• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تاريخنا والدسائس

من تلك الرِّوايات رواية يرويها اليافعيّ في: «مرآة الجنان» عن الخليفة هارون الرَّشيد حدثت بينَه وبين الشاعر أَبي نواس، فقد جاء فيها: «وقال له الرَّشيدُ: أُحِبّ أَن تنْظم لي أَبياتًا على هذا اللفْظ: «يُكْرَم الضَّيف بسَمْعي والبَصَرْ»


الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على الهادي الأَمين، أَمَّا بعد:

فهذه وقْفة مع فرْية من فِرى التَّاريخ، ومن دسائس أَهل الزِّيغ والتَّخريف، فقد تعرَّض التَّاريخ العربيّ لكثير من معاول الهدم والتَّحوير، ومن نفث أَقلام التَّشويه والتَّزوير، وأُلصِقت به تُـهَم وافتراءات لا تُعَدّ ولا تُحْصَى، وكثر المتطاولون عليه قديمًا وحديثًا، فلم يتْـركوا خَبرًا أَو حادثةً إِلاّ ضخَّموه، وما وجدوا أَثرًا كريمًا إِلاّ نبشوه ولطَّخوه، وما تركوا من مَنقبة إلا وسارعوا في تشويهها وحَرْفها عن مساقها التَّاريخيّ والدَّلاليّ، فقلبوا الأُمور رأْسًا على عقب، بل كانوا يأْتون بأَخبار مُلفَّقة من بنيَّات لوثاتِهم فينْسجونَها بعصبيَّة عمياء، أَو شعوبيَّة هوجاء.

والغريب أَنّ بعض الرُّواة والقصَّاصين والأَخباريِّين كانوا يَنْقلون هذه الأَخبار من غير تمحيص وغربلة، ولا ينْظرون بحال الرُّواة من حيث العدالة والأَمانة، وكأَنّ الغرض المنشود عنْدَهم هو تجميع الأَخبار وحَشْوها وتجميلها بالنِّكات والمغامرات، والقِصص الشَّيِّقة المدبَّجات، ويُفيضون عليها من الخداع المنمَّق، والأَثواب المزركشة ما يجعلُها مقبولةً عند السَّامعين والقارئين.

من تلك الرِّوايات رواية يرويها اليافعيّ في: «مرآة الجنان» عن الخليفة هارون الرَّشيد حدثت بينَه وبين الشاعر أَبي نواس، فقد جاء فيها:

«وقال له الرَّشيدُ: أُحِبّ أَن تنْظم لي أَبياتًا على هذا اللفْظ: «يُكْرَم الضَّيف بسَمْعي والبَصَرْ»، فقال:

طال ليلي وعاودنـي السَّهَرْ

ثُـمّ فكَّـرْت وأَحْسنْت النَّظَـرْ

جئْت أَمْشي فـي زوايا الـخِبا

ثُـمّ طورًا في مقاصير الـحُجَرْ

إِذ بوجْـه قمر قـد لاح لـي

زانَـه الرَّحْمن من بيـن البشَرْ

ثُـمّ أَقْبلْـتُ إِليه مُسْرعًا

ثُـمّ طأْطأْت فقبَّلْت الأَثَرْ

فاسْتفاقـت فَزَعًا قائلـةً

يا أَمين الله ما هذا السَّفَرْ

قلْت ضيف طارق في دارِكمْ

هل تضيفونـي إِلى وقْت السَّحَرْ

فأَجابـت بسرور سيِّـدي

يُكْرَم الضَّيـف بسَمْعي والبَصَرْ

فقال الرَّشيدُ: يا ابن الفاعلة؛ كنت البارحة تحت السَّرير تَسْمع كلامَنا، اضْربوا عنقَه. فحَلَف ما كان، وشفعوا فيه، فقال: إِن كنْت صادقًا فقل في شيء أَنا أُبْصرُه هذه السَّاعة، وكانت جارية قبالة الرَّشيد تضْرب سدْرًا في ظلّ سدْرتين، لابسةً في إِحدى كفَّيها خاتـمين، وهي في مكان لا يراها أَبو نواس، ولا أَحد من النَّاس غير الرَّشيد، فقال:

نَظَرَت عينـي لـحَيْنـي

واشْتكى وجْدي لبَينـي

عند فـيء السِّدْرتيـنِ

شَبَحـًا مثْل اللُجيـنِ

يَضْرب السِّدْر بكفّ

وبأُخْـرى خاتـميـنِ

فقال الرَّشيدُ: أَنْت تُبْصرُها يا فاعل، اقْتلوه. فحلَف لا يُبْصِر شيئًا، وشُفِع فيه فلم يَقْبَلْ. فقالت جارية بالقرْب من الرَّشيد لا يُبْصرُها، ولا إِلى سواه يَبْلغ كلامُها: بالله يا سيِّدي خلِّه يروح، فقال الرَّشيد لها سرًّا: ما أُخلِّيه حتَّى تَـمْشي عريانةً، فحلَّت ثيابَـها، ومَشَت حتَّى جاءتْـه، فخَلاَّه.

فلمَّا صار أُبو نواس بالباب، قالَ: أَي والله يا سيِّدي:

ليس الشَّفيع الذي يأْتيك مُتَّـزرًا

مثل الشَّفيع الذي يأْتيك عُرْيانا

فقال له: يا شيطان. فخرج هاربًا من ذلك بعدَما أَبْدع فيما يقول، واخْترع ما سَحر به العقول»[1].

فهذه القصَّة الغريبة العجيبة تُصوِّر لنا مجتمعًا متهتِّكًا، وكأَنّ الخلفاء والأَمراء صار عقد مجالس اللهو والفجور، وشرب الخمور، وهتْك السُّتور شغلَهم الشَّاغل، وديدنَهم الدَّائم، وكم في هذه القِصَّة المفْتراة من حقْد يغْلي داخل الصُّدور، وكم فيها من دسّ وتهويل بين السُّطور، ومن خلال هذه الرِّواية نستطيع أَن نتلمَّس بعض هذه الأَهداف التي رمى إِليها ناسجُها وواضعُها:

1- نجد أَنّ الخليفة هارون الرَّشيد كان لا يحافظ على حُرُمات القَصْر، ولا يهتـمّ كثيرًا بأَن يرى الآخرون نساءَه وإِماءه في أَوضاعٍ لا تَليق، وكأَنّ هذا القصر قد أَصْبح في نظر هذا المشؤوم وأَشباهِه مَعْرضًا للفواحش، وملهًى لمعاقرة الخمور، وهتْك السُّتور.

2- تُصوِّر لنا هذه القصَّة أَن الخليفة هارون الرَّشيد كان يَشُكّ بمن في قَصْرِه، فهو يرى أَنّ أَبا نواس قد بات تحت سريرِه يسْمع ويرى ما دار في الليل بينَه وبين نسائِه، وهذا أَمر لا يـمْكن لجاهل مَعْتوه أَن يُصدِّقَه، وهذا لا يمكن أَن يَـحْصل في دور من هو أَقلّ شأنًا منه، فكيف يكون ذلك في قصر خليفة المسلمينَ؟!

3- أَظهرت لنا هذه القصَّة أَنّ الخليفة رجل مُتقلِّب مزاجيّ، سريع الحُكْم، فهو يأْمر بقَتْل أَبي نواس، ثمّ يتراجع عن قرارِه، فهو في كلّ لحظة في حال.

4- صوَّرت الرِّواية الرَّشيد رجلًا مِطْواعًا للنِّساء والإِماء، فهو يُغيِّر رأَيه بكلمة من محظية في قصرِه، وكأَنَّه أُلعوبة بيد إِمائِه، وأُضحوكة أَمام جلسائِه.

5- وصل الأَمر في هذه الرّواية إِلى طلب الرَّشيد من جاريتِه أَن تأَتيَه عاريةً أَمام أَبي نواس، وربَّما كان هناك أَشخاص آخرون؛ لأَنّ القِصَّة تقول: إنّ كلام الجارية لا يَبْلغ سواه، فهناك جَمْع من الذين كانوا حاضرين في ذلك المجلس، وهذه زيادة في تشويه صورة الخليفة، وإِظهاره بمظهر اللاهي الذي لا يبالي لا بدين ولا بشرف، ولا يتورَّع عن فعل أَيّ شيء.

