• - الموافق2024/10/06م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مفهوم الأمن  وأبعاده في السنة النبوية

وفي المقابل، وتبعًا للأمن فالخوف خوفان؛ خوف حقيقي لوجود تهديد مباشر للإنسان، وخوف نفساني مبعثه مخاوف متوقَّعة وغير واقعية، وهذا الخوف الأخير هو الذي نهى عنه الإسلام


إن الأمن معنى شامل في حياة الإنسان، ولا يتوفر الأمن للإنسان بمجرد ضمان أمنه على حياته فحسب، فالشخص الآمِن هو الذي لا يتوقع أيّ مكروه يخاف منه، سواء على نفسه من القتل والاعتداء والحرابة، وطوارق الأمراض، أو على عِرْضه وكل ما يمسّ حصانة أهله وولده، أو على ماله من السرقة، واغتصاب الحقوق والأراضي، أو على دينه من الفتن وقمع الحريات، أو على عقله من التضليل والتلبيس... وهذا يعني أن منابع الأمن عند الإنسان أحاطت بها الشريعة الغرَّاء في مقاصدها الخمسة التي استنبطها علماء المسلمين الأجلاء.

الأمن في القرآن الكريم

ورد لفظ الأمن في القرآن الكريم في عدة مواضع، ثلاثة منها ورد مُعرَّفًا في الصورة المطلقة، وذلك في قول الله تعالى: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْـخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]، وقوله تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 81 الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81، 82]، وورد مُنكرًا في قوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: ٥٥]، وورد على غير الصورة الاسمية أضعاف ذلك؛ سواء بصيغة الماضي، أو بصيغة المضارع، أو في صيغة المشتق كاسم الفاعل المفرد أو الجمع.

وقد ورد اللفظ بعدة أشكال، لكنَّه لم يَرِد مقيدًا بشيءٍ، لا بوصفٍ ولا بإضافةٍ، ومعنى ذلك أنه غير قابل للتبعيض، فالأمن شيء كلّي ثابت لا يقبل التبعيض.

أنواع الأمن

الأمن أمنان؛ أمن حقيقي وأمن متوهَّم، فالأمن الحقيقي هو انعدام أيّ تهديد يخاف منه الإنسان على الدين والعقل والنفس والعِرْض والمال، ومنه قول الله تعالى: {أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، وقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، وقوله تعالى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى} [طه: 68]، وقوله تعالى: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص: 31].

أما الأمن المتوهَّم فهو الشعور الزائف الاستكباري بالأمن المستنِد إلى عدم تقدير للمخاطر الحقيقية، وهو جليّ في قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: 97]، وقوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16].

وفي المقابل، وتبعًا للأمن فالخوف خوفان؛ خوف حقيقي لوجود تهديد مباشر للإنسان، وخوف نفساني مبعثه مخاوف متوقَّعة وغير واقعية، وهذا الخوف الأخير هو الذي نهى عنه الإسلام؛ لأنه مُعوّق للإنسان عن أداء مهماته الحياتية، وعن تفعيل دَوْره في عمارة الأرض، وهذا الخوف الوهمي.

الأبعاد الأمنية في السنة النبوية

المؤمن أمنة في الأرض. إن المؤمن في الاعتقاد هو مَن آمَن بالله تعالى ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه.

أما المؤمن بالنظر إلى أدائه الإنساني في الاجتماع البشري، فهو الأمين المُؤتَمن على دماء الناس وأموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ مَن أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (مسند أحمد: ٢٣٩٥٨، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٥٤٩).

فالحديث الشريف لم يُقيِّد أمن المؤمن على إخوانه من المؤمنين، بل أطلقه ليعمّ الناس جميعًا؛ وذلك لأن مجتمع الإسلام مجتمع تعدّدي لا أحادي، يعيش فيه المسلم وغير المسلم.

والدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  عندما استقر بالمدينة، أمر بكتابة صحيفة، هي بمثابة دستور يُنظِّم العلاقات بين أهلها من مسلمين ويهود، وهذه الصحيفة تجري الاستفادة منها اليوم على نطاق واسع في تنظيم العلاقة مع الآخر المواطن أو المجاور العالمي.

الأمن العائلي

تتداخل عناصر متعددة ومتشابكة لجعل كيان العائلة بيئة آمنة لكل أفرادها، ولا نستطيع أن ننكر أن الرفاه الاقتصادي يلعب دورًا متغيرًا في هذا المضمار، إلا أنه عند المحكات الحياتية يسقط ليتبدَّى ما تحته من حقيقة العلاقات.

