؤسسات وأصحاب ملايين كمسكوفيتش وزوجته في عملية التهويد، لا سيما في مجال
بناء الكُنس والمعاهد الدينية المختصة بالهيكل الثالث، مثل: عطيرت كوهانيم، أمناء
جبل الهيكل، حي قيوم، بناة الهيكل، إلعاد، جماعة طقوس الهيكل، وغيرها.
ومن آليات
تهويد ومصادرة القدس: هدم منازل الفلسطينيين وطردهم من بيوتهم التي عاشوا فيها منذ
خمسة قرون.
ولم تكتفِ
السلطات الإسرائيلية بمصادرة المنازل المأهولة بالفلسطينيين، بل شرعتْ في مصادرة
الأملاك الفلسطينية بحجة إقامة حديقة توراتية، مثلما يجري في سلوان وفي الحوض
المقدس للقدس الذي يضم (سلوان والبلدة القديمة وجبل الزيتون ووادي الجوز ورأس
العمود).
استخدمت
إسرائيل أيضاً وسائل شق الطرق بادّعاء التوسعة الحضرية وتنفيذ المخططات البلدية
للنهوض بالسكان، والحقيقة هي أن شق الطرق خطة تهويدية تهدف لمنع التواصل بين
التجمعات التي يسكنها الفلسطينيون، فقد أقدمت بلدية القدس في أبريل 2013م على شق
طريق رقم 20 ليربط مستوطنة «بسغات زئيف» بشارع 443، والشارع يقسم بيت حنينا إلى
نصفين، ويجري الآن شق طريق رقم 21 ليربط بين مستوطنة رمات شلومو بشارع 20، وهو
يقسم أيضاً ما تبقى من بيت حنينا وشعفاط.
واستخدم
المحتلون أيضاً مؤامرة المحميات الطبيعية والآثار، وهي أهم الخطط التي تسوقها
إسرائيل للعالم، وهذه الدعاية لا تجد تشجيعاً من الأوروبيين والأمريكيين والجاليات
اليهودية فقط، بل تحظى منهم بدعم مالي كبير، ما يعزز الاقتصاد الإسرائيلي، فيجري
اليوم إنشاء محمية طبيعية في القدس تقع بين الكلية الإبراهيمية في حي الصوانة،
وبين الجامعة العبرية.
أما عن
الآثار فقد استخدمت إسرائيل علماء الآثار في كل أنحاء العالم، ومنحت أقسام الآثار
في الجامعات الإسرائيلية الثماني ميزانيات ضخمة للتنقيب عن آثار يهودية في القدس
وغيرها من المدن، فقد نشرت صحيفة الجورسلم بوست يوم 18/8/2013م، ملفاً خاصاً عن
أحدث اكتشاف أثري في مدينة داود (سلوان): «اكتشف علماءُ الآثار آلاف القطع الأثرية
من الفخار والسيراميك تعود كلها إلى عهد الهيكل الأول 586 ق.م». فقد أصبحت سلطة
الآثار الحكومية في إسرائيل أهم بوق دعاية لتهويد القدس، وقال خبيرُ الآثار غوي
يوزل: إن الكتابة المنقوشة هي العبرية القديمة!
أما عن
الحفريات الأثرية التي تجري أسفل القدس فهي لا تزال مجهولة، ولا يُعرف عنها إلا
القليل، ومنها شق نفق من حي وادي حلوة إلى المسجد الأقصى، ليصل إلى حائط البراق،
وهو أطول الأنفاق المعلومة حتى اليوم.
ومن المعروف
أن سلطة الآثار الإسرائيلية استغلت أنفاق المياه الرومانية لتجعل منها مدناً
وممراتٍ وطرقاً أسفل الحرم القدسي، لتحقيق الأهداف التالية: جذب السائحين إلى
المكان، وإضعاف أساسات وركائز الحرم القدسي والبيوت المجاورة، وزراعة آثار يهودية
في أمكنة بعينها لتحريف وتزييف تاريخ القدس، كما فعلت عندما زرعت قبوراً يهودية
وهمية في جبل الزيتون لغرض مصادرة الأرض، وتهجير سكانها الفلسطينيين.
ومن أخطر
المؤامرات مشروع تحزيم القدس بالمستوطنات، وأحدث مشاريع الاستيطان يقع في وسط
القدس، فقد ذكرتْ صحيفة هارتس يوم 8/8/2013م خبراً: «وضعت لجنة الإسكان حجر الأساس
لحي يهودي جديد على أطراف جبل المكبر جنوب القدس، وأقامتْ بؤرة استيطانية تمتد من
حي الصوانة حتى الكلية الإبراهيمية، مع بناء متحف في الحوض المقدس، هذا إضافة إلى
التجمعات الاستيطانية الكبيرة في القدس، كغوش عتصيون ومعاليه أدوميم وهارحوماه
وغيرها».
ويشمل
الحزام الاستيطاني أيضاً استحداث مستوطنات لتمنع التواصل بين المدن والقرى
الفلسطينية، ففي مستوطنة غفعات حمتوس يجري بناء 2610 وحدات استيطانية، ومحاولات
البناء المتكررة في منطقة E.1، مع العلم
أن المستوطنة تربط بين بيت لحم والقدس الشرقية.
وأخيراً،
فإن إسرائيل تنفِّذ خطة كبرى لإفقار المقدسيين وإرغامهم على تركها، ففي تقرير
جمعية حقوق المواطن الإسرائيلية يوم 15/5/2012م، تظهر مأساة المقدسيين
الفلسطينيين: 84% من أطفال القدس الفلسطينيين هم تحت خط الفقر، ومن المعلوم أن عدد
السكان في القدس نحو 360 ألف فلسطيني يشكلون 35% من الإسرائيليين فيها، وأن 40% من
الطلاب الفلسطينيين يتركون مدارسهم في الصف الثاني عشر، إضافة إلى نقص فصول
الدراسة.. فهل تنجح مخططات إسرائيل؟!
::
مجلة البيان العدد 319 ربيع الأول 1435هـ،
يناير 2014م.
:: البيان تنشر ملف
خاص بعنوان (( قضية فلسطين.. والصراع على القدس))