• - الموافق2024/05/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ديناميكات الصدام بين إيران وتركيا في جنوب القوقاز

يُفضِّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللعب مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ لكونه عدوًّا سريًّا للغرب، ولاعتبارات تتعلق بعُزلة تركيا الاقتصادية التي تسمح لروسيا بالاستثمار في تأثيرها الإقليمي


أسفَر الهجوم السريع الذي شنَّه الجيش الآذري في 19 سبتمبر الماضي على إقليم (قره باغ) إلى حَسْم وإنهاء صراعٍ استمرَّ لعقودٍ، راهنت عليه الدبلوماسية الغربية والروسية أن يبقى شرارة ابتزاز للقوى الإقليمية في جنوب القوقاز.

بعد خمسة أيام فقط على الانتصار السريع للآذريين، واستعادتهم أرضهم المحتلة مِن قِبَل الصليبيين الأرمن؛ استضاف الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف حليفه في هذه المعركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأعلن عن إنشاء ممرّ بريّ من ناختشيفان يمر بالأراضي الأرمينية ليربط بلديهما.

هذه الخطوة المفاجئة التي كشفت وجهًا إقليميًّا للصراع الآذري الأرميني؛ كشفت أيضًا عن حجم اللاعبين في تلك المنطقة وطبيعة الصراعات والاشتباكات حولها؛ فقد اتهمت «يريفان» قوات السلام الروسية بالتواطؤ مع الجيش الآذري في الصراع الأخير في «قره باغ»، وبرَّرت تكهنات سياسية الصمت الروسي خلال الأزمة بأنه ردّ على إعلان «يريفان» عن تنظيم مناورات مشتركة مع الجيش الأمريكي، بالإضافة إلى موقفها من الحرب الأوكرانية، وتقاربها الكبير من بروكسل في الآونة الأخيرة. بينما تشير تحليلات أخرى إلى أن موسكو التي فعَّلت مؤخرًا الضغط الصربي على كوسوفو أرادت أن تُركِّز جهودها على إشعال جبهة أكثر تأثيرًا على العمق الغربي.

تشير دراسة نشرها معهد كارنيجي حول تطورات الصراع إلى أن الجمع بين شراكة روسيا النامية مع أذربيجان، وعلاقتها الوثيقة مع تركيا -الحليف الأقوى لأذربيجان- يُثير شكوكًا كبيرة بشأن التوافق بين الدول الثلاث بشأن العمليات العسكرية ضد أرمينيا، وإذا نجحت تركيا فعلًا بتنسيق مثل هذه الجهود؛ فإن من شأنها أن تَجْني ثمارًا كبيرة من خلال دَوْرها المتصاعد في جنوب القوقاز الذي سينعكس على ثقلها السياسي والاقتصادي، وسيكون بالتأكيد هذا الدور على حساب المصالح الروسية.

يُفضِّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللعب مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ لكونه عدوًّا سريًّا للغرب، ولاعتبارات تتعلق بعُزلة تركيا الاقتصادية التي تسمح لروسيا بالاستثمار في تأثيرها الإقليمي.

بينما ترى تركيا الضغوط الغربية على موسكو فرصة تجعلها فريسة سهلة فيما يتعلق بتطلعات أنقرة المتعلقة بإنشاء مركز إقليمي لتوزيع الغاز، بالإضافة إلى مبادرة الممر الأوسط التي تسعى تركيا لإنجازه عبر بحر قزوين، مرورًا بمنطقة القوقاز وصولًا إلى الصين.

يُفسّر الحياد الروسي في أزمة إقليم (قره باغ) على أنه حالة من الكَرّ والفرّ؛ فموسكو الغارقة في الكثير من الخسائر التي سبَّبتها الحرب الأوكرانية، لا تريد فتح مسار لمواجهة جديدة في دائرة جغرافية تعتبرها جزءًا من عُمقها الإقليمي، بالمقابل تحاول صُنْع شراكات قائمة على مصالح مشتركة أبرز عناوينها المعاداة المشتركة للوجود الغربي والمنفعة الاقتصادية المشتركة، وهي بذلك نجحت في إيجاد بيئة أمنية مستقرة في جوارها تهيئ لتوافق اقتصاديّ استراتيجيّ يساعدها في الإفلات من العقوبات الغربية، ويزيد من الفجوة بين الكتلة الغربية من ناحية والتحالف الآذري التركي من ناحية أخرى.

