• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المرابطون وملحمة توحيد المغرب العربي

بدأ المرابطون جهادهم في المغرب من بلاد السوس وبلاد الحوز، في الجنوب الغربي؛ حيث قضوا على من كان بها من أقليات رافضية ووثنية ويهودية، وأعادوا أهلها إلى جادة الحق، وإلى عقيدة أهل السنة والجماعة


المرابطون اسم يتردد صداه في الآفاق منذ حوالي تسعمائة عام، كعَلَم لأولئك الثُّلة من المجاهدين، الصادقين في إيمانهم، المخلصين لربّهم وعقيدتهم، والذين نذروا أنفسهم لله، وحملوا على عاتقهم مهمّة نشر الإسلام بمفهومه الصحيح في المغرب العربي الكبير، وتنقيته من كل مظاهر الشرك والوثنية والدجل والشعوذة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وجابهوا كل التحديات والصعوبات التي اعترضت طريقهم، بعزيمةٍ لا تلين، وإرادة لا تُغلَب، وقوة إيمان لا تتزعزع، وأقاموا على أكتافهم دولة إسلامية عظمى، ملتزمة، ومرهوبة الجانب، امتدت من سرقسطة في شمال الأندلس، إلى جبل الذهب في أقصى بلاد السودان الغربي، وحققت من الفتوحات والبطولات والإنجازات العظيمة، ما لم تحققه أيّ دولة إسلامية أخرى، قامت في الجناح الغربي من العالم الإسلامي، ولا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.

بداية دعوة المرابطين

بدأت دعوة المرابطين في صحراء شنقيط أو بلاد صنهاجة اللثا[1] (موريتانيا حاليًّا)، وتحديدًا في قبيلة جدالة البربرية المجاورة لساحل المحيط الأطلسي حتى مصب نهر السنغال، على يد الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين الجزولي، أحد نوابغ مشايخ قرطبة والقيروان، وذلك بدعوة من أمير هذه القبيلة، الحريص على هداية قومه وإنقاذهم من الضلال، وهو يحيى بن إبراهيم الجدالي.

وكان الإسلام قد وصل إلى هذه الديار في وقت مبكر، في ولاية عبيد الله بن الحبحاب للمغرب (116-123هـ)، أثناء الحملة التي بعث بها هذا الوالي إلى بلاد السودان الغربي، بقيادة القائد المظفر حبيب بن أبي عبيدة، حفيد عقبة بن نافع؛ إلا أن فتنة خوارج البربر في المغرب عام 122هـ[2]، أوقفت انتشار الإسلام في هذه البلاد، ولهذا السبب لم يتأصّل الإسلام في نفوس أبنائها، وظل وجوده ضعيفًا فيها، مع اختلاط تعاليمه بالكثير من مظاهر الوثنية والشرك، التي كانت سائدة في الأقاليم الجنوبية المجاورة.

فلما وصل إليها الفقيه عبد الله بن ياسين التفَّ حوله المئات من أبناء قبيلة جدالة، ومن غيرها من قبائل صنهاجة اللثام؛ حيث أسَّس وإياهم رباطًا في إحدى الجزر هناك سنة 433هـ، وشرع فيه يُعلِّمهم مبادئ الإسلام، ويُربيهم على الكتاب والسُّنة، ويزرع في نفوسهم حبّ الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بيد أنه بعد وفاة الأمير يحيى بن إبراهيم سنة 439هـ، أراد الجداليون تنصيب زعيم آخر للجماعة خلفًا له، من جدالة نفسها، فعارض الفقيه ابن ياسين هذه الفكرة، على اعتبار أنها نزعة قَبَلِيّة ضيّقة، تكتّف الدعوة وتُعيقها عن التمدد والانتشار. فكان هذا سببًا في انتكاستهم، فقد تمردوا عليه، وهدموا داره، وطردوه من ديارهم. فقام ابن ياسين بعد ذلك بالتحول إلى قبيلة لمتونة، الصنهاجية أيضًا، والتي كانت تسكن في شمال قبيلة جدالة، وتسيطر على الطريق البري الرابط بين المغرب والسودان الغربي. وقد وجدت دعوة ابن ياسين تربة خصبة في هذه القبيلة؛ فقد آمنت بها، وتحمَّست لها، وأبلت أحسن البلاء في سبيلها، وضحَّت لأجلها بالغالي والنفيس، عن قناعة وإيمان، ومن دون تطلعٍ لمنافع عاجلة، أو تهافتٍ على مصالح زائلة، وذلك بزعامة أميرها أبو زكريا يحيى بن عمر اللمتوني، وبصورة جعلت الفقيه ابن ياسين، معلمهم ومرشدهم الروحي، يُثْني عليهم ويصبغ عليهم ذلك اللقب الخالد الذي استحقوه عن جدارة، وهو لقب «المرابطين».

