قبيل العيد

عاد فعدل عن لوم نفسه متأسياً بأن الوقوف على باب المحسن لن يقلَّ إذلالاً عن الوقوف في باب حسن آغا لطلب القرض. ثم ما لبث أن تذكَّر العيدَ القادم بعد أيام والبيتَ الخاوي من كل زاد فطأطأ رأسه وتوقف عن التفكير.


أمسكَ بطنه بشدة خوفاً على جداره أن ينشق فتندلق أمعاؤه على أرض السيارة، تطلَّع في وجوه الركاب يستقرئ الآتي فلم يبالِ به أحد، ألفى بعضهم وقد أخذته سِنة من النوم والآخرين غارقين في جدل ومناقشات يكافحون بها الملل والضجر في ذلك الجو الكئيب.

عباس وحده، كان يغالب الخوف بين تلك المجموعة التي تملأ جوف سيارة (البيك أب) المسافرة إلى قرية العالية على الطريق الجبلي الوعر المحفَّر... حاول التغلُّب على الخوف بالتفرج على الطريق، كان الوادي شديد العمق، قدَّر عباس لو انفجرت إحدى العجلات لتدهورت السيارة وغاب خبرها؛ ستصبح أشلاؤه حينها طعاماً للوحوش، وتبقى زوجته لائبة بين الباب والنافذة وفراش الولد المريض، تنتظر عودته بالمال والدواء.

انحسر الوادي من مجال رؤيته وتعلق بصره في الفراغ، تخيل وجه سالم ابنِه المريض؛ تشويه الحمى، فيجري العرق على جبينه المحتقن يهذي بكلامٍ مفهومٍ تارةً، غامضٍ تارات أُخَر، يطلب الماء البارد... يطلب الموز، يراه معلَّقاً في الدكان قبالة البيت، كلما فتح عينيه ونظر من النافذة خالَه قريباً وهو قَصِيٌّ بعيدُ المنال، يعادل ثمن الكيلو غرام منه أربعة أكياس من خبز تكفي الأسرة مؤونة يومين كاملين، تخيلَ فرحة سالم حين يوقظه ليعطيَه بعض النقود المعدنية ويطعمَه الموز الذي يشتهي، ويسقيَه الدواء... آخ!

رفع عباس يده إلى رأسه يتحسس موقع الصدمة، ثم أعاد النظر ليتأكد من سلامة الموقف، هذا الدرب اللعين مليء بالحفر والمطبات، ما إن تنهض السيارة من واحدة حتى تسقط في أخرى، فترتج بمن فيها، يتطوح الركاب يميناً وشمالاً وهم يتابعون أحاديثهم، الركاب معتادون على هذه الأرجوحة، أما هو فما حسب لها حساباً، فظل رأسه يصطدم بسقف السيارة بعد كل قفزة من تلك القفزات سريعة التتابع.

تمسك بمقعده ومال على جاره يسأله:

- أما تزال قرية العالية بعيدة؟

التفت الجار وتأمله مليّاً ثم أجاب عن سؤاله بسؤالين:

- أذاهب أنت إلى العالية؟ فمن تقصد من أهلها؟

ارتجت السيارة من جديد، ازداد تمسك عباس بمسند مقعده اتقاء لضربة أخرى قد تصيب رأسه، ونظر بهلع إلى الوادي السحيق ثم عض أصابعه ندماً لأنه لم يخبر أحداً عن سفره هذا، لو مات هنا فستحتار أمه وإخوته في البحث عنه، سينتهي كنهاية كلب ضال.

بينما تلتهم الحمى جسد ابنه سالم والكل في شغل عنه بسمل عباس وحوقل، نظر إلى السماء البعيدة يستمد منها العون ويطلب النجاة بقلب خاشع مرتعش، فكر بقرية العالية:

- أما تزال بعيدة؟

فخجل من إعادة طرح السؤال على جاره الذي تجاهله وتجاهل سؤاله... ليت سائق السيارة يسرع قليلاً... لا، ليته لا يسرع حتى يصل ومن معه بسلام... أتراه سيلاقي حسن آغا هناك؟ وإن لقيه، هل سيشفق على حاله ويرحم مرض ابنه سالم فيقرضه بعض المال؟ وهل سيطلب رِبَاً على قرضه إن أقرضه؟

حسن آغا يعرفه كل سكان الحي؛ إذ كان معظمهم فيما مضى فلاحين في أرضه، أما عباس فهو وافد جديد على الحي، تعرَّف على حسن آغا عن بُعد، كان يراه حين يمشي مزهواً منتفخ الصدر، مثل ديك الحبش، يقرع الأبواب بعصاه، ويزمجر مطالباً بديونه، عباس يتوسم فيه الخير رغم كل ما يراه من صَلَفه، ما دام الرجل يطالب بديونه، فلا شك أنه أقرضهم وتأخروا في السداد.

