التاريخ علمًا وفلسفًة.. رؤية إسلامية

إن علم التاريخ يبحث في الموجود من مخلّفات الماضي وسجلاته التي قد تعين على جلاء الحاضر، وتوضيحه، فهو يتسع ليشمل جميع المسائل البشرية، فكل ما يقع للإنسان، بناءً وهدمًا، فيما سبق، إنما يقع ضمن أحداث التاريخ وعلمه


تؤكد النظرة الشمولية للتاريخ -بوصفه علمًا- على أنه جملة من المعارف المُركَّبة، التي تساهم في إضاءة الحاضر؛ من خلال التعريف بالماضي، فالتاريخ ليس أخبارًا سياسية فحسب، وإنما هو كلٌّ شَامِلٌ لمختلف أنشطة الإنسان، وإبداعاته، وأيضًا الملمّات والأزمات التي حدثت له، ولذا هو ليس سرديات تُحْكَى، وإنما هو معرفة تُفسِّر ما نراه في حاضرنا، وما سمعناه عن ماضينا، لنستشرف مستقبلنا.

    وهي الرؤية التي يؤكّدها عِلْم التاريخ الحديث في مفهومه الغربي، وكما يذكر عبد الرحمن بدوي، فإن كون التاريخ علمًا هو أمر قاطع؛ لأننا نستطيع أن نُطلق كلمة عِلْم على مجموعة المعارف المُحصَّلة عن طريق منهج وثيق للبحث في نوع واحد من الوقائع. فهو عِلْم الوقائع التي تتصل بالأحياء من الناس، في مجتمع ما، خلال توالي الأزمنة في الماضي. ويدخل في عداد العلوم الوصفية وليس الفيزيقية[1].

     وفقًا لهذا التعريف فإن العلم الذي يُقدّم معارف متجانسة متراكمة في حقل معرفي واحد، ووفق مسار متّصل، يدخل في دائرة العلوم، شريطة أن يكون علمًا نافعًا، يفيد البشرية، ويتَّصل بحياتها. فالتاريخ -في بعض تعريفاته- هو علم الوقائع التي تتصل بالأحياء من الناس؛ في مجتمع ما، خلال الأزمنة المتوالية، وتُعرَف من خلال دراسة الآثار والكتب التي حفظتها، سواء كانت آثارًا مادية، أو كتابات مدونة، أو شفاهيات مروية، فالتاريخ عِلْم يُقْصَد به حفظ الأحداث الماضية، وتسجيلها، عبر الوثائق الأصلية، والشواهد الأثرية، والأدلة المختلفة التي تؤكّد حدوثها[2]؛ من أجل تقديم سردية موثوقة في مصادرها، وفق منهجية ضابطة، تساهم في تكوين رؤية صحيحة.

   إن علم التاريخ يبحث في الموجود من مخلّفات الماضي وسجلاته التي قد تعين على جلاء الحاضر، وتوضيحه، فهو يتسع ليشمل جميع المسائل البشرية، فكل ما يقع للإنسان، بناءً وهدمًا، فيما سبق، إنما يقع ضمن أحداث التاريخ وعلمه، ومن هنا تكون مهمة المؤرخ مقتصرة على تسجيل الوقائع بالدقة المطلوبة والواجبة في البحث العلمي عمومًا، محاولاً فهم محيطه ومحيط نفسه، على أن يجتهد قدر طاقته لإبعاد عواطفه وانفعالاته في رَصْد الأحداث وتفسيرها بعد فهمها، مجتهدًا أن يكون موضوعيًّا محايدًا[3]

   أما التاريخ عند المسلمين فهو علم متكامل الأسس، والمنهجيات، والمعلومات، والمعطيات، بل هو أسبق بقرون من مفاهيم التاريخ الغربي الحديث، الذي يطيب للبعض أن يتباهى بالاطلاع عليها، وتطبيق طرائقها، دون الإبحار زمنيًّا في المُنْجَز التاريخي العلمي عند المسلمين، والذي ينبغي قراءته في ضوء المرجعية الإسلامية التي انبثقت منها علوم الحضارة الإسلامية.

   وهو ما يقودنا إلى أهمية التعريف بالرؤية الإسلامية التاريخ، النابعة من نظرة الإسلام لعلم التاريخ؛ وقد بدأ ونشأ، واستوى على عوده، ثم نضج وأثمر، خلال قرون ممتدة، بما يجعله علمًا خاصًّا بالمسلمين، دون أدنى تأثير من الحضارات أو الثقافات الأخرى التي اضطلع عليها علماء المسلمين قديمًا، مثل علوم اليونان أو الثقافة الفارسية أو الثقافة الهندية، والتي تُخالف في فكرها الهوية الإسلامية.