​​لكنَّ الخاسر الأكبر في هذه المعادلة هو حليف أرمينيا الاستراتيجي؛ إيران التي اعتمدت عليها للتخلص من العقوبات الاقتصادية، وتعزيز عُمقها الديني في آسيا الوسطى، بالإضافة إلى أهمية الحدود الأرمينية الإيرانية في إنعاش الاقتصاد الإيراني.

وبالإضافة إلى الأهمية الاقتصادية؛ فإن طهران لديها مخاوف جيوسياسية؛ حيث إن الاتفاق الجديد بين باكو وأنقرة بشأن اتفاق لإنشاء ممر (زانجيزور) البري، وإنشاء قاعدة عسكرية تركية؛ يجعلها تخسر دورها كمعبر يربط تركيا أو ناخيتشيفان بأذربيجان لصالح منفذ حيوي لتركيا على آسيا الوسطى.

وكذلك فإن مثل هذه الخطوة ستزيد من النزعة الانفصالية شمال إيران؛ نظرًا لوجود أكثر من 15 مليون أذربيجاني ستُمكّنهم التطورات الأخيرة من الاتصال بعُمْقهم القومي في باكو.

وتعقيبًا على الخطوات التركية الآذرية؛ يقول المحلل الإيراني عرفان لاجيفاردي: «إن فتح ممر عبر سيونيك من قبل أذربيجان وتركيا؛ يُعدّ سببًا من أسباب انهيار أرمينيا». ويضيف: «إن موقف أرمينيا الضعيف حيال مسألة إنشاء ممر زانجيزور سيُضْعِف نفوذ «يريفان» على جنوب البلاد، وسيؤدي في الواقع إلى انهيار الدولة. فمن دون منطقة سيونيك، تفقد أرمينيا إمكانية الوصول إلى المياه المفتوحة وتفقد أهميتها الجغرافية».

جدير بالذكر أن سيونيك مقاطعة واقعة جنوب أرمينيا تشكل العائق الوحيد أمام مشروع اقتصاديّ قوميّ لربط الشعوب التركية، وتُوصَف بأنها العمود الفقري لأرمينيا مع موقعها الجغرافي الاستراتيجي على طول طرق التجارة، وتتعلق بمبادرة الهند لإنشاء ممر تجاري لتصبح حلقة وصل تربط الهند والخليج بالبحر الأسود عبر جورجيا، في المقابل تهدف باكو وأنقرة للسيطرة عليها كممر يربط آسيا الوسطى وتركيا.

وتخشى طهران -التي تعتبر نفسها قوة إقليمية- من أنه مع فتح ممر زانجيزور، سيتم منع اتصالها بالبحر الأسود؛ حيث سيتم إزالة ارتباطها بأرمينيا، ويعتبر ذلك تغييرًا حدوديًّا وتراجعًا جيوستراتيجيًّا، فهي بذلك ستعاني من تقليص نفوذها في القوقاز وتفقد قدرتها على أن تكون دولة عبور على طريق الحزام والحرير الصينية.

وبصرف النظر عن كل ما سبق من تبعات ستعاني منها إيران؛ فإن القلق الرئيسي يأتي من الأدوار النشطة المحتملة لتركيا وأذربيجان في المنطقة.

وتبرر دراسة نشرتها مجموعة الأزمات الدولية، الهزيمة الساحقة التي مُنِيَت بها أرمينيا نتيجة نموّ كبير للقوة العسكرية الآذرية المدعومة بشراكة أمنية مع تركيا، بالإضافة إلى التقليص الكبير الذي شهدته العلاقات الأرمينية الروسية.

وتضيف: أن هذه الهزيمة أسفرت عن تفكيك جميع المؤسسات الرسمية في الإقليم، والقضاء على أي فرصة لحصول الإقليم على حكم ذاتي وحصول «باكو» على اتفاقية تحمي حقها في الوصول إلى عُمقها من خلال افتتاح ممر زانجيزور.

وهذا الإنجاز التاريخي الذي ستجني تركيا وأذربيجان ثماره تسبَّب في إدانة غربية واسعة؛ ترجمتها فرنسا بالتحرك عاجلًا عبر توقيع اتفاقية دفاعية مع «يريفان»؛ لتحسين قُدرات الدفاع الجوي الأرميني، وتدريب عناصره، وتقديم مساعدات عسكرية؛ من خلال الاتحاد الأوروبي للجيش الأرميني.

