حلقات ابن مسعود بمسجد الكوفة .. قراءة إدارية وتربوية
New Page 1
بعث الخليفة الراشد الملهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الكوفة كلاً من عمار
بن ياسر - رضي الله عنه - أميراً، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - معلماً،
وكتب إلى أهل الكوفة: (إني قد بعثت إليكم عماراً أميراً، وابن مسعود معلماً
ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب محمد، من أهل بدر، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما،
قد آثرتكم بعبد الله على نفسي)[1].
انطلق عبد الله بن مسعود مع أخيه عمار بن ياسر إلى الكوفة لأداء المهمة التعليمية،
وقد وقع الاختيار عليه لقدرته التعليمية الفائقة؛ فهو ممن يتحرى في الأداء، ويشدّد
في الرواية، ويزجر تلامذته عن التهاون في ضبط الألفاظ[2].
يقول الذهبي عنه: (كان معدوداً في أذكياء العالم)[3].
وأورد عن حذيفة - رضي الله عنه - قوله عنه: (إنّ أشبه الناس هدياً ودلاً وقضاءً
وخطبة برسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يخرج إلى بيته إلى أن يرجع – لا أدري
ما يصنع في أهله – لعبد الله بن مسعود)[4].
ويقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن نفسه: (والله الذي لا إله غيره، ما
أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا
أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم منّي بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه)[5].
وتراوحت إقامة المعلم الرباني عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في الكوفة ما بين
السنة (17هـ) تقريباً إلى السنة (32هـ) تقريباً زمن خلافة عثمان بن عفان - رضي الله
عنه -، أي أنه مكث في الكوفة قرابة 15 سنة، وتخرج على يديه وبين ناظريه جيل من أغزر
الناس علماً وفهماً بكتاب الله العزيز وأجودهم أداء له، حيث كان هو في الأساس
إماماً في أداء القرآن الكريم وفهم معانيه وأحكامه، قال أبو مسعود - رضي الله عنه
-: (لا والله، لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أحداً أعلم بكتاب الله من
هذا القائم)[6].
لقد قام بجهد جبار وتاريخي في تخريج القراء والعلماء؛ أقرأهم القرآن، وعلّمهم
أحكامه، ورباهم على اتّباعه. وقد أشار قيس بن مروان إلى مثابرة عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه في تعليم الناس القرآن الكريم، حيث أتى إلى عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر
قلب. فغضب عمر، وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرجل، فقال: ومن هو؟ ويحك! فقال:
ابن مسعود. فما زال يطفئ غضبه ويتسرى عنه حتى عاد إلى حاله، ثم قال: ويحك! والله ما
أعلم بقي من الناس أحدٌ هو أحقّ بذلك منه[7].
كان تلاميذ مدرسة المعلم القدوة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يتأثرون به ويقتدون
به، في سمته وتعليمه، فهذا زيد بن وهب يقول: (رأيت بعيني عبد الله أثرين أسودين من
البكاء)[8].
وكان علقمة بن قيس يُشَبّه بعبد الله بن مسعود رضي الله عنه[9]،
بل قال ابن مسعود عنه: (ما أقرأ شيئاً وما أعلم شيئاً إلا وعلقمة يقرؤه ويعلمه)[10].
كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يعلم تلاميذه أحكام الآيات وآدابها ويربّيهم
عليها بتدرج، يقول الإمام المقرئ أبو عبد الرحمن السلمي – وهو ممن عرض القرآن على
ابن مسعود رضي الله عنه -: (أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر
آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأُخر حتى يتعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل
به. وسيرث بعدنا قومٌ يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم). قال إسماعيل بن أبي
خالد: (كان أبو عبدالرحمن السلمي يعلمنا القرآن خمس آيات خمس آيات)[11].
هاتان الروايتان تفيدان معنى إضافياً في إقراء القرآن وتعليمه، وهو تعليم التلاميذ
أحكام الآيات وآدابها والتربية عليها بتدرج بحيث لا ينتقل إلى غيرها من الآيات إلا
بعد أن يرى منهم التأثر والاستيعاب والتطبيق.
لقد كان تعليم القرآن يقتضي فهم المراد من آياته، ومن خلال ذلك نقل التلاميذ كثيراً
من مرويات التفسير؛ عن مسروق بن الأجدع قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني تركت
في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه، يقول في هذه الآية
{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}
[الدخان: ٠١]
إلى آخرها: يغشاهم يوم القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبهم منه كهيئة الزكام!