ولما قُتل الأمير يحيى بن عمر في غارة شنّتها قبيلة جدالة على قبيلة لمتونة سنة 447هـ، خلَفه في القيادة الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان وأخوه الشهيد من الرعيل الأول الذين التحقوا بدعوة ابن ياسين، وفي عهده خرج المرابطون من الصحراء، بعد أن اجتمع شمل قبائل صنهاجة اللثام، وانطلقوا شمالًا نحو المغرب مجاهدين وفاتحين وحَمَلة رسالة سامية، على أساس من فقهٍ ودينٍ، وكانت أولوياتهم هي جهاد المارقين والمرتدين، وتقديم النصرة للمسلمين المضطهدين، وتحاشي الاصطدام بأهل القِبْلَة.

المغرب غداة ظهور المرابطين:

كان من نتائج فتنة الخوارج في شمال إفريقيا، والتي اندلعت في الربع الثاني من القرن الثاني الهجري، فقدان بلاد المغرب العربي الكبير لوحدتها السياسية والدينية والثقافية، وانقطاع السياق التاريخي للجنوب عن الشمال، والذي كان قد وصله قادة الفتح والولاة الأوائل، أمثال عقبة بن نافع، وحسان بن النعمان، وموسى بن نصير، وإسماعيل بن عبيد الله، وغيرهم، وذلك على مدى أكثر من ثمانين عامًا، من الجهاد الذي لا يَعرف التاريخ له مثيلاً[3].

وذلك أن الكثير من الموتورين والمغامرين ركبوا موجة الخوارج العارمة تلك، ولكنهم لم يكتفوا برفع راية الخروج على الخلافة وعلى أهل السنة والجماعة، وإنما اتخذوا من فكر الخوارج وحركتهم الضالة، ستارًا للخروج من الإسلام جملةً، والعودة إلى حياة البداوة والوثنية والجاهلية الجهلاء، ولذلك فقد تكرَّر ظهور المتنبئين الكذابين في نواحي المغرب النائية، خلال هذه الفترة، ثم خلال القرون الأربعة اللاحقة، التي فقدت المغرب خلالها وحدتها المركزية، وقد قام أولئك المتنبئون الكذابون بوضع شرائع للناس، تُبيح لهم ما حرَّم الله، وتُزيّن لهم الباطل، وتُودِي بهم إلى متاهات الضلال، مستغلين ما كانت عليه قبائل البربر النائية، حينذاك، من البداوة والجهالة، وعدم تأصُّل تعاليم الإسلام، في قلوب أبنائها ونفوسهم، وانقطاعهم في الصحراء القاحلة.

