• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
"وإنه يعلو ولا يُعلى"

"وإنه يعلو ولا يُعلى"


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إن أعداء الإسلام لا يفترون يكيدون لأهله حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق. فهم تارة يهاجمون كتاب الله، وتارة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتارة أخرى ثوابت الدين التي نزل بها الوحي؛ لكنهم كلما أرادوا أن يطفئوا نور الله لم يزيدوه إلا تماماً، وكلما أرادوا نزعه من صدور الرجال لم يزيدوه إلا رسوخاً؛ ونضرب لذلك مثالاً.

ففي عام 1977م نشرت جامعة أكسفورد كتاباً بعنوان «دراسات قرآنية» لأحد المستشرقين الأمريكيين يقال له «جون وانسبره» John Wansbrough. زعم هذا الكاتب في سفره أن القرآن قول البشر، وأنه لم يظهر إلا بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل في القرن الثالث الهجري؛ وأنْ ليس ثمة دليل على وجود القرآن أصلاً في الحجاز، فمن أراد أن يجده فليلتمسه في موروث اليهود والنصارى في بلاد الرافدين. وممن تأثر بهذا الزعم باتريشيا كرون ومايكل كوك في كتابهما «الهاجرية»، وكذا كريستوف لوكسنبرغ في كتابه «قراءة سريانية/ آرامية للقرآن» - (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً).

وإن من حكمة الله عز وجل أن جعل إبطال هذه الدعاوى على أيدي أقوام من غير أهل الإسلام هم أنداد في العلم والرياسة لوانسبره وحزبه، حتى لا يظن جاهل أنه دفاع متحكم فرضته العاطفة، أو أملاه التعصب الأعمى.

وإن مما يحسن في هذا السياق ذكر بعض شهادات أولئك القوم في الدفاع عن كتاب الله الحكيم، ونقد منطق المستشرقين السقيم.

فهذا «ويليام موير» رغم تعصّبه يُقر في كتابه «حياة محمد صلى الله عليه وسلم» بعد حديثه عن الخلافات التي نشبت في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه، أنه «[برغم تلك الخلافات] لم يكن بين أيديهم سوى قرآن واحد. وإجماعهم في كل العصور على استعمال الكتاب نفسه إلى زمننا هذا [1858م] دليل حاسم على أن الذي بين أيدينا هو النص ذاته الذي أمر [عثمان] بجمعه...»[1].

وهذا أدريان بروكيت يقول – بعد أن درس قراءتي حفصٍ وورشٍ –: «إن رواية النص القرآني بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم كانت في جوهرها ثابتة ولم تكن متطورة؛ كان ثمة نص واحد فقط...»[2]. وفي هذا رد صريح على زعم وانسبره أن النص القرآني تطور عبر السنين ولم يكتمل إلا في القرن الثالث الهجري. وهو كلام لا يستند إلى حقائق البتة، حتى إن المستشرق الشهير «جوينبل» وصف نظرية وانسبره هذه بأنها «تغص بشاربها»[3].

وفي ردٍّ على زعم وانسبره أن في القرآن من «الحذف والتكرار ما يشير إلى أنه... نتاج جمع لروايات مستقلة في أصلها»، يقول ر. ب. سارجنت: «إنه بهذا يحاول أن يستنسخ العملية التي أُقرت بها الكتب القانونية للكتاب المقدس فيركبها على القرآن، لكنها لم تسعفه!»[4].

هذا في الحقيقة هو ما دفع وانسبره إلى اختلاق نظريته الواهية، فإنه لما عجز عن أن يثبت صدق ما بين يديه من كتابٍ مُبدَّل، عمَدَ إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ طمعاً في أن يزعزع مكانه في قلوب المؤمنين، ليصدق في مثله قول الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] ، لكن الله سلط عليه من بني جلدته من ألقمه حجراً.

