سنة العراق وفقه المسؤولية والتدبير
يمرُّ
العراق بمرحلة مفصلية من تاريخه، ونقلة نوعية، إما تنتشله من حالة الاستضعاف
والفساد ومسخ الهوية والارتقاء به إلى حالة من الأمن والتمكين، وإلا فسيكون صورة
أخرى لما مرت به بلاد فارس في العهد الصفوي، وإرهاصاتها جلية من استهداف دموي
ممنهج للمدن السنية وللمساجد، وتغيير للخريطة السكانية، وتغيير في المناهج - وإن كان في
مراحله الأولى
-،
(وأيرنة)
التعليم العالي، ومسيرات تطعن في رموز الإسلام، تتخللها لطميات تصف السنة
بالضيوف وآن لهم مغادرة البلد، وأخيراً إقرار قانون انتخابات يقيّد نسبة العرب
السنة بما لا تزيد على 20 في المائة، ومشروع قانوني الأحوال الشخصية وقضاء يجعل
المذهب الجعفري هو الدين الرسمي للعراق.
ومما لا شك
فيه أن من يملك إيقاف ذلك وإحداث النقلة النوعية، هم أهل السنة والجماعة فيه... ورغم شدة
الأمر عليهم فإننا نستهل المقال ببشارة قرآنية، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا
يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٥٥].
إن هذه
البشارة تستلزم من أهل السنة والجماعة، وفي مقدمتهم القادة جميعاً، استحضار نوعين
من الفقه، هما:
فقه المسؤولية، وفقه التدبير؛ فالأول متعلق بقراءة ما كان لهم من الحقوق
والصلاحيات، ومراجعة ما استدبر في ضوئهما من الحوادث والمواقف، وما تقدم من
الأعمال؛ ليتم من خلالها تقويم الأداء، وتقوية البناء، ومعالجة مواطن الخلل
والضعف، واستخلاص الدروس والعبر، تهيئة للمرحلة القادمة؛ والثاني يستدعي استيعاب
الواجبات والمهام من أجل وضع برنامج لاستثمار هذه المرحلة وما بعدها، للارتقاء من
مرحلة الوهن والاستضعاف إلى الاستخلاف تحت راية الهوية الكبرى.
مسؤولية
قادة أهل السنة
المسؤولية
بمعناها الأخلاقي والقانوني: تحمّل المرء عواقب أعماله، وكلما اتسع نطاق عمل أي فرد
أو جماعة وعظم حراكها، تضاعفت المسؤوليات المنوطة بها، وكل من يطالب بالمزيد من
الحقوق والاستحقاقات، فإنه يقابل بمزيد من تحمّل الأمانة والمسؤوليات، وذلك
للحيلولة دون شيوع الفوضى أو التعاطي السلبي مع حقوق الآخرين أو قيم المجتمع، فكل
حق يقابله واجب، وكل صلاحية تقابلها مسؤولية.
والذين
تصدّروا المشهد السني في العراق بأبعاده كافة - المقاوم
والسياسي والشرعي - خلال السنوات العشر الماضية، يتحمّلون مسؤولية الحفاظ
على هوية العراق وكرامة أهله الأصلاء، وستوقفهم أجيالهم في الدنيا، كما سيقفون
أمام الله تعالى يوم القيامة لمساءلتهم، يقول الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع
وكلكم مسؤول عن رعيته»[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله
سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه)[2].
فالمسؤولية
الدينية للقيادة ستكون عن أعمالهم جميعاً: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ 92 عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92-93]، وهم
مسؤولون بقدر ما عندهم من مقومات وقدرات بدنية ومالية وعلمية، في إدارة الصراع على
الساحة السنية في العراق، وما يتعلق بها في البُعد الإقليمي، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزول
قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه (وفي رواية
عن جسمه فيما أبلاه)، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما
أنفقه[3]. يقول
الدكتور محمد دراز: ستتم مساءلتنا عن جميع استخدامنا لملكاتنا وقدراتنا[4].
فكل قائد
أو زعيم تصدر المشهد السني سيسأل عن إدائه لرسالته، مثلما سيُسأل عنه الذين قدموه
وأيدوه، يقول الله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْـمُرْسَلِينَ} [الأعراف: ٦]، وبعض
أعمال النخب والقادة ومن يتصدر أمور العامة تكون المسؤولية فيها مضاعفة؛ لأن
تأثيرها يتعدى إلى الآخرين، جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: فإني أدعوك
بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم
الأريسيين[5].
