حينما كانت الروح الصليبية قد أخذت في الانتشار في الغرب الرومي،
ظهرت في القرنين: الخامس والسادس من الهجرة (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين)
تنظيمات رهبانية كاثوليكية لخدمة الأغراض التي تنطوي عليها «الصليبية»: من قتال أهل
الإسلام واغتصاب الأراضي المقدسة. وبدأ عملهم في هذا الميدان يشمل خدمة الحجاج
المزعومين إلى بيت المقدس وتأمينَ طرقهم ورعاية شؤونهم: من تقديم الطعام والدواء
والمأوى.
ونظراً لأن هؤلاء الرهبان الفرسان جمعوا في تنظيماتهم بين الدين
والحرب؛ فقد كانت مراسيم الالتحاق بهم أشبه ما تكون بالانضمام إلى جماعة سرية، بل
إن المحققين من الباحثين يرون أن هذه المرحلة كانت بالفعل منشأً للجماعات السرية
الباطنية التي سيأتي الحديث عنها في مقالات قادمة، بإذن الله. كان الملتحقون بتلك
التنظيمات يؤدون ثلاثة نذور:
-
نذر الفقر.
-
ونذر التبتُّل (الامتناع عن النكاح).
-
ونذر الطاعة (للكنيسة البابوية وقائد التنظيم).
ومن أشهر التنظيمات الكاثوليكية الرومية التي كان لها دور كبير في تعزيز الجيوش
الرومية، بل في قيادتها خمسة تنظيمات:
1 -
تنظيم فرسان مالطة المعروف بـ «الإسبتارية».
2 -
تنظيم فرسان الضريح الأقدس في القدس.
3 -
تنظيم فرسان الهيكل المعروف بـ «الداوية».
4 -
تنظيم فرسان القديس «إليعازر».
5 -
تنظيم الفرسان التيوتون (الألمانيون).
وسأكتفي بالحديث عن تنظيمين فقط من هذه التنظيمات الخمسة؛ لأهميتهما وورود ذكرهما
في بعض المصادر الإسلامية وهما: «الإسبتارية» و «الداوية».
تنظيم فرسان مالطة «الإسبتارية»:
في
عام 1094م شن البابا «أوربان الثاني» الحملة الصليبية الأولى التي كان هدفها الأول
الاستيلاء على الأرض المقدسة. وقبل استيلاء الصليبيين على بيت المقدس عام 1099م
تأسَّس «تنظيم القديس يوحنا» الذي أصبح يُعَرف بـ «تنظيم مالطة العسكري المستقل» أو
«فرسان مالطة» اختصاراً. وبناءً على المرسوم الكنسي الذي أصدره البابا «باسكال
الثاني» عام 1113م انضوى التنظيم رسمياً تحت راية الكنيسة ومَنَح صلاحية اختيار
رؤسائه خلفاً لـ «جيرارد المبارك»، كما أُعفي من دفع رسوم وضرائب كانت تدفعها
التنظيمات الأخرى. وكانت مهمة التنظيم الأُولَى رعاية المرضى والجرحى؛ ولذا عُرِف
باسم «الإسبتارية» (يعني «المتطبِّبة» أو «أصحاب المَشافي»)؛ وهي تسميته في كتب
التاريخ الإسلامي.
وبعد أن أصبح «فرا[1]
ريموند دو بوي» رئيساً و «سيداً» للتنظيم توجه التنظيم إلى السلك العسكري؛ ليكون
حامياً للأراضي التي كان الصليبيون قد استولوا عليها؛ وبهذا جمع التنظيم بين
الأعمال الإغاثية والعسكرية. وكان «فرا ريموند دو بوي» هو الذي اختار للتنظيم شعاره
الذي يدعى «صليب مالطة».