وقد وصلت الفوضى الدينية إلى ذروتها في مطلع القرن الخامس الهجري؛ حيث عمَّت البدع والخرافات وموجة الدجل والشعوذة، أجزاء واسعة من بلاد المغرب الأقصى، ففي الأجزاء الغربية منها، وتحديدًا في إقليم تامسنا الممتد من الرباط إلى الدار البيضاء على ساحل المحيط الأطلسي، وأيضًا في الأجزاء الجنوبية في إقليم سجلماسة ودرعه وغيره، كان هناك قبائل برغواطة (بلغواطة)، التي مرقت عن الإسلام، واعتنقت دينًا مشوهًا يحتوي على تأثيرات يهودية ومجوسية ووثنية واضحة، وكانت هذه القبائل تمثل أخطر الحركات الباطنية الهدامة على الإسلام وأهله في المغرب الأقصى، وكانت أصلبها عودًا، وأكثرها نفوذًا، وأنشطها في فرض عقيدتها الضالة على كلّ مَن خضع لها أو أخضعته لنفوذها، من جيرانها المسلمين، وذلك بالقوة والقهر، وكانوا يعيثون فسادًا وتخريبًا في كل مكان حلوا به، وقد زاد من خطر هذه القبائل المارقة، ومن أشرها وبطرها، أن قبائل غمارة المرتدة في شمال المغرب الأقصى، وتحديدًا في جبال الريف حتى سبتة وتطوان وطنجة، والمتاخمة لها، كانت متعاونةً معها ضد الدول الإسلامية التي قامت بجوارها، ورفعت راية الجهاد ضدها، من إدريسية وأموية وزناتية وصنهاجية، وأيضًا ضد الرباطات المالكية التي تأسَّست على حدودها لوقف زحفها، ولمنع انتشار فكرها الخبيث، ولحماية المسلمين من شرّها ومكرها وغدرها. وبجانب هذه القبائل وتلك، كانت هناك أقليات رافضية ووثنية ويهودية في إقليم السوس في أقصى جنوب المغرب، وكانوا أعداء ألداء لأهل السنة. هكذا كان الحال في المغرب الأقصى في تلك الفترة حالكة السواد من تاريخه، وهي بداية القرن الخامس الهجري، قبيل وأثناء انطلاق دعوة المرابطين الإصلاحية، على يد الفقيه عبد الله بن ياسين.

فتح المرابطين للمغرب

بدأ المرابطون جهادهم في المغرب من بلاد السوس وبلاد الحوز، في الجنوب الغربي؛ حيث قضوا على من كان بها من أقليات رافضية ووثنية ويهودية، وأعادوا أهلها إلى جادة الحق، وإلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وتوّجوا انتصاراتهم في هذه الجهات بفتح مدينة أغمات سنة 449هـ، تلك المدينة المهمة، الواقعة في سفوح جبال أطلس، والتي لم يلبثوا أن اتخذوها حاضرةً لهم؛ لقُربها من موطنهم الأصلي.

وبعد ذلك بدأ جهاد المرابطين القوي الساطع، والذي خرجوا من أجله من صحرائهم، وهو الجهاد ضد القبائل والطوائف المارقة في المغرب، وهي قبائل برغواطة وغمارة، واللتين كانت تبسطان سيطرتهما على الجزء الأكبر من المغرب الأقصى؛ حيث قاد الفقيه عبد الله بن ياسين جيش المرابطين بنفسه للجهاد ضد قبائل برغواطة في الغرب، إلى جانب الأمير أبي بكر بن عمر، بينما أسندت مهمة قتال قبائل غمارة المارقة في الشمال إلى الأمير المتألق يوسف بن تاشفين ابن عم أبي بكر، وقد خاض كل طرف منهما على حدة أعنف المعارك ضد تلك القبائل المارقة، أكبرها وأشرسها وأشدها هولًا هي تلك المعركة التي دارت بين جيش المرابطين وجيش البرغواطيين بالقرب من مدينة الرباط، والتي استُشهد فيها الداعية الإصلاحي الفذّ عبد الله بن ياسين سنة 451هـ، بعد سنوات طويلة من الدعوة والجهاد، وبعد أن شبَّ المرابطون عن الطوق، وصارت دولتهم حقيقة قائمة في المغرب والصحراء، وعلى أساس المبادئ السامية التي دعا إليها وجاهد من أجلها، وصار أعداء الإسلام يحسبون لها ألف حساب.

وقد تولى زعامة المرابطين العسكرية والروحية بعد الفقيه ابن ياسين، صديقه وساعده الأيمن الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني، هذا الأخير الذي أعاد ترتيب جيش المرابطين، وبثّ فيه الحماس إلى أقصى حدّ، ثم لم يلبث أن اندفع على رأسه لقتال قبائل برغواطة المارقة، فسحق جموعها، وقضى على دعوتها، وأما مَن تبقى منها فقد ثابوا إلى رشدهم، وأسلموا إسلامًا صحيحًا.