قال: فقال عبد الله: (من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم. فإن من
فقه الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصت على
النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحطٌ، وجهدوا حتى
أكلوا العظام، وجعل الرجل ينظر إلى السماء فينظر ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان
من الجهد، فأنزل الله عزّ وجلّ
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ
هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[الدخان: ٠١ - ١١]،
فأتي رسول الله #، فقيل: يا رسول الله! استسقِ الله لمضر فإنهم قد هلكوا، قال: فدعا
لهم، فأنزل الله عز وجل:
{إنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ}
[الدخان: ٥١]،
فلما أصابهم المرة الثانية عادوا، فنزلت
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إنَّا مُنتَقِمُونَ}
[الدخان: ٦١]
يوم بدر[12].
كما حفظ تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الكثير من وصاياه وتوجيهاته
التربوية، منها: (إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئاً فليفعل،
فإن أصفر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء)، ومنها: (إنما هذه القلوب
أوعية؛ فأشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره)، وكان يخوفهم من الذنوب ويبيّن خطرها
على الاستفادة من القرآن، يقول: (إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان تعلّمه للخطيئة
يعملها)[13].
إلى غير ذلك من الكلمات النافعة والتوجيهات التربوية التي يتربى عليها شباب الأمة
منذ ذلك الوقت، جيلاً بعد جيل، ونسأل الله الكريم أن ينفعنا بها.
وحين عزم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الرجوع إلى المدينة النبوية زمن خلافة
عثمان بن عفان رضي الله عنه، جمع تلامذته، فقال: (والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح
اليوم منكم مِن أفضل ما أصبح في أجناد المسلمين من الدين والفقه والعلم بالقرآن. إن
هذا القرآن نزل على حروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشدّ ما اختصما في شيء قط،
فإذا قال القارئ: هذا أقرأني، قال: أحسنت، وإذا قال الآخر، قال: كلاكما محسن،
فأقرأنا: إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور،
والفجور يهدي إلى النار، واعتبروا ذلك بقول أحدكم لصاحبه: كذب وفجر، وبقوله إذا
صدّقه: صدقت وبررت. إن هذا القرآن لا يختلف، يُستَشنّ ولا يَتْفَهُ لكثرة الردّ،
فمن قرأهُ على حرف فلا يدعهُ رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علّم
رسول الله فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه يجحد به كلّه، فإنما هو كقول
أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيّ هلا، والله لو أعلم رجلاً أعلم بما أنزل الله على محمد
صلى الله عليه وسلم منّي لطلبته، حتى أَزدادَ علمَه إلى علمي. إنه سيكون قومٌ
يميتون الصلاة، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعاً. وإن رسول الله
كان يعارَض بالقرآن في كل رمضان، وإني عرَضتُ في العام الذي قُبِض فيه مرتين،
فأنبأني أني محسن، وقد قرأتُ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة)[14].
ثم رحل إلى المدينة النبوية.
وبقي مسجد الكوفة عامراً بالقرّاء والحفظة وطلبة العلم، لهم دويّ بالقرآن. ذات مرة
سمع الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا المسجد ضجة شديدة، فقال: (ما
هؤلاء؟). قالوا: قوم يقرأون القرآن أو يتعلمون القرآن. فقال: (أما إنهم كانوا أحبّ
الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)[15].
وقد خلّف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تركة عظيمة من أوعية العلم وحملة القرآن
أفادت منهم الأمة الإسلامية في كل الأمصار وعبر الأزمان، يأتي في مقدمتهم العشرات
من الرجال الثقات، قال إبراهيم التيمي: (كان فينا ستون شيخاً من أصحاب عبد الله)[16].
وعلى رأسهم ستة هم أبرز التلاميذ وأنجب الحفاظ يسرد أسماءهم إبراهيم حين قال: (كان
أصحاب عبد الله الذين يُقرئون الناس القرآن ويعلمونهم السنة ويصدر الناس عن رأيهم،
ستة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعَبِيدة، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، والحارث بن
قيس)[17].
ما يمكن قراءته من هذه المدرسة العظمى:
أولاً: التدرج في التربية والتعليم
قال علقمة بن قيس: (قرأت القرآن في سنتين)[18].