وفي عام 1291م وبعد أن خسر الصليبيون «عكا» استقر فرسان مالطة مؤقتاً في قبرص. لكن
الصلاحيات التي منحت للفرسان من قِبَل البابا، والتي كان منها استقلالهم عن جميع
الدول باستثناء الكرسي الرسولي، وكذا السماح لهم بتكوين قوة عسكرية وشنِّ الحروب،
كل ذلك جعل من فرسان مالطة كياناً مستقلاً. وفي 1310م استولوا على جزيرة «رودس»
وكان رئيسهم إذ ذاك «فرا فولك دي فيلاريه»، فأصبح فرسان مالطة يُعرَفون كذلك باسم:
«فرسان رودس» نسبة إلى الجزيرة. ثم قُسم أعضاء التنظيم الذين توافدوا من أقطار
أوروبا إلى سبع مجموعات (ثم ثمانٍ) حسب اللسان الذي يتحدثه العضو وكل مجموعة كان
لها «أديرة» و «أديرة عظمى» و «إمارات». ثم أصبح لهم أسطول كبير في البحر المتوسط
شارك في كثير من المعارك ضد المسلمين.
وفي عام 1522م هزمهم السلطان سليمان القانوني وفقدوا سيادتهم، فتنازل لهم
الإمبراطور «تشارلز الرابع» عن بعض الأقاليم. وفي عام 1530م استولى سيدهم الأعظم
«فرا فيليب دي فيلييه» على مالطة التي أصبحت وطناً لهم، وعرفوا منذ ذلك الحين باسم:
«فرسان مالطة».
وفي عام 1607م ثم 1620م اجتمع لزعيم التنظيم لقبا «السيد الأعظم» و«أمير
الإمبراطورية الرومية المقدسة». وبقي بهم الحال كذلك حتى نفاهم «نابليون بونابرت»
عام 1798م وهو في طريقه إلى مصر، فآواهم القيصر الروسي «بولس الأول» وجعل نفسه
«السيد الأعظم» لهم، وبقوا في ضيافة بلاطه منذ 1798م. وفي عام 1801م تحالف «فرسان
مالطة» مع التنظيم اليسوعي ولا يزالون كذلك إلى يومنا هذا.
تنظيم فرسان الهيكل «الداوية»: بعد أن استولى الصليبيون على بيت المقدس عام 1099م
بدأ «حجاج» النصارى – على حد دعواهم – يتوافدون على «بيت المقدس» لكن السبل إليه لم
تكن تخلو من مخاطر؛ فكان لا بد من تأمين طريق الحجاج إلى بيت المقدس. عندها اجتمع
عام 1119م اثنان من المحاربين الصليبيين: أحدهما: الفارس الفرنسي «هيوز دي بايان»،
والآخر: قريبه «جودفري دي سان أومير» واقترحا إيجاد «تنظيم» لحماية الحجيج. وافق
الملك «بولدوين الثاني» على الاقتراح واقتطع لهم من أرض «المسجد الأقصى» لبناء
قاعدة لهم. ولتسميتهم المسجد الأقصى «هيكلاً» عُرِفوا باسم: «فرسان المسيحِ وهيكلِ
سليمانَ الفقراء» أو «فرسان الهيكل»[2]
اختصاراً، كما يُعرفون في المصادر العربية باسم «الداوية» ويُذكَرون غالباً إذا ذكر
«الإسبتارية» (فرسان مالطة).
لكن فقر فرسان الهيكل لم يَطُل؛ فقد أسهم القديس «برنارد دي كليرفو» (الذي كان ذا
مكانة في الكنيسة) في حصولهم على اعتراف رسمي من قِبَل الكنيسة في مجمع «تروي» عام
1129م. وبهذا حصل لتنظيم فرسان الهيكل من الامتيازات ما يشبه تلك الامتيازات التي
حظي بها فرسان مالطة، خصوصاً أن هذا التنظيم كان تنظيماً عسكرياً منذ نشأته؛ فكان
بمثابة الخط الأول للدفاع عن البقاع المقدسة بعد أن استولى عليها النصارى. لكن
فرسان الهيكل امتازوا كذلك بالاشتغال بما يشبه الصرافة وأصبحوا يمتلكون ثروة كبيرة
بالإضافة إلى التبرعات التي كانت تعطى لهم؛ حتى إنهم أسسوا شبكة من الصيارفة وأرباب
المال في أوروبا كلها.