وعند التفتيش في النصوص الشرعية نجد أربع قِيَم سلوكية تُولِّد الأمن في بيئة العائلة؛ وهي: المودة، والرحمة، والرفق، وحُسْن الأدب. أما البيت الذي يخلو من واحدة من هذه الأربع فقد ترك أهله فجوةً يُخشى أن تتسع وتؤثر على حسن العلاقات، ومِن ثَم على استقرار أمن العائلة، يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : «إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق» (مسند أحمد: 23906، وصححه الألباني في صحيح الجامع ٣٠٣)، ويقول: «أكرموا أولادكم، وأَحْسِنوا أدبهم» (رواه بن ماجه: ٣٦٧١).

الأمن المعيشي

وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم  الإنسان إلى العمل والكسب، وإلى الإنفاق على النفس والأهل والولد بحكمةٍ واعتدالٍ دون تقتير أو بُخْل أو شُحّ؛ فالأمن المعيشي يرتكز في جزءٍ كبيرٍ منه على حجم الدخل المادي للمعيل، إلا أنه في المقابل عُرْضة للضياع من جراء تدبير أو قلة تدبير، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من فقه الرجل رفقه في معيشته» (مسند أحمد رقم 21188)، ويقول أيضًا صلى الله عليه وسلم : «السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة» (رواه الترمذي رقم 2010)، ويقول صلى الله عليه وسلم  أيضًا: «لا عقل كالتدبير، ولا وَرَع كالكف، ولا حَسَب كحُسْن الخلق» (سنن ابن ماجه رقم: 4218) والكفّ هو العفاف.

ويقول صلى الله عليه وسلم  أيضًا: «الرفق في المعيشة خيرٌ من التجارة أو من بعض التجارة» (رواه البيهقي في شعب الإيمان: 6556)، والرفق هنا: هو الاقتصاد والتعفف.

 

الأمن الوظيفي

إن الأمن الوظيفي يدور على محورين؛ هما الأمانة والإتقان؛ فأمانة العامل أو الموظف هي أمن لربّ العمل، وإتقانه في العمل هو مدعاة لاستقراره الوظيفي أو لزيادة دخله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنه سيُفتَح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عُمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدَّى الأمانة» (مسند أحمد رقم: 22599)، ويقول صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» (البيهقي شعب الإيمان: رقم 5312).

الأمن الاجتماعي

إن الأمن الاجتماعي في الإسلام ليس مسؤولية السلطة منفردة، ولكنه مسؤولية كل شخص في المجتمع، فهو شريك فاعل في الأمن الاجتماعي، وذلك بأن يكون رحيمًا، حَسَن الخُلق ومفتاح خير، ومشكاة منفعة للآخرين دون تمييز، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضًا، وشبَّك أصابعه، أو بين أصابعه» (رواه البخاري رقم 2314).

ويقول صلى الله عليه وسلم  أيضًا: «لا يدخل الجنة منكم إلا رحيم. قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم. قال: ليس رحمة أحدكم نفسه وأهل بيته، حتى يرحم الناس» (رواه البيهقي كتاب الآداب رقم 32)، وفي رواية: «ولكن رحمة العامة» (رواه الحاكم في المستدرك: 4/168).

ويقول صلى الله عليه وسلم  أيضًا: «الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» (رواه الطبراني في المعجم الكبير: 10/86)، ويقول صلى الله عليه وسلم  أيضًا: «رأس العقل بعد الدين التودُّد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل برّ وفاجر» (شعب الإيمان للبيهقي: 8062).

أمن الشوارع والطرقات

لقد سوَّى الله -تعالى- الأرض، وجعل فيها مسالك وفجاجًا لتكون منارات للمسافرين، وحذَّر رسول الله من تغيير هذه المنارات والعلامات التي يهتدي الناس بها إلى بيوتهم ومدنهم وحقوقهم؛ ولما يترتب عليها من أذى؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «لعن الله مَن غيَّر منارات الأرض» (صحيح مسلم رقم 1978). ومنار الأرض: هي العلامات التي تكون على الطريق، وقد لعن من سرقها أو شوَّهها. ويُقاس عليها أيّ تغيير لعلامة أو إشارة أو لافتة تضعها الدولة هدايةً وإرشادًا للمقيم والغريب وعابر السبيل.