وأما الأمير يوسف بن تاشفين؛ فقد فتح مدينة فاس صلحًا سنة 455هـ، متحاشيًا الاصطدام بالزناتيين حُكّام هذه الأنحاء؛ باعتبارهم من أهل السُّنة، ثم تحرَّك على رأس جيشه نحو الشمال إلى معاقل قبائل غمارة، ففتح جبالها وبلادها من الريف حتى طنجة، وبالتالي، تم تطهيرها من مظاهر الفساد والإلحاد والشرك، التي كانت منتشرة هناك. وذلك قبل أن يعود لقتال الزناتيين، الذين نقضوا العهد وأعادوا السيطرة على مدينة فاس، بعد قتلهم لحاميتها المرابطية قليلة العدد والعدة، فتمكن من الانتصار عليهم، ودخل فاس للمرة الثانية سنة 462هـ، وبذلك انتهى أمر الدولة الزناتية.

وهذا العام هو نفس العام الذي دشَّن فيه الأمير أبو بكر بن عمر بناء مدينة مراكش عاصمة سياسية وعسكرية جديدة للمرابطين، بعد أن افتتح معظم بلاد المغرب الأقصى، وبالتالي، تم جمع كلمة المسلمين بها وتوحيدهم تحت راية واحدة وعلى أساس مذهب فقهي واحد، هو مذهب الإمام مالك؛ إمام دار الهجرة.

 

يوسف بن تاشفين أميرًا للمرابطين

وفي سنة 462هـ أيضًا، قام الأمير أبو بكر بن عمر، بتقليد ابن عمه الأمير يوسف بن تاشفين، نيابة حكم المغرب بموافقة أشياخ المرابطين، في حين انصرف هو للجهاد في سبيل الله، ضد الوثنيين في جنوب الصحراء الكبرى، وبخاصة ضد مملكة غانا في السودان الغربي، تاركًا زوجته ذات الجمال الباهر والحسب والنسب وأهله ووطنه، من أجل الجهاد في سبيل الله ولنصرة دينه.

والمهم أنه على هذا النحو بدأ حكم يوسف بن تاشفين لدولة المرابطين في المغرب، أي كنائب لابن عمه الأمير أبي بكر، وظل على هذه الحال حوالي ثمانية عشر عامًا. وبعد أن نال ابن عمه الأمير الكبير أبو بكر الشهادة التي كان ينشدها، سنة 480هـ، صار يوسف بن تاشفين هو الأمير الشرعي للمرابطين.

وقد قام يوسف بن تاشفين خلال مُدة حكمه كنائب، ثم كسلطان للمرابطين، بالعديد من الأعمال الداخلية والخارجية لتدعيم أركان الدولة المرابطية الفتية، وتنظيم شؤونها، فعمل على استكمال افتتاح بلاد المغرب الأقصى، وبنى أسطولًا بحريًّا، استطاع بواسطته افتتاح الثغور الشمالية المطلة على مضيق جبل طارق والأندلس، مثل سبتة ومليلة وطنجة.

كما عمل على افتتاح المغرب الأوسط، وتوحيده مع المغرب الأقصى؛ فاستولت جيوشه على تلمسان ووهران وتنس وبلاد الونشريس وجزائر بني مرغنة، وغيرها من بلاد حتى حدود المغرب الأدنى (إفريقية). كما أنه استكمل بناء وتحصين العاصمة مراكش، وأسَّس بها دارًا لسك النقود، وضرب فيها دراهم فضية ودنانير ذهبية، ونقش اسمه عليها، كما أنشأ الدواوين المختلفة، وجلب الأدباء والبلغاء والفقهاء لتولّي الأعمال بها، كما أنه اتخذ البنود والأعلام البيضاء المدبجة بالآيات القرآنية، وبنى الجوامع العظيمة، التي لا يزال بعضها قائمًا حتى اليوم.

