نظـرات تربـــوية في الخــــــلاف
إن الله - جلَّ وعلا -
لما خلق آدم عليه السلام، جعل ذريته مختلفة في ألوانها وأشكالها وأجناسها، وذلك
لحكم كثيرة، لعل من أظهرها: أن هذا التنوع يلبي حاجات أكثر مما لو كان هناك لون
واحد للحياة.
و لهذا اقتضت سنة الله -
سبحانه وتعالى - أن يكون هذا الخلاف موجوداً بين الناس: {وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ 118 إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْـجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
[هود: 118 - 119].
و هذا الخلاف الذي
لابدََّّ أن يكون موجوداً في حياة الناس لابدَّ أن يكون لنا معه وقفات يستفيد منها
المسلم في حياته مما يجعله يعيش متناغماً في هذه البسيطة:
الوقفة الأولى:
أنه ليس كل خلاف يجب أن نسلِّم به، وأن نقبله وألا نردَّ عليه أو نعارضه، بل ما
كان خلاف في الحقيقة هو الذي يقبل من صاحبه، ويرحب بقائله، ولهذا قيل:
فليس كل خلاف جاء معتبراً
إلا خلاف له حظ من النظر
لهذا لا بدَّ لنا ألَّا
نأخذ هذا الخلاف بظاهره، وهذا يربي فينا أن نعلم ما وراء الخلاف، أو ما الدوافع من
هذا الخلاف؟، دون تجسس أو تتبع أو تقول على شخص ما لم يقل.
لأن المرء قد يعتقد في
موقف ما هو خلاف الواقع، ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كان في
الحديبية والتأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر فقال:
يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: «بلى»، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال. «بلى»،
قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى»، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو
بكر: يا عمر، الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول
الله، ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول الله. ألست برسول الله؟ قال: «بلى»، قال: أو
لسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى»، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال:؟ «بلى»؛ قال: فعلامَ
نعطي الدنية في ديننا؟ قال: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني)[1].
عمر - رضي الله عنه - لم
يكن يعلم ما يعلم الرسول ولا أبو بكر، لهذا خالفهم في هذه الشروط التي كان يظنها
جائرة، لكن نظرة الرسول صلى الله عليه وسلم وثقته بربه، جعلت من هذه الشروط فتحاً {إنَّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1].
الوقفة الثانية:
الخلاف يربي في المسلم أن في كل إنسان جانب خطأ وجانب
صواب، فما كان صواباً قُبل منه، وما كان خطأً لا يقبل منه، مع الأخذ بحق النصح
للأخ، وتبيين الحق والصواب له، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. وقد قال الله -
عزَّ وجلَّ - لنبييه:{إنْ عَلَيْكَ إلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:
48] وقوله - جلَّ شأنه -: {لَسْتَ عَلَيْهِم
بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22].
الوقفة الثالثة:
الخلاف يربي فينا ألَّا نجبر أحداً على اتباع ما عندنا
إن كان الخلاف له مساحة من الأخذ والعطاء، أما ما كان من المسلّمات ممَّا جاء في
الوحي والسنة وإجماع علماء المسلمين فهذا لا يناقش فيه، لأنه لا يقبل إلا قولاً
واحداً، كأمور العقيدة وما اتفق عليه علماء المسلمين من الأمور الفقهية: كوجوب
الصلاة، والصيام وغيرها.
ومن ذلك حديث عبدالرحمن
بن يزيد: «صلَّى عثمان بمنى أربعاً، فقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - صليت
مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت
بكم الطرق فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين قال الأعمش: فحدثني معاوية
بن قرة عن أشياخه أن عبد الله بن مسعود صلى أربعاً. قال: فقيل له: عبتَ على عثمان
ثم صليتَ أربعاً قال: الخلاف شر[2].
الوقفة الرابعة:
الخلاف يربي المسلم على تعدد الخيارات التي يراها، فيعلم
أن هذا الدين جاء ليكون ديناً خالداً صالحاً لكل زمان ومكان؛ حتى يرث الله الأرض
ومن عليها، فما كان عندنا قد لا يصلح لغيرنا، وما كان لغيرنا لا يصلح لنا، وكله من
صلب ديننا العظيم، مع التنبيه أن هذه الخيارات ليست للانتقاء، ولا بحسب الهوى، بل
هــي مذاهب وأقوال للعلماء - رحمهم الله - توصلوا إليها باجتهادهم {أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ...} [الجاثية: 23].
والراجح في حال تعدد
الأقوال من كلام علماء الأصول: أن المؤمن يرجع إلى من يثق بدينه وعلمه من أهل
العلم المعتبرين إذا كان مقلداً[3].