مال عباس مرة أخرى على جاره يسأله، لكن كلامه ضاع، تبدد بين حشرجة محرك السيارة، والركاب ينصتون إلى أحدهم وهو يشيد بمحاسن رجل يسكن قرية تبعد مسير نصف ساعة من هنا، ففي كل عام، وفي مثل هذه الأيام الفضيلة (أيام شهر رمضان) يوزع مبلغاً من المال على الفقراء يفوق ما تتصدق به خمس قرى، يبعثرها كيفما اتفق، ولا يردُّ عن بابه سائلاً أبداً.

بلع عباس ريقه بصعوبة وصار قلبه يضرب بعنف على جدران صدره؛ فها هي الفرصة تأتيه بلا موعد؛ فلْيذهب إلى ذلك الرجل المحسن يطلب منه العون فإن لم يعطه صدقة تكفيه سيطلب منه قرضاً حسناً سيعطيه إيِّاه بلا فائدة؛ من يتصدق في هذا الشهر الكريم لن يقبل أن يتعامل بالربا... سالم يجب أن يشفى يجب أن يعيش فهو الولد الذكر الوحيد وعليه تعلق الآمال والأمنيات... توقف قليلاً يعاتب نفسه:

- أنت يا عباس... أنت تقف على الأبواب كالشحاذين تنتظر الصدقات؟ هانت عليك نفسك يا عباس؟

عاد فعدل عن لوم نفسه متأسياً بأن الوقوف على باب المحسن لن يقلَّ إذلالاً عن الوقوف في باب حسن آغا لطلب القرض. ثم ما لبث أن تذكَّر العيدَ القادم بعد أيام والبيتَ الخاوي من كل زاد فطأطأ رأسه وتوقف عن التفكير.

حانت من عباس نظرة شاردة طافت على أرض السيارة فاصطدمت بمحفظة نقود... فتح عينيه بشدة حملق جيداً... المحفظة حبلى بالأوراق... لا بد أن الحظ يبتسم له ويحميه من الذل والهوان، ولا مبرر الآن للوقوف بباب أحد فالحل هنا قريب جداً تحت قدمَي عباس، المحفظة متخمة، يبدو أن صاحبها ثريٌّ جداً وبضع ورقات يأخذها عباس حلاوة إعادتها له لن ينقص ثروته وعباس لن يسرق المحفظة؛ سيعيدها حتماً بعد أن يأخذ منها ثمن الدواء والموز لابنه سالم وثمن الخبز لبقية العائلة بعد أن يتعرف إلى صاحبها. وإن تأخر أياماً أُخَر فيسحب منها على سبيل القرض مبلغاً آخر يشتري به دقيقاً وسكراً ويصنع الحلوى ليبيعها في العيد، سيحتفظ بربحها لنفسه ليكون رأس مالٍ للحلوى في الأيام التالية. 

صار قلب عباس يضرب في صدره بعنف، ولكن في اتجاه آخر تكوَّر على نفسه وبصرُه مثبَّت على المحفظة لا يفارقها، حرك قدمه، تلفَّت بحذر، دقَّ على ركبته بقبضته، مدَّ ساقاً، طوى الأخرى ليجعل المحفظةَ تحت قدمه والقدمَ الأخرى دريئة تحميها من الأنظار. وصلت السيارة قرية العالية... لا أحد من الركاب يعرف عباساً لذلك لم ينزل بل تابع الانتظار والسيارة تتابع التوقف في المحطات حتى خلت من الركاب التقط المحفظة دسها بسرعة في جيبه تلفت حوله ثم تنفس الصعداء وأشار إلى السائق بالتوقف.

استدارت السيارة وهدرت عائدة من حيث أتت جلس عباس على حافة الطريق مشرفاً على الوادي وأخرج المحفظة المنتفخة ونفسه متحفزة شوقاً وغبطة وراح يفتح أزرار المحفظة واحداً واحداً على مهل.

كانت المحفظة مليئة بالفواتير ما فيها درهم واحد! صفعته المفاجأة، ترك المحفظة على طرف الدرب ونهض بفتور، نظر إلى الغرب كانت الشمس جمرة ملتهبة توشك على السقوط للانطفاء في ماء البحر. أسند يديه على خاصرتيه وسار متجهاً إلى منازل القرية محاولاً ابتلاع خيبته وخزيه، كان الطريق الزراعي خالياً من المارَّة فالناس في رمضان يعودون إلى بيوتهم باكراً. حمل عباس يأسه ومرارته ومشى متثاقلاً على الدرب المحجَّرة لعله يلتقي بإنسان فيسأله أي القريتين أقرب إلى موقعه: قرية حسن آغا، أم قرية ذلك المحسن...؟

لقد أنسته أحداث الساعة الماضية نفسه فلم يسأل عن اسم ذلك المحسن ولا اسم قريته، تابع السير ذليلاً خجلاً ودخل القرية يطلب عشاءً ومأوىً ليبدأ في صباح الغد رحلة جديدة.

 


أعلى