ولكن بعد أن هيأ الله لأهل الإسلام من يذب عن حياضه وأذل النصارى على يد صلاح الدين
الأيوبي - رحمه الله - في معركة حطين عام 1187م خسر الفرسان قاعدتهم في بيت المقدس
فترددوا بين «عكا» ثم «طرطوس» بالشام ثم «ليماسول» بقبرص؛ حيث انتقلت قاعدتهم. لكن
نفوذ فرسان الهيكل كان أقوى من أن يبدِّده انتقال القاعدة من مكان لآخر؛ فقد شكلت
الحروب الصليبية بالنسبة لهم مصدر ابتزاز من عامة الشعب المتعاطف مع فرسانه. تقول
«نستا وبستر» نقلاً عن الكاتب الماسوني «بارون تشودي» Baron Tschoudy: (إن الحرب
التي كانت بالنسبة لأكثرية المحاربين مصدر إعياء وخسائر ومصائب، أصبحت بالنسبة لهم
(فرسان الهيكل) مجرد فرصة للغنائم والتعالي. ولئن كانوا ميزوا أنفسهم بأعمال باهرة
قليلة، فإن الدافع لهم لم يعد أمراً مشتبهاً فيه بعد أن رُؤوا يغتنون بغنائم
حلفائهم، ويزيدون رصـيدهم بقـدر ما أمكنهم، ويتعالون لدرجة تضاهي الملوك ذوي
التيجان في الأبهة والعظمة... وأخيراً يتحالفون مع ذلك الزعيم الفظيع المتعطش
للدماء المدعو شيخ الجبل، زعيم الحشاشين[3].
عُرف هؤلاء الفرسان بعبادة إله يدعى «بافوميت» وهو روح إله الشمس «أوزيريس» وهو
«كبش منديس» المعروف في الكتابات الباطنية؛ فهو بهذا إله شمس مطابق لـ «بعل» أو «لوسيفر»
إله الباطنيين. أخيراً: في عام 1307م أمر ملك فرنسا «فيليب الرابع» باعتقال آخر
قادتهم «جاك دي موليه» ومن معه من الفرسان المقيمين في فرنسا، وتبعه البابا «كلمنت
الخامس» فأصدر مرسوماً في العام نفسه يدعو ملوك أوروبا إلى اعتقالهم ومصادرة
ممتلكاتهم. وفي عام 1312م في «مجمع فيان» Council of Vienne صدر مرسومان بابويان:
أحدهما: Vox in excelso «صوت من العلي» جاء فيه «بقلوبٍ تملؤها المرارة والأسى نلغي
تنظيم الهيكل... ونحرِّم إعادته». والآخر، هو: Ad providam الذي قضى بمنح ممتلكات
«فرسان الهيكل» لـ «فرسان مالطة»[4].
هنا انتشر الفرسان في أوروبا وبدؤوا يعملون في الخفاء إلى أن أعيد تنظيمهم ثانية من
قِبَل أسرة «ستيوارت» الكاثوليكية في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن
عشر تحت اسم: «الماسونية»، ولهذا مزيد بيان إن شاء الله.
[1] فرا Fra: لقب كنسي مختصر عن
الكلمة الإيطالية frate، وتعني: «أخ».
[2] وأما تسميتهم بـ «فرسان المعبد» فهو من الخطأ في ترجمة الكلمة الإنجليزية
(والفرنسية) Temple.
[3] Webster, Nesta. Secret Societies and Subversive Movements (BiblioBazaar,
LLC, 2008), pp. 73 - 74.