كما قام بتقسيم البلاد إلى أقاليم، وتعيين الولاة الأكفاء عليها، من لمتونة خاصة وصنهاجة عامة؛ فولَّى سير بن أبي بكر على مدائن مكناسة وبلاد مكلالة وبلاد فازاز، وولَّى عمر بن سليمان المسوفي مدينة فاس وأحوازها، وولى داود ابن عائشة سجلماسة ودرعة، وولى تميم بن يوسف مدينة أغمات ومراكش وبلاد السوس وسائر بلاد المصامدة وتدلا وتامسنا، وبعد ضم الأَنْدَلس عين القائد سير بن أبي بكر حاكمًا على الأَنْدَلس، وفوَّض له تعيين والٍ على كل بلد يفتحه ويكون من لمتونة.

كما قام بتعيين القضاة، وكان يختار العلماء البارزين في العلم والفقه، الذين يمتلكون المقدرة على تولّي هذه الوظيفة الجليلة، بعيدًا عن العصبيّة القبليّة، حتى أصبح أكثر القضاة في الدولة المرابطية من غير قبيلة صنهاجة، وهي سياسة حكيمة اتبعها الأمير يوسف لتحقيق العدالة وتطبيق تعاليم الإسلام.

ثم لكي يُضْفِي على دولته الشرعية قام بإعطاء البيعة للخلفاء العباسيين في بغداد، وأمر بالدعاء لهم على منابر المغرب، معتبرًا نفسه «رَجُلهم والقائم بدعوتهم»، وذلك رغم ضعف الخلفاء العباسيين وهزال خلافتهم حينذاك، واقتصر هو على لقب أمير المسلمين وناصر الدين، فقام الخليفة العباسي بدوره بإقراره على ما هو عليه وعلى ما سيفتحه من بلاد الأعداء. 

 

نتائج فتح المرابطين للمغرب

1- قام المرابطون بتوحيد بلاد المغرب العربي الكبير سياسيًّا ودينيًّا، وأقاموا حكم الله، ونشروا السُّنة في ربوعها، وأسقطوا ما دون ذلك من الأحكام الجاهلية والقبلية، وردوا أحكام البلاد إلى القضاء، وطهّروها من الحركات الباطنية الهدّامة، ومن أصحاب البدع والدجل والشعوذة، وكنسوا هذه الجماعات إلى مزبلة التاريخ، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، اللهم إلا بعض الجيوب المعزولة كالخوارج الإباضية في صحراء الجزائر.

وقامت تلك الوحدة على أساس المذهب المالكي، وهو المذهب «الذي قامت عليه دولتهم، فتمسكوا به، واتخذوه أساسًا في كل ما يرجعون إليه من أمور دينية ودنيوية»، شأنهم في ذلك شأن المسلمين في الأندلس، الذين تبنّوا المذهب المالكي منذ أواخر القرن الثاني الهجري.

2- أعاد المرابطون ربط شمال المغرب بجنوبه، وشرقه بغربه، بروابط وثيقة محكمة سياسية واقتصادية واجتماعية ولغوية، وأعادوا وصل السياق التاريخي بين أجزائه المختلفة؛ ذلك السياق الذي كان قد انقطع بسبب فتن الخوارج ومن جاء بعدهم وتأثر بدعوتهم وبفكرهم الهدام، من المشعوذين والدجالين والمتنبئين الكذابين، وذلك خلال القرون الأربعة الماضية، التي سبقت قيام دولة المرابطين. وبعد ذلك ظل السياق التاريخي لهذه البلاد واحدًا، عبر العصور المختلفة، ولم ينقطع إلا بعد الهجمة الاستعمارية الفرنسية عليها في التاريخ المعاصر.  