وهو أكبر تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه قدراً وفهماً وعلماً، وهذا يعني أن ابن
مسعود رضي الله عنه أخذ بالمنهج النبوي في تعليم القرآن (كنّا لا نتجاوز عشر آيات
حتى.....)، الأمر الذي ورثه التلاميذ في تعليمهم لطلابهم، كما كان المقرئ أبو عبد
الرحمن السلمي يفعل، حيث كان يعلّم الطلاب خمس آيات خمس آيات. لم يكن تحديد عدد
الآيات مقصداً، بل الفكرة الكامنة في تحديد الآيات هي التدرج في حفظ القرآن
والتربية على معانيه وأحكامه وآدابه. لقد كانت تلك الأجيال على قدرٍ عالٍ من قوة
الذاكرة وسرعة الحفظ، إلا أنّ المنهجية المتبعة هي التدرج في الحفظ بغرض التحقق من
انعكاس تأثيره على سلوك وسمت الحافظ.
وكذلك كان التوجيه والإرشاد والموعظة، عن عبد الله بن مرداس قال: (كان عبد الله
يخطبنا كل خمسٍ على رجليه، فنشتهي أن يزيد)[19].
يحبون أن يستمعوا إلى المزيد من حديثه الشيق.. الحديث الذي يرفرف بأرواحهم نحو
الآخرة، لكنه لا يستعجل الغرس؛ لأنّ ذلك مضرٌ بالمتربي.
ثانياً: التلازم بين حفظ القرآن والتربية على أحكامه وآدابه
يقول أبو عبد الرحمن السلمي – وهو ممن عرض القرآن على ابن مسعود رضي الله عنه -:
(أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى
العشر الأُخر حتى يتعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به. وسيرث بعدنا قومٌ
يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم).
هكذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه القرآن لأصحابه، وهكذا كان أصحابه
في تعليمهم القرآن لطلابهم: تعليم القرآن حفظاً وتجويداً وأداء وأحكاماً وآداباً.
ولم يكونوا بحال من الأحوال يستسيغون أن يحفظ المرء كتاب الله ثم هو لا يعقل
معانيه، أو لا يتأدب بآدابه، أو لا يعمل بأحكامه، لذلك أخبر عن قومٍ يشربونه شرب
الماء لا يجاوز تراقيهم، إخباراً على سبيل الإنكار؛ أن يحفظ المرء القرآن حفظاً
مجوداً، لكن القرآن لا يصل إلى قلبه وعقله ووجدانه.
إذن، لم يكن الحفظ المجرّد طريقة متبعة عند ابن مسعود رضي الله عنه، بل كان يقرنه
ببيان معاني القرآن وأحكامه وآدابه.
قال مسروق: (كان عبد الله يقرأ علينا السورة، ثم يحدثنا فيها، ويفسرها عامة النهار)[20].
إذن، التعليق على الآيات وشرحها والتربية عليها، وبيان مراد الله منها.. كلّ ذلك من
مهام معلّم القرآن، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه مع كونه مشدّداً في الأداء
متحرّياً في الضبط؛ فهو أيضاً لا يُغفل جانب المعاني والأحكام.
وكان رضي الله عنه يبيّن الأخطاء حال وجود فهم خاطئ، يحدثنا عمرو بن شرحبيل أن ابن
مسعود رضي الله عنه قال له: (يا أبا ميسرة! ما تقول في الخنس الجوار الكنس؟). قال:
قلت: لا أعلمها إلا بقر الوحش. قال ابن مسعود: (وأنا لا أعلم فيها إلا ما قلت)[21].
وكما في رواية مسروق السابقة حول هذه الآية
{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}
[الدخان: ٠١]،
وهذا الأثر يدل على وجود منهجية لتفسير القرآن الكريم، تعلّمها التلاميذ، لذلك جاء
مسروق مستنكراً هذا النوع من التفسير، وهو التفسير بالرأي، المخالف للتفسير الذي
يسمعه من ابن مسعود رضي الله عنه.
وامتلأت كتب التفسير بأقوال ابن مسعود رضي الله عنه التي نقلها تلاميذه في مسجد
الكوفة وأصبحت عمدة يرجع إليها طلاب العلم، ومما استقرّ عليه الأمر أن ابن مسعود
رضي الله عنه يعدّ في كبار مفسري الصحابة.
ثالثاً: الاعتناء بالطاقات المتميزة والطلاب النجباء (الموهوبين)
كان مسجد الكوفة يغصّ بالتلاميذ وطلبة القرآن، لكن كتب التراجم أفاضت بالحديث عن
ستة منهم كانوا على قدرٍ عالٍ من التميز، إلى درجة أن قابوس بن أبي ظبيان سأل أباه
قائلاً: لأي شيء كنت تأتي علقمة وتدع أصحاب النبي؟ فقال أبوه: أدركت ناساً من أصحاب
النبي يسألون علقمة ويستفتونه[22].