6- يبدو أَنّ هذه الأَشعار الواردة في الرّواية قد أَخذَها الرُّواة، ونسجوا حولَها هذه القصَّة الخياليَّة التي كان الغرض منها تشويه صورة المجاهد الحافظ الخليفة هارون الرَّشيد، وربَّما كان الشِّعر من وضْع بَعْض النَّاقمين على الرَّشيد، أَو من بعض الشُّعوبيِّين الحاقدين؛ فقد قيلت أَشعار كثيرة لا يُعرَف قائلوها، ونُسِبَت إِلى الشُّعراء الذين تتشابه أَشعارُهم مع هذا النَّوع أَو ذاك، وقد ذكَر ذلك الكثير من الأُدباء.

قال محقِّق ديوان أَبي نواس عن ما تبقَّى من شعْره: «وهذا الباقي إِلى اليوم دَخَلَه منْحول كثير، حتّى اخْتلط الصَّحيح بالمنْحول، وأَدرك ذلك الأَصفهانيّ، وأَشار إِلى كثير منه، وذلك أَنّ النَّاس كانوا إِذا رأوا قصيدةً موضوعُها يُوافق موضوعات أَبي نواس، روحُها كروحِه، ونسْجُها كنسْجِه، أَلحقوها بديوانِه، فمن هنا نرى أَن كثيرًا من القصائد تُنْسَب له، وتُنْسَب لغيرِه...»[2].

وقد بَحَثْت في هذا الدِّيوان لأَبي نواس، ولم أَجد هذه القصيدة، وهذا يدلّ على أَنّ الشِّعْر والقصَّة من تخرُّصات المُغْرضين الحاقدين، أَو من تخيُّلات المهرِّجين الغوغائيِّين، أَو من نَسْج خيال شاعر لا يريد أَن يفضَح نفْسَه بما افتراه.

وهكذا نرى الرُّواة والقصَّاصين والأَخباريِّين يحاولون جهْدَهم أَن يتزوَّدوا في أَخبارِهم، وأَن يَحْشدوا في تصانيفِهم كلّ خبر غريب، وكلّ حادثة عجيبة، وكلّ ذلك في سبيل التَّزوُّد من الأَخبار، وإِتحاف النَّاس بتلك الخرافات والخزعْبلات، وإِظهار المقدرة على جمع النَّوادر، وحَبْك القِصص ونسْجِها وتزيينِها بما يناسبُها من أَشعار وأَحداث، وهكذا تتحوَّل الحادثة بين أَيديهم إِلى أَعاجيب وتهاويل، وتصبح الحبَّة قبَّة؛ على قول المثل.

فتعال معنا لنرى كيف تحوَّلت هذه القصَّة بين أَيديهم وانْتفخت، وكيف تحوَّرت وانْحرفت! فبدلًا من أَنّ الأَحداث الواردة في القِصَّة السَّابقة قد جعلت الرَّشيد يطْلب من جاريتِه أَن تخرج إِليه عريانةً، فإِنَّنا نرى عند اللاحقين الذين دوَّنوا هذه القِصَّة أَنَّهم جعلوا الرَّشيد يطْلب من زوجه: «زبيدة أُمّ جَعْفر» أَن تطوف القَصْر عريانةً بعد اللعب بالشَّطرنج والفوز عليها باللعب، ثمّ تغْلبُه زبيدة في الشَّوط الثَّاني، وتطْلب منه أَن يطأ أَبْشع وأَنتن جارية في المطْبخ، وقد أَورد هذه الحوادث الدميريّ في كتابه: «حياة الحيوان الكبرى»، وذكر أَنَّه نقلَها عن محمَّد بن شاكر الكتبيّ، صاحب كتاب: «عيون الأَخبار»، الذي عاش ما بين: 681- 764ه، ولعلَّه هو أَوَّل من ذكر هذه القِصَّة المختلقة في كتاب، ولا ندري إِن كانت قد ذُكرت قبل ذلك، فما بين أَيدينا من كتب لم تسْعفْنا بذكْرِها في كتاب أَقدم، كما ذكر هذه القِصَّة بعض المعاصرين للدميريّ كاليافعيّ في كتابه: «مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزَّمان»[3]، فالكتبيّ والدميريّ واليافعيّ كانوا من جيل واحد تقريبًا، وإِليك النَّصّ الذي نقلَه الدميريّ عن محمَّد بن شاكر الكتبيِّ:

«ذكر صاحب عيون التَّواريخ وغيرُه، أَنّ المأْمون مرّ يومًا على زبيدة أُمّ الأَمين، فرآها تُـحرِّك شفتيها بشيء لا يفْهمُه، فقال لها: يا أُمَّاه، أَتدْعِيـن عليَّ؛ لكوني قتلْت ابنَك وسلبْتُه مُلْكَه؟! فقالت: لا والله يا أَمير المؤمنين، قالَ: فما الذي قُلْتِه؟ قالت: يَعْفيني أَمير المؤمنين، فأَلحَّ عليها، وقالَ: لا بُـدّ أَن تقوليه، قالت: قلْتُ: قبَّح الله الملاحَحَة.