3- أسقط المرابطون المكوس وسائر المغارم والضرائب الجائرة والجبايات غير الشرعية، التي كانت مفروضة على الناس في المغرب مِن قِبَل حُكّام الجور، الذين حكموا قبلهم، واكتفوا بتحصيل الزكاة والعشور، وساسوا الناس بالحسنى والعدل، والتزموا بالشريعة الإسلامية في كل تنظيماتهم الإدارية والعسكرية، «وكانت أيامهم أيام دعة ورفاهية ورخاء متصل وعافية وأمن... وكثرت الخيرات في دولتهم، وعمرت البلاد، ووقعت الغبطة، ولم يكن في أيامهم نفاق ولا قُطاع ولا من يقوم عليهم، وأحبهم الناس، إلى أن خرج عليهم مهدي الموحدين في سنة 515هـ».

4- صار المغرب في عهد المرابطين صدرًا استراتيجيًّا لحماية الأندلس وإنقاذها من النصارى الذين كانوا يسارعون في ابتلاع قلاعها ومدنها، في وقتٍ كان فيه ملوك الطوائف منهمكين في الصراع الداخلي والحروب الاستنزافية بينهم، وخاصةً بعد سقوط طليطلة قاعدة الثغر الأوسط سنة 478هـ. وفي هذا الصدد حقَّق المرابطون بقيادة يوسف بن تاشفين، انتصارهم الساحق على جيوش النصارى في موقعة الزلاقة سنة 479هـ[4]. ثم قاموا بعد ذلك قاموا بتوحيد المغرب والأندلس تحت راية واحدة. ولنا أن نتصور كيف كان سيكون حال المسلمين في الأندلس لو بقي المغرب منقسمًا على نفسه، ولم يتوحد تحت راية المرابطين.

5- استكمل المغرب في عهد المرابطين عملية تعريبه نهائيًّا وإلى الأبد؛ لأن الملثمين -ورغم كونهم من قبائل البربر[5]- اتخذوا اللغة العربية لغةً رسميةً لهم، ورفعوا من شأنها، وعمَّموها أينما حلّوا؛ لأنها لغة القرآن والسُّنة، ولذلك فقد شهد عصرهم نهضةً علميةً وثقافيةً كبرى وازدهارًا للمدارس العلمية، وخاصةً بعد أن وحَّدوا المغرب والأندلس، وتكاملت حضارة هذين القُطرين العظيمين، «ويكفي أن يكون هذا العصر هو عصر الحُفّاظ الكبار من أمثال أبي علي الصدفي، وأبي بكر بن العربي، والقاضي عياض، وأمثالهم من القمم».

 


 


[1] عُرفوا بهذا الاسم، تمييزًا لهم عن إخوانهم، صنهاجة الشمال؛ لكونهم كانوا يضعون لثامًا على وجوههم لا تظهر من خلفه إلا عيونهم؛ وذلك ليقيهم من ذرات الرمال التي تتحوَّل في الصيف إلى شواظ حارقة في صحرائهم الشاسعة، ولا تزال هذه العادة قائمة حتى اليوم.

[2] حول هذه الفتنة وتداعياتها، انظر مقال (فتنة الخوارج في المغرب وأثرها على الفتوحات الإسلامية في أوروبا)، مجلة البيان، العدد 321 ، جمادى الأولى 1435هـ/ مارس2014، والرابط:

 https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=3524

وانظر أيضًا مقال (فتنة الخوارج في المغرب ذلك الإعصار المدمر)، موقع البيان 3-11-2018، رابط:

https://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=6429

[3] حول هذا الموضوع انظر: الفتح الإسلامي وملحمة تعريب المغرب، مجلة البيان، العدد 366، صفر 1439هـ، أكتوبر - نوفمبر 2018، رابط:

https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=6022

[4] حول هذه المعركة انظر مقال (وقعة الزلاقة وإشكالية عدم استعادة طليطلة)، مجلة البيان، العدد 369، جمادى الأولى 1439هـ/ يناير-فبراير 2018، رابط:

https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=6123

[5] وهناك من قال أنهم من أصول حميرية يمنية، وهذا الرأي ليس مبتدعا بين الآراء، فسحنة أحفاد الملثمين وملامحهم في موريتانيا حاليا، تشبه إلى حد كبير، سحنة ملامح الحميريين في اليمن، وهذا لمن له أدنى معرفة بهؤلاء وأولئك.

 

 

أعلى