إن دعاوى وانسبره وحزبه لا تقوم أمام النقد العلمي المنصف، ولا يُستغرب أن رفضها أهلها من اليهود والنصارى ممن لا يُعرفون بالتعاطف مع الإسلام وأهله. فهذا المستشرق الشهير «جون بيرتون» يقول في كتابه «جمع القرآن»، بأن نص القرآن لم تمسه يد التغيير منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يعلق ر. ب. سارجنت قائلاً: «يحاول ج. بيرتون في كتابه الأخير «جمع القرآن» (كامبرج 1976) أن يبرهن، بشكل أكثر إقناعاً من أطروحات «وانسبره» التي لا تقوم على سند، على أن النص القرآني الذي بين أيدينا هو الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم»[5].

وقد سبق إلى هذا المعنى مستشرقون آخرون، منهم آرثر آربري في مقدمته لترجمة معاني القرآن، إذ قال: «... القرآن المطبوع في القرن العشرين مطابق للقرآن الذي اعتمده عثمان قبل أكثر من 1300 عام»[6].

أما باتريشيا كرون ومايكل كوك اللذان سلكا في كتابهما «الهاجرية» مسلكاً شبيهاً بمسلك وانسبره، فقد كانا أقل خبرة منه في نسج الأكاذيب، حتى قال عنهما سارجنت: «هل سبق وأن قرأ هذان المؤلفان الصغيران القرآن بعناية؟ أم أنهما يبحثان بطريقة أكثر تواضعاً عن الشهرةِ التي نالها عالم اللغة العبرية العبقري الذي ربط بين يسوع المسيح ونبات الفطر؟»، وهو هنا يعرِّض بـ «جون أليجرو» في كتابه «الفطر المقدس والصليب».

أخيراً نختم بما قيل عن ثالثة الأثافي، كتاب «قراءة سريانية/ آرامية للقرآن». فقد علق فرنسوا دي بلوا، أستاذ الدراسات الدينية بجامعة لندن، على وصف صحيفة نيويورك تايمز مؤلفه كريستوف لوكسنبرغ بـ «عالم اللغات السامية القديمة»، قائلاً: «إن الشخص المعنيَّ ليس عالماً باللغات السامية القديمة؛ إنما هو شخص يتحدث لهجة من اللهجات العربية، ويمتلك قدراً لا بأس به من الإلمام غير المتقَن باللغة العربية الفصحى، ويعرف من السريانية فقط ما يمكنه به الرجوع إلى المعاجم، لكنه خلو من الفهم الحقيقي للمنهج الذي تقارن به اللغات السامية. إن كتابه ليس كتاباً علمياً، وإنما كتاب هاوٍ غيرِ مختص»[7].

فانظر كيف دفع هؤلاء العلماء غير المسلمين عن كتاب الله ما رُمي به من إخوانهم، ولسان حالهم يقول: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلوا ولا يُعلى»، لكنهم أبوا إلا أن يتنكبوا الصراط، فضلّوا.

:: مجلة البيان العدد  318 صفر 1435هـ، ديسمبر  2013م.


 [1] William Muir. The Life of Mahomet, vol. I, chapter I.

[2] Andrew Rippin (Ed.), Approaches to the History of Interpretation of the Qur>an (Oxford: Clarendon Press, 1988), p. 44.

[3] Richard Martin. Approaches to Islam in Religious Studies (University of Arizona Press, 1985), p. 232.

[4] R. B. Serjeant. The Journal of the Royal Asiatic Society of Great Britain and Ireland, No. 1 (1978), Cambridge University Press, pp. 76.

[5] R. B. Serjeant. The Journal of the Royal Asiatic Society, No. 1 (1978), pp. 76-78.

[6] Arthur Arberry. The Koran Interpreted: A Translation (Simon & Schuster, 1996).

[7] Journal of Qur>anic Studies, 2003, Volume V, Issue 1, pp. 92-97.

 

 

أعلى