قالَ: وكيف ذلكَ؟ قالت: لأَنِّـي لعبْت يومًا مع أَمير المؤمنين الرَّشيد بالشَّطرنج على الحكْم والرِّضا، فغلبني، فأَمرَني أَن أَتجرَّد من أَثوابي، وأَطوف القَصْر عريانةً، فاسْتعْفَيتُه، فلم يُعْفِنـي، فتجرَّدْت من أَثوابي، وطفْت القصْر عريانةً، وأَنا حَنِقَة عليه، ثمّ عاودنا اللعب فغلبْتُه، فأَمرْتُه أَن يذْهب إِلى المطْبخ، فيطأ أَقْبَح جارية، وأَشْوَهَها خلْقةً فيه، فاسْتعفاني من ذلك فلم أُعْفِه، فبَذل إِليَّ خراج مصْر والعراق فأَبيتُ، وقلتُ: والله لتفْعلنَّ ذلك فأَبى، فأَلْحَحْتُ عليه، وأَخذْت بيدِه، وجئت به للمطْبخ، فلم أَر جاريةً أَقْبَح ولا أَقْذَر ولا أَشْوَه خلْقةً من أُمِّكَ: «مراجل»، فأَمرْتُه أَن يطأَها، فوطئَها، فعَلِقَت منه بك، فكنْت سببًا لقتْل ولدي وسلْبِه مُلْكَه، فولَّـى المأمون، وهو يقولُ: لعن الله الملاحَحَة. أَي: التي أَلحّ عليها حتَّى أَخبرْتُـه بهذا الخبرِ»[4].

إِنَّ تحليل هذه الأَخبار واكتناه ما وراءَها يكشف لنا أُمورًا وفظائع، وتُظْهِر لنا حقدًا دفينًا، وخبْثًا وقدرةً عند من نسَج هذه التُّرُّهات وحاكَها، فـ«وراء الأَكمة ما وراءَها»، ولكنّ الغريب في ذلك هو أَنّ هؤلاء الكُتَّاب والمؤرِّخين والرُّواة قد أَخذوا هذه الافتراءات على عواهنِها، ودوَّنوها من غير أَيّ تعليق عليها، ومن دون أَيّ سبْر لأَغوارِها، ومن دون أَيّ تنبيه وتحذير لمراميها الخبيثة.

 ولنعد إِلى النَّصّ السَّابق لكي نسْتخلص منه الغايات التي قصد إِليها واضعوها من ورائِها:

1- إِنّ واضعَها يريد أَن يُشوِّه صورة ذلك العصْر، فراح يَنْقل لنا صورةً عن الفسْق والانحلال في مجالس الخلفاء، والنَّاس تتلهَّف على ذكْر هذه الأَخبار وتتسقَّطُها، فهو يعْزف على هذا الوتر المثير.

2- نرى أَنّ الخليفة يطلب من زوجِه أَن تخلع ثيابَها، وأَن تطوف عريانةً حول القصْر، فأَيُّ درجة من الكذب وصل إِليها خيال هذا المفتري؟! وأَيّ غلّ يَعْتمل في قلبِه على هؤلاء الخلفاء؟!

3- أَمِن المعقول أَن تقْبل بنت الخلفاء، وزوج الخلفاء، وأُمّ الخلفاء أَن تخلع ثيابَها في باحات القصْر؟! إِنّ ذلك لا يُصدِّقُه عقل، ولا يقْبلُه منطق أَبدًا!

4- هل هناك امرأة في العالم تطْلب من زوجِها أَن يطأ جاريةً أَمامَها، وهي تسوقُه مجْبرًا على ذلك؛ فأَيّ فِرْية ارْتكبَها مَن لفَّق هذه الأَخبار ودَبَّجَها؟! إِنَّها -واللهِ- لمن أَكبر الافتراءات وأَشْنعِها.