فالقيادة
السنية، سواء أصلحت في عملها أو أفسدت، تتضاعف مسؤوليتها إلى يوم القيامة، أو ما
داموا على ذلك؛ بسبب من وثقوا بهم فاتّبعوهم أو امتثلوا أوامرهم أو تبنّوا
مواقفهم، فتداعيات هذه المسؤولية لا تنقطع وستبقى دائرتها الزمانية والمكانية في
توسع، يقول
صلى الله
عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا
ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه
لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)[6]، ويضرب
النبي
صلى الله
عليه وسلم مثلاً على ذلك بابن آدم القاتل: (ليس من نفس
تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سنّ القتل)[7]، يقول
الدكتور محمد دراز[8]: إنهم
مسؤولون عن الجرائم التي دعوا إليها مسؤوليتهم عما ارتكبوا، فكيف بمن مرّر دستوراً
ظالماً وشرعن لعملية سياسية جائرة صنعها محتل كافر، وبمن ضيع حقوق أهل السنة باسم
الوطنية الجوفاء، أو لم يحسن توظيف الإنجازات، او استهدفهم خيانة تحت ذريعة
الصحوة، أو غلوا بحجة الطائفة الممتنعة.
إن أهمية فقه المسؤولية الجادة
والعميقة تستلزم إدراك أنواع أخرى من الفقه، منها:
فقه المراجعة؛ وهي لغة من
المعاودة، لأن صاحبها يعيد النظر ويتأمل ما سبق من عمله، والقيادة السنية بعد هذه
السنوات لا بد لها في هذه المرحلة من مراجعة ما قدمت من برامج، وإعادة النظر فيما
تبنّت من مواقف، وتحرص على تقويم الأداء وتصحيح المسار إن وجدت فيه انحرافاً، أو
تثابر عليه إن رأت فيه استقامة، وأن تأتي بالمزيد إن كشفت في عطائها قصوراً، وأن
تستبرئ لدينها إن وجدت تطاولاً أو تجاوزاً، سواء أكان على القيم التي تؤمن بها
وتلتزمها، أم على المجتمع الذي تعيش فيه والأفراد المحيطين بها، وقد تستعين ببعض
ذوي الخبرة في هذه المراجعة، لا سيما إن كانت ممن يقتدي بها غيرها، قالت السيدة
عائشة رضي الله عنها لابن عمر رضي الله عنهما: يا أبا عبد
الرحمن!
ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك، وظننت أنك لا تخالفينه (يعني ابن
الزبير).
قالت:
أما إنك لو نهيتني ما خرجت[9].
فقه المحاسبة؛ يقول الله
تعالى:
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 18وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ}
[الحشر:18-19]، ويروى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا
بعدَ المَوتِ[10]، قال
الترمذي:
ومعنى قوله من دان نفسه يقول حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم
القيامة، وفي الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حاسبوا
أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب
غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر.
فالمحاسبة
لها بُعد إيجابي في أداء المسؤوليات من أجل تقويم الأداء وتصحيح المسار في أي
مرحلة من مراحل العمل، وكلما كانت أقرب، أصبحت دائرة الضرر أضيق، وأواصر الثقة مع
الآخرين أعمق.
القيادة
السنية وفقه التدبير
إنّ مفهوم
التدبير أو التخطيط يعني رسم صورة أو تصوّر للمستقبل، مع التصميم والتنظيم للعمل
للوصول إليها، والتزام القيادة بهذا الفقه مما يزخر به كتاب الله تعالى، وله صور
مشرقة في القيادة النبوية مما يدل على مشروعيته؛ فالعمل للآخرة والاستعداد ليوم
الميعاد الذي حدده الله تعالى لعباده والسعي منه والفوز بالجنة، يعد تخطيطاً لجميع
العباد في هذه الحياة الدنيا، وأن مرحلة النبوة التي تسبق الرسالة تعد تدبيراً
وتخطيطاً ربانياً لرسله للعمل في مرحلة الرسالة وتبليغ الناس دين الله تعالى.