بل إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما أقرأ شيئاً ولا أعلمه إلا علقمة
يقرؤه أو يعلمه)[23].
أما الستة النجباء الذين أصبحوا من كبار (أصحاب) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
والذين أقرأوا الناس القرآن وعلموهم السنة وصدر الناس عن رأيهم، فهم: علقمة بن قيس،
ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وعبيدة السلماني، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل،
والحارث بن قيس. كما سبق ذكر ذلك.
الروايات تفيد بأن نخبة من تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كانوا على قدرٍ
عالٍ من الفهم والنجابة والحرص على الاستفادة، ومن ثَمّ زادت عنايته بهم، بتعليمهم
وتربيتهم، حتى وصلوا إلى علوّ في الشأن، وتسنموا قياد التعليم والإقراء.
رابعاً: التوجيه التربوي
لم يكن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مقرئاً فحسب، بل كان موجّهاً. وبعبارة أخرى
قد تكون هي الأكثر صواباً: لم يكن المقرئون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
يفصلون بين الإقراء والتربية. كان ابن مسعود رضي الله عنه مربياً عجيباً، نقل عنه
تلاميذه الكثير من التوجيهات التربوية التي ينتفع بها الناس إلى يومنا هذا، كقوله:
(ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون،
وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون،
وبخشوعه إذا الناس يختالون....). ومن توجيهاته أيضاً: (إذا سمعت الله يقول
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
فأرعها سمعك، فإنه خيرٌ يأمر به، أو شر ينهى عنه)[24].
وكان يحرص على أن تقع توجيهاته الموقع الحسن، ويتخذ الإجراءات في ذلك، مثل التفريق
بين المواعظ بمدة زمنية طرداً للملل والسآمة.
خامساً: معايشة التلاميذ بغرض التربية
لم يكن معلم القرآن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ليعلّم الطلاب وهو في معزل عن
مخالطتهم ومعايشتهم.. كيف وقد تلقى هذا الهدي من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأمل دلالة هذا الأثر الذي رواه إبراهيم أن ابن مسعود رضي الله عنه كنّى علقمة أبا
شبل قبل أن يولد له. قال: فسئل، فحدث علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كنّاه أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له[25].
وروى إبراهيم أيضاً عن علقمة قال: (كنت رجلاً قد أعطاني الله حسن الصوت بالقرآن،
وكان ابن مسعود يرسل إليّ، فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال: زدنا فداك أبي
وأمي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن حسن الصوت زينة القرآن)[26].
لقد كان الإمام الرباني ابن مسعود رضي الله عنه يدرك أن التربية الإيمانية تقتضي
المعايشة والمخالطة، لما لها من فاعلية في تعميق المعاني الإيمانية، وتمتد المعايشة
إلى المشاركة في شؤون الحياة اليومية كالأكل والشرب، قال علقمة: أُتِيَ عبد الله
بشراب، فقال: أعطِ علقمة، أعطِ مسروقاً، فكلهم قال: إني صائم. فقال ابن مسعود:
{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}
[النور: ٧٣][27].
ولهذا المعنى تأثر الطلاب كثيراً بشيخهم ابن مسعود رضي الله عنه، وظهر ذلك التأثير
على سمتهم وسلوكهم. قال معمر لجلسائه: قوموا بنا إلى أشبه الناس بعبد الله هدياً
ودلاً وسمتاً، فقاموا معه حتى جلسوا إلى علقمة[28].
سادساً: إعداد القيادات
مكث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يعلّم القرآن في مسجد الكوفة قرابة 15 سنة. كان
يدرك – كأي مربٍّ حاذق – أنه مهما طال به الزمان في هذه المهمة العظيمة؛ فإنه يوماً
ما سيترك مكانه، بوفاة أو رحيل، فكان لزاماً أن يبني صفاً قيادياً يرث الرسالة من
بعده، ويبلغها للأجيال القادمة.
ولقد كان من بين تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من اشتهروا بـ (الأصحاب)،
وعلى رأسهم الستة الذين ذكرتهم سابقاً. قال العجلي: (كان عبيدة أحد أصحاب عبد الله
بن مسعود الذين يقرؤون ويفتون)[29].
وقال ابن المديني: (لم يكن أحد من الصحابة له أصحاب حفظوا عنه وقاموا بقوله في
الفقه إلا ثلاثة: زيد بن ثابت وابن مسعود وابن عباس، وأعلم الناس بابن مسعود: علقمة
والأسود وعبيدة والحارث)[30].