5- أَراد مؤلِّف هذه القصَّة أَن يجْعلَنا نُصدِّق أَنّ الخليفة يفرِّق أَموال بيت مال المسلمين في وجوه اللهو والعبث، وأَرانا أَنّ الخليفة مسْتهتر بهذه البلاد وثرواتِها، يُفرِّط بكلّ ما يـمْلك في سبيل تحقيق نزواتِه ورغباتِه، وجلْب السُّرور والحبور، والتَّلاعب والتَّلهِّي بهذه الأُمور، والعياذ بالله.

وقد ذكر هذه القصَّة الهجرانيّ الحضْرميّ في كتابِه: «قلادة النَّحْر في وفيات أَعيان الدَّهْر»، وقد عاش الهجرانيّ في أَواخر القرن الثَّامن الهجريّ، وأَوائل القرن التَّاسع الهجريّ[5].

وذكرَها الإِتليديّ أَيضًا في كتابِه: «نوادر الخلفاء»، وهذا الكتاب هو المشهور بـ«إِعلام النَّاس بما وقع للبرامكة مع بني العبَّاس»، وهو من كُتَّاب القرن الحادي عشَر الهجريّ، وهذا الكاتب معروف بكذبِه واختلاقِه للقِصص والأَخبار، ووضْعِه لكلّ ما فيه قَدْح وتطاوُل على التَّاريخ وشخصيّاتِه وأَعلامِه المشهورين[6].

ومن أَجل بيان حالة هذا المؤرِّخ نذهب إِلى مقال عنه في جريدة العرب الاقتصاديَّة الدَّوليَّة التي نشرت تعريفًا بالإِتليديّ، جاء فيه:

«وقال مشهور حسن سلمان عن الكتاب: كتاب فيه حكايات فكاهيَّة لأَشخاص تاريخيَّة، ومن قِصصِه واحدة اسمُها: «الحجَّاج وهند»، كلُّها دعابة ومخترعات لا تناسب عصْر حدوثِها، ومؤلِّف هذا الكتاب هو محمَّد المعروف بدياب الإِتليديّ، فرغ من تأليفِه عام: 1100هـ= 1689م، وعملُه هو تشويه سيرة العبَّاسيِّين، خاصَّةً هارون الرَّشيد، فقد خاض في عِرْضِه، وذكَر قِصصًا كأَنَّه مُشاهِد لها، مع أَنّ بينَه وبين الرَّشيد أَكْثر من 900 عام.

 ومن بين الأَكاذيب التي فيه قِصَّة العبَّاسة أُخْت هارون الرَّشيد مع جعْفر البرمكيّ، وقد رفضَها المؤرِّخون الأَقْدمون كالخطيب البغداديّ، وغيرِه، والإِتليديّ يُؤكِّد في كتابِه هذا أَنّ الرَّشيد ثمل من الخَمْر، وكذلك أُخْتُه العبَّاسة وجعفر، وحياة الرَّشيد تكذِّب تعاطيه الخمْر، وهذا ممَّا يُفْسد القِصَّة المخْتلقة من أَرومتِها... وما ورد مطْلقًا أَنّ الرَّشيد نادم النِّساء، فأَراد البرامكة الحطّ من فضْل الرَّشيد ومجالسِه، وما فيها من احْتشام وديـن»[7].

كما أَورد هذا الخبر العصاميّ في كتابِه: «سمط النُّجوم العوالي في أَنباء الأَوائل والتَّـوالي»، وهو من كُتّاب القرن الحادي عشر الهجريّ أَيضًا، وساق العصاميّ الخبر نقلًا عن كتاب: «قلادة النَّحر» من غير سند، فقال: «قَال فِي قلادة النَّحْر: إِنّ المَأْمُون مرّ يَوْمًا على زبيدة أُمّ الأَمين، فرآها تُحرِّك شفتيها بِشَيْء لَا يعْرفُه...»[8].