ويخاطب
الله تعالى عباده منبّهاً إياهم إلى التخطيط للغد المتمثل في الآخرة وعدم الانشغال
بالدنيا عنها:
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]. ومن يطالع
القرآن الكريم يجد صوراً عملية للقيادة النبوية في التخطيط المستقبلي والتدبير
العملي، منها ما جاء في قصة نبي الله موسى عليه السلام والعبد الصالح، حيث ذكرت
وقائع لها نتائج مستقبلية مرجوّة، يقول الله تعالى على لسان العبد الصالح: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِـمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ
وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا 79 وَأَمَّا الْغُلامُ
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا 80 فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً
وَأَقْرَبَ رُحْمًا 81 وَأَمَّا الْـجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي
الْـمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِـحًا
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ
تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 79 - 82].
وأما
التخطيط للأمور الدنيوية فيتجلى في التخطيط الاقتصادي وتدبير السياسة المالية في
قصة نبي الله يوسف عليه السلام وقد وضع لأهل مصر خطة لمدة 15 عاماً،
راعى فيها سنوات الخصب والجدب، يقول الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ
دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلَّا قَلِيلًا مِّمَّا
تَأْكُلُونَ 47 ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ 48 ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47 - 49].
وفي
التخطيط العسكري يتحدث القرآن عن خطة النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى
معاركه:
{وَإذْ غَدَوْتَ
مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْـمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ}
[آل عمران: ١٢١]، ولو طالعنا السنة النبوية لوجدناها غنية
بالتخطيط وحُسن التدبير، بل وردت فيها مفردة الخطة للدلالة على الإعداد والعمل
للمستقبل، وقد أعجب بعض المشركين بهذه الخطة وأنها تدل على الرشد وحسن التدبير من
قبل القيادة النبوية، يقول صلى
الله عليه وسلم في يوم الحديبية للمفاوض عن قريش بديل بن ورقاء
الخزاعي:
(إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب
وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاؤوا أن
يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده
لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينقذن الله أمره). فقال بديل: سأبلغهم ما
تقول.
قال فانطلق حتى أتى قريشاً، فقال: إن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها[11].
وفي مسألة
الهجرة يتجلى لنا حُسن التدبير النبوي عند اتخاذه القرار بالهجرة إلى الحبشة في ظل
تسلط قريش وقوة علاقاتها الخارجية مع الدول المحيطة بها، يذكر ابن هشام[12]، إنّ
النبي
صلى الله عليه
وسلم لما رأى ما في أصحابه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم
إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم
فرجاً مما أنتم فيه.
وحثّ صلى الله عليه وسلم أمته على
التخطيط واستشراف المستقبل والتهيئة لأحداثه ووقائعه، من خلال إخبارهم ببعض
حوادثه؛ ليجعلها إضاءات تنير لهم رؤيتهم الاستشرافية ويستهدون بها في تدبيرهم
وإعدادهم للقادم، مثل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة وعلاماتها.
وصار
التخطيط والتدبير سمة الخلفاء والقادة، وشرطاً لمن يعمل في السياسة والولاية، يقول
عبد الحميد بن يحيى، أحد كتّاب الدولة الأموية: إن الكاتب
يعلم بحسن أدبه، وبفضل عقله وسابق تجربته، يعلم الأمور والنوازل قبل نزولها، فيعد
لكل أمر عدته.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: والحقيقة أن فكرة الدين في جوهرها قائمة على أساس
التخطيط للمستقبل[13].
ويتعلق
بفقه التدبير والتخطيط أنواع أخرى من الفقه لا بد لقيادة أهل السنة من الإلمام بها
وتفعيلها ليؤدوا غرضهم ويبلغوا مقاصدهم تجاه أبناء جلدتهم، ولعل أبرزها:
فقه التعاون؛ يقول الله
تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهُ
فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ[14]. وهذا الفقه
يستلزم التحرر من نزعة التنافس المذموم التي طغت على تصرفات القيادة السنية،
والتنافس وإن حقق لأهله نصراً أو نجاحاً، إلا أنه لا يحقق تمكيناً لهم، بل قد يسلب
من النجاح بعض استحقاقاته إن لم نقل أكثرها، وثمار التعاون أكثر وأنضج من ثمار
التنافس، ولذلك نهى صلى
الله عليه وسلم عنه بقوله: (لاَ
تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ
إِخْوَانًا)[15]، وقوله: (المُسْلِمُ
أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ)[16].
فالتمكين
لأهل السنة في العراق في ظل التحديات الجسيمة التي تواجههم وتهدد وجودهم وهويتهم،
لا يكون إلا حينما تتمكن في قادتهم جميعاً روح التعاون المحمود لا روح المنافسة.