وما ذكره ابن المديني إضافة إلى المرويات الأخرى يمكن أن يعطينا تصوّراً ذهنيّاً عن
طبقات تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه التعليمية والتربوية، فمنها عموم التلاميذ،
وهم يمثلون قاعدة الهرم، ويعلوهم الأصحاب، وهم أقل من العموم ممن حمل علم عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه ونقله إلى الأمة، ويعلوهم الخاصة من الأصحاب وهم الستة:
علقمة والأسود ومسروق وعبيدة وأبو ميسرة والحارث. أما علقمة بن قيس فيتربع على رأس
الهرم التعليمي، حيث قال عنه شيخه: ما أعلم شيئاً ولا أقرأ شيئاً إلا وعلقمة يعلمه
أو يقرؤه.
قد يحتاج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى هذه القيادات لتساعده في مهمته
التعليمية والتربوية، وأحياناً يمنحها الفرصة لتخوض غمار التجربة الجديدة وتتعلم
منها، هذا ما يفسر كون عبيد بن نضلة أحد القراء النجباء؛ قرأ على ابن مسعود رضي
الله عنه وقرأ أيضاً على علقمة[31].
في موقف آخر، وفي الحج تحديداً، يحدثنا رباح بن أبي المثنى قائلاً: (كان عبد الله
وعلقمة يصفان الناس صفين عند أبواب كندة فيقرئ عبد الله رجلاً ويقرئ علقمة رجلاً،
فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك وأبواب الحلال والحرام. فإذا رأيت علقمة فلا يضرك
ألا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتاً وهدياً)[32].
سابعاً: التقييم
تنقل المرويات ثناء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على أبرز تلاميذه: علقمة بن
قيس.. هذا الثناء هو تعديل لعلقمة، وباللغة التربوية: تقييم.
وحين اجتمع بطلابه في ختام عمله المبارك قال رضي الله عنه لهم: (والله إني لأرجو أن
يكون قد أصبح اليوم منكم مِن أفضل ما أصبح في أجناد المسلمين من الدين والفقه
والعلم بالقرآن)[33].
إن هذا الكلام يعدّ تقييماً لمن اجتمع بهم من تلاميذه، ولهذا عبّر عن شعوره
بالارتياح لنتيجة جهده التعليمي خلال تلك المدّة الزمنية التي قضاها في مسجد
الكوفة.
نستطيع القول بأن مسجد الكوفة الذي مكث فيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 15
عاماً.. لم يقتصر الإقراء فيه على تسميع آيات القرآن وتجويدها، بل تعدى ذلك إلى
تعليم أحكام القرآن والتربية على آدابه ومواعظه. وكان التعليم يسير وفق منهج
وآليات. فرضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء، وهنيئاً له الأجر
الذي لا ينقطع عنه بعد موته إن شاء الله.
فيا معلّمي القرآن الكريم، في الحلقات والدور والمساجد.. دونكم منهج تعليم القرآن
الكريم فاتبعوه.
[1]
سير أعلام النبلاء 1/486.
[3]
سير أعلام النبلاء 1/462.
[4]
سير أعلام النبلاء 1/470.
[5]
أخرجه البخاري 3/341 رقم 5002 باب القراء من أصحاب النبي.
[6]
سير أعلام النبلاء 1/490.
[7]
سير أعلام النبلاء 1/475.
[8]
سير أعلام النبلاء 1/495.
[9]
سير أعلام النبلاء 1/485.
[11]
سير أعلام النبلاء 4/270،269.
[12]
مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر، 5/217، رقم 3613.
[13]
حلية الأولياء 1/130 – 131.
[14]
مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر، 5/324، رقم 3845.
[16]
الطبقات الكبرى 6/10.
[17]
سير أعلام النبلاء 4/57.
[18]
معرفة القراء الكبار 1/45.
[19]
سير أعلام النبلاء 1/472.
[21]
الطبقات الكبرى 6/106.
[22]
سير أعلام النبلاء 4/59.
[23]
سير أعلام النبلاء 4/58.
[24]
حلية الأولياء 1/130.
[25]
المستدرك للحاكم 3/354.
[26]
سير أعلام النبلاء 4/58.
[27]
سير أعلام النبلاء 4/57.
[28]
سير أعلام النبلاء 4/55.
[29]
سير أعلام النبلاء 4/41.
[30]
سير أعلام النبلاء 4/55.
[31]
الطبقات الكبرى 6/211.
[32]
سير أعلام النبلاء 4/55.
[33]
مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر، 5/324، رقم 3845.