هذه القِصَّة المكذوبة المفتراة تُكذِّبُها وتنْسفُها من جذورِها روايات أُخرى أَوردَها بعض الكتَّاب والمؤرِّخين؛ فقد أَورد ابن العمرانيّ قِصَّةً عن السَّبب الذي دفع الرَّشيد لكي يطأ الجارية «مراجل»، وذلك أَنّ الرَّشيد شكا إِلى بعْض خواصِّه من أَصحاب الخبرة والطِّبّ أَنّ زوجَه: «زبيدة» قد مضى عليها فترة، ولم تحمل بولد له، فقال ابن العمرانيّ مبيِّنًا ذلك في كتابِه عند حديثِه عن الخليفة المأمون:

«هو أَبو العبَّاس، عبد الله بن هارون الرَّشيد، وأَبو العبَّاس كنيتُه، كنَّاه بها أَبوه، فأَمَّا هو فإِنَّه تَكنَّـى بعد موت أَبيه بأَبي جعفر، وهي كنية الرَّشيد، وكنية المنصور، وأُمُّه أُمّ ولد كانت طبَّاخةً، واسمُها: «مراجل»، وأَصْلُها من: «باذغيس»، وكان أَكبر من الأَمين، وكانت زبيدة بقيت مع الرَّشيد مدَّة لم تَـحْبَلْ، فشكا ذلك إِلى بعض خواصِّه فقالَ: يا أَمير المؤمنين، نَبِّـه رَحِمَها بإِحبال بعْض جواريك، فدخل يومًا إِلى المطْبَخ، فرأَى: «مراجل» المقدَّم ذكْرُها، فجذبَها وجامعَها، ونَفَذ إِلى زبيدة مَن يعْلمُها بذلك، ونفذ إِليها بعْد أَيَّام مَن يخبرُها بأَنَّ: «مراجل» حبلت، فلمَّا كان بعد أَيَّـام قلائل حبلت زُبيدة بالأَمين...»[9].

إِنّ هذا الخبر الذي ساقَه العمرانيّ هو الأَقْدَم زمنًا، فبينَه وبين اللاحقين قرن من الزَّمن، وهو الأَسلم أَحداثًا ومنطقيَّةً، والأَقْرب إِلى الواقع، فانظر إِلى القُصَّاص والأَخباريِّين كيف جمح بهم الخيال، واشْتطّ بهم المجال، فأَضافوا ما أَضافوا، وشوَّهوا بقصد من قِبَل ذوي الأَحقاد والدَّسائس المغْرضين، وأَساء الآخرون بأَخْذ هذه الرِّوايات عن جهْل من دون تمحيص وتفنيد، وحشوا بها كتبَهم، فأَفرطوا وفرَّطوا من غير أَن يَدْروا ما يُحَاك في الخفاء لهذه الأُمَّة من تُهَم باطلة، وقصص غارقة في أَتون الكراهية العمياء، والشُّعوبيَّة الهوجاء.

نرى من خلال ما تقدَّم من روايات أَنّ الجميع قد نقلوا من كتاب: «عيون التَّواريخ» لصاحبِه: «محمَّد بن شاكر الكتبيّ»، والذي هو مِن أَقدم مَن عَثرْنا عنْدَه على هذه القِصَّة فيما لدينا من مصادر البحث، ولا ندري من أَين استقى الكتبيّ هذه الأَحداث، علمًا بأَنَّه قد عاش شطْرًا من حياته في القرن السَّابع الهجريّ، وشطرًا في القرن الثَّامن الهجريّ.

وبين أَوَّل خبر لدينا عن هذه الرِّوايات وبين وفاة الرَّشيد قرون وقرون، فقد وُلِد الرَّشيد سنة: 146هـ، وتُوفِّي سنة: 192هـ، رحمه الله، فبينهما ما يقارب خمسة قرون.

وفي ختام هذا العَرْض الموجز لرواية قام باخْتلاقِها عقل شيطانيّ خبيث، ووسْوس له بها شيطان رجيم، فلا يسعُنا إِلاّ أَن نقول لكلّ دارسي الأَدب والتَّاريخ: إنَّنا بحاجة إِلى مَن يسلِّط الضَّوء على هذه الأَكاذيب، واضعًا نصْب عينيه ابتغاء الحقيقة، وكشْف مواطن الدَّسّ والتَّحريف والتَّخريف في تاريخِنا الإِسلاميّ، فهناك الكثير من الغثّ الذي نَفثتْه الأَلسنة الحاقدة، وسوَّدتْه الأَقلام الوالغة في دينِنا وعروبتِنا، وهذه واحدة من آلاف القِصص المفتراة، ومن الأَحداث المدسوسة المحشوَّة في ثنايا الكتب الصَّفراء التي تسيل سُمًّا زعافًا، وتَنْفث شررًا وحِممًا، وكانت وما زالت تَنْطح في جبال أُمَّتنا الرَّاسيات، ولكنَّ حالَها كحال الوعل الذي قال فيه الأَعشى:

كناطح صَخْرةً يومًا ليُوْهِنَها

فلم يَضِرْها وأَوْهى قرْنَه الوَعِلُ

ونضع بين أَيديكم جدولًا لولادة ووفاة كلّ من الذين أَوْردوا هذه الأَخبار وتناقلوها في مؤلَّفاتِهم:

عنوان الكتاب

المؤلِّف

ولادتُه- هجريّ

وفاتُه- هجريّ

الإِنباء في تاريخ الخلفاء

ابن العمرانيّ

غير معروفة

٥٨٠

عيون التَّواريخ

محمَّد بن شاكر الكتبيّ

681

764

مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزَّمان

اليافعيّ

غير معروفة

768

حياة الحيوان الكبرى

كمال الدين الدميريّ

742

808

قلادة النحر قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر

الهِجْرانيّ الحضرميّ

870

947

نوادر الخلفاءِ: (إِعلام النَّاس بما وقع للبرامكة مع بني العبَّاس)

محمَّد الإِتليديّ

غير معروفة

1100

سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

عبد الملك العِصاميّ

1049

1111

 

 


 


[1] مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يُعتبر من حوادث الزَّمان - اليافعيّ- سنة وفاته: ٧٦٨هـ- وضع حواشيه: خليل المنصور- النَّاشر: دار الكتب العلميَّة- لبنان: بيروت - الطَّبعة الأولى- سنة: ١٤١٧هـ - ١٩٩٧ م - ج: 1- ص: ٣٤٧.

[2] ديوان أَبي نواس- تحقيق: محمّد أَنيس مهرات- سورية: حمص- دار مهرات للعلومِ- ط: 1- سنة: 2009م- ص: 45.

[3] مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزَّمان- اليافعيّ- ت: ٧٦٨هـ- وضع حواشيه: خليل المنصور- النَّاشر: دار الكتب العلميَّة- لبنان: بيروت- الطَّبعة الأولى- ١٤١٧هـ - ١٩٩٧م- ج: 1- ص:  ٣٤٧.

[4] حياة الحيوان الكبرى- محمَّد بن موسى بن عيسى بن عليّ الدّميريّ- 742- ٨٠٨هـ - دار الكتب العلميَّة- لبنان: بيروت- الطَّبعة الثَّانية- ١٤٢٤ هـ- ج:1- ص: ١١٥.

[5] قلادة النَّحْر في وفيات أَعيان الدَّهْرِ- أَبو محمَّد الطَّيِّب بن عبد الله بن أَحمد بن علي بامخرمة، الهِجرانيّ الحضرميّ الشَّافعيّ-٨٧٠ - ٩٤٧هـ- عُني به: بو جمعة مكري وخالد زواري- النَّاشر: دار المنهاج – السعوديَّة: جدّة- الطَّبعة الأولى- ١٤٢٨هـ - ٢٠٠٨م- ج: 2- ص:  ٣٢٨.

[6] نوادر الخلفاء: إِعلام النَّاس بما وقع للبرامكة مع بني العبَّاسِ- محمَّد الإِتليديّ- تحقيق: محمَّد أَحمد عبد العزيز سالم- النَّاشر: دار الكتب العلميَّة- لبنان: بيروت - الطَّبعة الأولى- ١٤٢٥هـ - ٢٠٠٤م- ص: ٢٣٥.

[7] رابط المقالِ:  https:www.aleqt.com20180622article_1408076.html  

[8] سمط النُّجوم العوالي في أَنباء الأَوائل والتَّـوالي- عبد الملك بن حسين بن عبد الملك العصاميّ المكّيّ- ت: ١١١١هـ- تحقيق: عادل أَحمد عبد الموجود- عليّ محمَّد معوض- النّاشر: دار الكتب العلميَّة – لبنان: بيروت- الطَّبعة: الأولى: ١٤١٩هـ - ١٩٩٨م- ج 3- ص: 436 و٤٣٧.

[9] الإِنباء في تاريخ الخلفاءِ- محمَّد بن عليّ بن محمَّد المعروف بابن العمرانيّ- ت: ٥٨٠هـ- تحقيق: قاسم السَّامرّائيّ- النَّاشر: دار الآفاق العربيَّة، القاهرة- الطَّبعة الأُولى- سنة: ١٤٢١هـ - ٢٠٠١م- ص: ٩٦.

 

 

أعلى