يأتي التحرك الفرنسي كواجهة لتحرك غربي واسع بفعل استدراكه لخطورة الانتصار الذي تعد تركيا المستفيد الأكبر فيه، فهو يُعزِّز رابطة كتلة اقتصادية ضخمة متمثلة بالشعوب التركية التي تجمعها رابطة اللغة والعمق الاقتصادي والديني. كما أنه يفتح الباب أمام أذربيجان لإيجاد ممرات للطاقة عبر خط الغاز الطبيعي الذي يمر بالأناضول (تاناب)، وصولًا إلى الأسواق العالمية.

تعاملت إيران دائمًا مع التحركات التركية في جنوب القوقاز على أنها في سياق التنافس الإقليمي للحفاظ على مصالحها، وترجمة ذلك، من خلال زيارات مكثفة لوزير خارجيتها السابق جواد ظريف إلى العمق الآسيوي، لكن بعد المعركة الثانية لأذربيجان في «قره باغ»؛ بادرت طهران لإعلان إنشاء «اتحاد سداسي يضم أرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا، وإيران، وروسيا، وتركيا»، في إطار حالة من التمني لمحاولة تهيئة المنطقة لاتفاق سلام يحرم التحالف التركي الآذري من تحقيق أيّ إنجازات على أرض الواقع، ويتفادى انهيار حليفتها «يريفان»، بل ذهبت إيران بعيدًا لوضع أرضية تَحرُّك مشتركة مع تركيا من خلال مفاوضات بين الطرفين، لكنَّ طبيعة العلاقات بين الطرفين تشير إلى صعوبة التوصل إلى تقارب بينهما، فقد برّرت تركيا انخفاض التجارة الثنائية الحادّ بين البلدين بين عامي 2017 و2020م؛ بأنه نتيجة للعقوبات الأمريكية. لكنّ طهران أيقنت أن أنقرة تستخدم العقوبات الأمريكية لمعاقبتها.

وفي عام 2020م فجَّر مسلّحون أكراد خط أنابيب الغاز الممتد بين إيران وتركيا، وسارعت طهران إلى عرض إصلاحه، لكن أنقرة تجاهلت العرض، وفضَّلت استيراد الغاز المسال من واشنطن، الأمر الذي جعل وزير النفط الإيراني، بيجن زنغنه يسارع إلى اتهام تركيا بأنها (شريك غير مسؤول).

وفي سبتمبر 2020م أعلنت تركيا وإيران عن زيادة التجارة الثنائية بينهما من 10 مليارات دولار سنويًّا إلى 30 مليار سنويًّا، لكنَّ الأرقام على الأرض كانت تُشير إلى هبوطٍ حادّ جعلها تصل إلى مليار دولار. فُسِّرت هذه الخطوات مِن قِبَل تركيا على أنها مسار لخَفْض العلاقات بين البلدين؛ فقد كانت واردات الطاقة التركية من إيران هي حجر الأساس للتجارة الثنائية، وبذلك فإنَّ المنافسة الجيوسياسية بين الطرفين لديها القابلية على أن تزيد حدّتها في سوريا والعراق وجنوب القوقاز.

مقابل ذلك، ففي 31 ديسمبر 2020م، تلقَّت أوروبا أول شحنة من الغاز الطبيعي من أذربيجان عبر ممر الغاز الجنوبي الذي يبلغ طوله 3500 كيلو متر، من حقل شاه دنيز في القطاع الأذربيجاني من بحر قزوين عبر جورجيا وتركيا إلى إيطاليا، بينما رفض الأتراك منذ تسعينيات القرن الماضي التعاون مع طهران لنقل الغاز الإيراني إلى أوروبا.

مقابل محاصرة صادرات الطاقة الإيرانية؛ تسعى أنقرة لاستغلال العقوبات الأمريكية لتهميش طهران، ومنعها من الاستفادة من مشاريع الطاقة في جنوب القوقاز، والحفاظ على دَوْرها كمركز عبور للطاقة والتجارة، ويمهّد ذلك إلى دور جديد لتركيا في أسواق الطاقة العالمية، وكذلك يُبرز أهمية مشروعها السياسي والقومي في آسيا الوسطى.

أعلى