ولعل من أظهر الأمور التي
اختلف فيها الصحابة ولم يثرب عليهم الرسول حادثة بني قريظة، فقدء جاء عن عبدالله
بن عمر - رضي الله عنهما -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (لا
يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة). فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم:
لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، ثم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى
الله عليه وسلم فلم يعنف أحداً منهم[4].
الوقفة الخامسة:
الخلاف يربي في المسلم احترام الطرف الآخر، وعدم إقصائه،
وتبين الحق له لعل الله - عزَّ وجلَّ - ينقذه على يديك، فقد روي عن جـابـر بن
عـــبد الله - رضي الله عنهما - قال: اجتمعت قريش يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم
بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب
ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يردُّ عليه. فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة،
فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت،
وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك. إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم
على قومه منك، فرَّقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد
طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة
الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل إن كان إنما بك
الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباه فاختر أي نساء
قريش شئت فلنزوجك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغت. قال: نعم فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {حم»
1 تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 2 كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إلى أن بلغ {فَإنْ
أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}
فقال عتبة: حسبك. أما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟
قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ فقال: نعم، ثم
قال: لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً ممَّا قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل
صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال. قال: لا والله
ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة[5].
الوقفة السادسة:
الخلاف يربي عند المسلم الحرص على المنهج الحق، سواء
أكان في التلقي أم الاستدلال أم الاستباط، فهو حين يرى الناس قد اختلفوا في هذه
الحياة، وربما ضلَّ بعضهم عن الطريق المستقيم. هذا كله يجعل المسلم أشدَّ يقيناً،
وأعظم إيماناً. إن أعظم ما يحتاج إليه هو المنهج الحق.
والمنهج الحق الذي لا ريب
فيه: هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة - رضوان الله عليهم -
والسلف الصالح.
وروي كثير من الآثار عن
الصحابة والسلف في حرصهم على السنة، وبعدهم عن كل ما يشوبها، فمن ذلك:
قال الزهري - رحمه الله
-: الاعتصام بالسنة نجاة[6].
وقد قال الأوزاعي - رحمه
الله -: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراءَ الرجال! وإن زخرفوه لك
بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم[7].
الوقفة السابعة:
الخلاف يربي في المسلم اتباع الجماعة، وهضم حق النفس،
فقد يخالفك كثير من الناس؛ لأن الرأي السائد خلاف ما تبين لك من الحق، فتجبر نفسك
على اتباع الجماعة، وترك ما كان لك من أجل هدف أعلى وغاية أسمى وهي: اجتماع الكلمة
وعدم الفرقة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
ولعــل من أظهر الأمثلة
ما حدث بين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - وبين الحسن بن علي - رضي الله
عنهما -: فقد روى عمر بن دينار، أن معاوية كان يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة،
فلما مات علي بعث إلى الحسن، يدعوه إلى إصلاح ما بينهما سراً، وأعطاه معاوية عهداً
إن حدث به حدث والحسن حي ليسمينه، وليجعلنَّ الأمر إليه، فلما توثق منه الحسن قال
ابن جعفر: والله إني لجالس عند الحسن، إذ أخذت لأقوم، فجذب بثوبي، وقال: يا
هناه اجلس! فجلست، فقال: إني قد رأيت رأياً، وإني أحب أن تتابعني عليه! قلت: ما
هو؟ قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة، فأنزلها، وأخلي بين معاوية وهذا الحديث،
فقد طالت الفتنة، وسفكت الدماء، وقطعت الأرحام والسبل، وعطلت الفروج.
قال ابن جعفر: جزاك الله
خيراً عن أمة محمد، فأنا معك.
فقال: ادعُ لي الحسين!
فأتاه، فقال: أي أخي! قد رأيت كيت وكيت فقال: أعيذك بالله أن تكذب علياً، وتصدق
معاوية.
فقال الحسن: والله ما
أردت أمراً قط إلا خالفتني، والله لقد هممت أن أقذفك في بيت، فأطينه عليك، حتى أقضي
أمري.
فلما رأى الحسين غضبه،
قال: أنت أكبر ولد علي، وأنت خليفته، وأمرنا لأمرك تبع[8].
اللهم
أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم رب
جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض أنت تحكم بين
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من
تشاء إلى صراط مستقيم...وا مَا بِأَنفُسِهِمْ
:: عدد مجلة البيان 299 شهر رجب 1433هـ
[1] صحيح مسلم 1785
[2] سنن أبي داود 1960
[3]
للاستزادة: راجع مبحث التقليد في كتب أصول الفقه.
[4]
رواه البخاري 4119
[5]
البداية والنهاية 3/60.
[6]
سير أعلام النبلاء 5/337.
[7]
سير أعلام النبلاء 7/120.
[8]
سير أعلام النبلاء 3/245.