إن إحساس المسلم بالتاريخ هو إحساس جادّ؛ لأنه يؤمن بنفوذ مشيئة الله وأقداره الكونية والشرعية، وأن الله وضع نظامًا عمليًّا واقعيًّا يُسيِّر البشر في حياتهم على الأرض؛ والمتمثل في الشريعة الإسلامية. فالمسلم يعيش على الأرض وعينه مُعلّقة بالمنهج الرباني، وبمدى قُربه منه أو بُعده في تطبيقه. لذا، فإن التاريخ في نظر المسلم هو سِجِلّ للمحاولة الإنسانية لتحقيق ملكوت الله في الأرض، فالحاضر هو نتيجة الماضي، والمستقبل نتيجة الحاضر.

فالمفهوم الإسلامي واضح في إيجابيته، وما تضحية المسلم بحياته وجهده وبما يملك؛ إلا سعي لتنفيذ المنهج الرباني على الأرض، فإذا آمنت البشرية بتعاليم القرآن؛ فإن إرادتها تُطابق إرادة الله، فيتحقق الإخاء ويعمّ الخير، بعكس الإنسان الهندي المشغول بعالَم الروح والحلول واللانهائية، فإحساسه بالتاريخ مُنعدم، ولا قيمة للزمن عنده.

أما المسيحي فيعيش بشخصية مزدوجة في عالمين منفصلين؛ فالمثل الأعلى عنده غير قابل للتطبيق في الواقع البشري، والحياة على الأرض تمتلئ بالآثام، لذا فإن التاريخ مُعبِّر عن ضَعْف البشر وانحرافهم وهبوطهم.

وفي نظر الماركسي فإن التاريخ حتميّ، فكلّ خطوة تؤدي لخطوة أخرى، وهذا في العالم المحسوس، ولا يعترف بالعالم الروحاني[4]. وبذلك يكون الإنسان المسلم فاعلاً في التاريخ وليس مفعولاً به.

   ومن هنا، فإن «الاعتبار» مفهوم مركزي في المنظور الإسلامي للتاريخ، وينسجم مع إيجابية المسلم في التعامل مع الأحداث التاريخية، مصداقًا لقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} [الروم: 42]، وقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. وهذا المفهوم يجعل من تاريخ الإنسانية تراكمًا معرفيًّا، وليس تراكمًا عبثيًّا لحوادث مجزأة. وما الآيات والقصص القرآنية إلا إشارات هُدًى وإرشاد لكي يتعلم المسلم من سير الأمم الماضية، وكيف تقلَّبت بهم الأحوال. فالتاريخ ليس شيئًا ميّتًا، وإنما هو وجود حيّ له امتداد مع الزمن، ذو مغزى دائم، فهو مصدر للمعرفة، حتى الآثار المادية والبقايا هي أشياء ناطقة، مُفْعَمَة بالعبرة والعظة[5].

وذلك ما يُفصّله الكافيجي بقوله: «فالتأريخ من المهمات العظام، مقبول عند الأنام، مشتملٌ على فكر وعِبَر، ومنطوٍ على مصالح ومحاسن، على وَجْه مُعتَبر، ولولا التأريخ لم يصل إلينا لا خبر ولا أثر، وهو غذاء الأرواح والأشباح، وهو خزينة أخبار الناس والرجال، وهو معدن العجائب والغرائب، والروايات والأمثال، والتأريخ زينة الأديب، وعمدة اللبيب، وعون المحدث، وذخر الأريب»[6].

إن مقولة الكافيجي حوت على كل أوجه الخير للاستفادة من التاريخ: عِبَر وعِظَات، وأمثلة واستشهادات، وبراهين وأدلة، وتسرية وتسلية، مما يؤكد أن الرؤية الإسلامية قوامها الاستفادة من التاريخ بوصفه مخزونًا للبشرية، مما يستدعي النظرة الكلية إليه بشكل دائم؛ فإذا كان هناك انهيار في أُمَّة أو حضارة أو مملكة، فحتمًا هناك أسباب؛ أهمها: سيادة المظالم والتخلّي عن منهج العدالة ونشر الخير، وانتشار الفساد، ومتى أدرك الناس ذلك، فسوف يتَّعظون، وسيسعون إلى تغيير نهج حياتهم، أو يظهر دعاة وقادة خير، يرشدونهم إلى طريق الصلاح، وإذا كانت الأمة قائمة ناهضة، فإن استمرارها مرهون بتطبيق المنهج الرباني.


 


[1] النقد التاريخي، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط4، 1981، مقدمة المترجم، ص18.

[2] فلسفة التاريخ، د. مصطفى النشار، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2004، ص9- 12.

[3] المرجع السابق، ص17.

[4] التاريخ في مفهوم الإسلام، أنور الجندي، دار الأنصار، القاهرة، 1979م، ص4، 5، ضمن مناقشة المؤلف لكتاب الإسلام في التاريخ الحديث، لمؤلفه: ولفرد كانتول سميث.

[5] فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي: دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة، د. صائب عبد الحميد، دار الهادي، بيروت، 2006م، ص164، 165.

[6] المختصر في علم التاريخ، محيي الدين الكافيجي، تحقيق: د. محمد كمال الدين عز الدين، عالم الكتب، بيروت، 1990م، ص117.

 

 


أعلى