إضافة إلى ذلك توجد أحاديث نبوية تنصّ على القِيَم الخُلقية التي يتعين التحلي بها لكل مَن يتصدى للجلوس في الطرقات أو للسير فيها.

الأمن السياسي

إن أمن المدن والقرى والدول خطّ أحمر في شرع الإسلام الحنيف، ولا يحلّ لإنسان أو جماعة، ترويع الأهالي أو الاعتداء المُسلَّح عليهم، مهما كانت الظروف؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا الْتقى المسلمان بسيفَيهما، فقتل أحدُهما صاحبَه، فالقاتلُ والمقتولُ في النَّارِ. قيل: يا رسولَ اللهِ هذا القاتلُ، فما بالُ المقتولِ؟ قال: إنه كان حريصًا على قتلِ صاحبِه» (صحيح البخاري ٦٨٧٥).

وجاء في الأثر: «لا تقربوا الفتنة إذا حميت، ولا تعرضوا لها إذا أعرضت، واصبروا لها إذا أقبلت» (جمع الجوامع للسيوطي ١١/‏٣٠٧).

وعن عليّ -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال له: «إنه سيكون بعدي اختلاف أو أمر، فإن استطعتَ أن تكون السِّلْم فافعل» (قال الشيخ أحمد شاكر في تخريج مسند الإمام أحمد ٢/٨٥: إسناده صحيح). والسِّلْم أي الصابر المسالم.

الأمن العلمي والدعوي

رفع الإسلام عاليًا رتبة العلم ومكانة المُعلِّم من البشر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما بُعِثْتُ مُعلِّمًا» (مسند أحمد: 697)، ويقول صلى الله عليه وسلم  أيضًا: «ليس من أُمّتي من لم يُجِلّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقّه» (سنن ابن ماجه: رقم 229)؛ فالعلم نور وحياة وأمان من الفتن؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ستكون فِتَن؛ يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، إلا من أحياه الله بالعلم» (مسند أحمد: رقم 22249).

أما منهج الإسلام في العِلْم والتعلم والتعليم، فيتجلَّى في قِيَم عديدة، وفي آداب اعتنى السلف الصالح بجمعها، وحفظها وتدريسها لطالب العلم، ومن هذه القِيَم: التيسير والتدوين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا» (رواه ابن ماجه: 3954).

وفي شأن التدوين أخرج الترمذي أن رجلاً من الأنصار كان يجلس إلى رسول الله، فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إني لأسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه. فقال رسول الله: «استعن بيمينك، وأومأ بيده للخط» (رواه البخاري كتاب العلم رقم 69).

ثمرات الأمن 

إنه حين يوجد الأمن تُوجد أشياء أخرى طيبة معه، وترافقه خيرات وبركات، ومن الآيات التي تتحدث عن هذا المعنى قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112]، فمع وجود الأمن بين الأفراد تأتي خيرات، ويحدث ازدهار اقتصادي، ويشهد المجتمع حركة نشيطة في التجارة، وهذا الازدهار الاقتصادي والراحة النفسية التي تكون بين الناس تجعلهم يمارسون حياتهم في اطمئنان كامل، آمنين على أموالهم وأعراضهم، وعلى أنفسهم، ويقع السلم الاجتماعي العام.

توضيح مهم

إن الأبعاد الأمنية في السُّنة النبوية واضحة البيان بأنه لا يحل لأيّ جماعة مسلمة ترويع الناس، وممارسة العنف عليهم، حتى لو كانت هذه الجماعة مقيمة في وطنها الأم، ورأت (بالتأويل) أن المجتمع القائم جاهليّ، وأن الحكم المسيطر جاهليّ، وهذا لا يعني قتل كل محاولة للتغيير، بل يعني وجوب تبنّي وسائل الدعوة من داخل بنية المجتمع القائم.

إن النصوص النبوية في الأمن واضحة وحاملة لإمكانيات استنباط غير محدودة لمواكبة تطور الحياة على وجه الأرض، والأهم في الأمر ألا يُترك الموضوع رهن التداول العلمي، بل يصل إلى كل إنسان عبر برنامج ترشيد متكامل ليعرف كل إنسان أن الحفاظ على الأمن وعدم التسبُّب بأيّ خوف على الحياة أو الصحة أو المال أو العِرْض هو جزء من ممارسته لدينه وإيمانه.

أعلى