فقه التكامل: وله
منطلقان؛ تكامل الذات، وتكامل مع الآخرين. فالأول
مبني على استكمال مقومات القيادة المبدعة والقوية (الْمُؤْمِنُ
الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي
كُلٍّ خَيْرٌ)[17]، وعدم
احتقار النفس والاستهانة بها وإماتة طموحاتها. والثاني
قائم على قواعد الأخوّة والألفة والاعتصام والاجتماع، وعلى ضرورة استثمار طاقات
أبناء الأمة كافة، وعدم احتقار أو مصادرة أيّ جهد وإن كان صغيراً، يقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ
بالرَّجُلِ الْفَاجِرِ)[18]، وفي
رواية:
إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله، وفي رواية أخرى[19]: بأناس لا
خلاق لهم.
فالانفرادية لا سيما في القضايا المصيرية والاستعلاء على الشركاء في العمل
والمصير واحتقار عطائهم، فضلاً عن كونها مذمومة؛ فإنها تذهب بالإنجاز كله أو
أكثره، وتمحق بركة العمل الجماعي ورشده، وتضيع مضاعفة أجره، وتدفع الخصم إلى النيل
منا شيئاً فشيئاً، كما حذر من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ، فَإنَّمَا يَأْكُلُ
الذِّئْبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَة)[20]، بل ذمّ الله تعالى إغفال ذلك وجعله من صفات
الأمم المغضوب عليها: {قَالَ
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ فِي
النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
فقه التراكم: الرسالة
السماوية قامت على مبدأ التراكمية في البناء، فكل نبي ينطلق من رسالة من سبقه، بل
إن أصول الاعتقاد واحدة ثابتة، وإن تنوّعت الشرائع، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ويقرب صلى الله عليه وسلم ذلك المعنى بمثل البناء، يقول عليه الصلاة والسلام: (مَثَلِي
وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا
وَأَكْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا
وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، قَالَ رَسُولُ
اللهِ
صلى الله
عليه وسلم: فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ
الْأَنْبِيَاءَ)[21]، هذا في
القيادة الربانية المؤيدة والمسددة بالوحي، فكيف بمن دونها؟
إن اعتماد
فقه التراكمية من قبل قادة أهل السنة في العراق في التخطيط والتدبير، يختزل الجهد
ويستثمر الوقت وينتفع به من تجارب الآخرين، وبه يرتقى في البناء، فالكل شركاء في
حفظ الهوية والوطن، وإذا كان من سبق يقول إن الساحة تستوعب الكل، فإن الساحة
السنية في العراق تحتاج إلى الكل؛ لعظم الخطب وشدة الفرقاء ومن معهم تكالب.
إن أمام قادة أهل السنة في العراق في المرحلة القادمة
بعد أن يجمعوا أمرهم ويتجرّدوا عن أهوائهم؛ إما الشراكة الحقيقية الكاملة في عملية
سياسية عادلة، أو المقاطعة التامة لعملية سياسية ظالمة جائرة والانتقال المحكم إلى
نظام الأقاليم، وإلا فمدافعة شاملة مدعومة عربياً وإقليمياً، إن أردنا حقاً الحفاظ
على هوية العراق وأهله الأصلاء.
::
مجلة البيان العدد 318 صفر 1435هـ،
ديسمبر 2013م.
[1] البخاري
ح 853، ومسلم ح 1829.
[2] الترمذي
ح 1705.
[3] الترمذي ح 243.
[4] دستور
الأخلاق ص
151.
[5] البخاري ح 7، ومسلم ح 4707.
[6] مسلم ح 6980.
[7] البخاري ح 6890، ومسلم ح 4473.
[8] في كتابه
دستور الأخلاق (ص 153).
[9] الاستيعاب
لابن عبد البر
1/275، والذهبي في سير أعلام النبلاء 2/ 193.
[10] الترمذي
ح 2459، وابن ماجه ح 4260.
[11] البخاري
ح 2581.
[12] في سيرته (1/328).
[13] في كتابه
الرسول والعلم (ص 44).
[14] مسلم ح 7028.
[15] البخاري
ح 5605، ومسلم ح 4646.
[16] مسلم ح 6706.
[17] مسلم ح 2664.
[18] البخاري
ح 2897، ومسلم ح 319.
[19] الطبراني: الأولى (ح 56)، والثانية (ح 2737).
[20] أبو داود
ح 547.
[21] البخاري
ح 3342.